يبدو أنَّ التصوُّر الذي رسمته الشعوب حول دَوْر منصَّات التواصل الاجتماعي في مساعدة العالم في نقل قِيَم الأمن والسلام والإنسانية والتنمية والتعارف والحوار والتعددية والتسامح والوئام والعيش المشترك، واحتضانها واستيعابها بما يضمن تشجيعها على الاحتفاظ بهُوِيَّتها ومبادئها وأولوياتها لتقوية مشتركات العمل معًا وضمان فرص التقاء أوسع لمواجهة التحدِّيات الفكرية والطائفية والنزعات الذاتية، وما أفرزته النزاعات الدولية وحالة عدم الاستقرار والثقة من تحدِّيات مصيرية، باتت تهدِّد العالم في المياه والطاقة والجرائم والمخدرات والفقر والجوع والغذاء وغيرها من نقاط التماس المشتركة؛ ذلك أنَّ ما تعكسه تصرفات مستخدمي المنصَّات الاجتماعية ودخول الحسابات الوهمية والتجييش الإلكتروني والمحرِّضين والغوغائيين والسلبيين والناقمين على الحياة ودعاة الحريات والأيديولوجيات من خروج عن المسار، وانحراف في البوصلة، واندفاع في السلوك، واختزال لمنابع القِيَم، وحالة التهور والاندفاع والسطحية والتعنُّت، لتتجه بالعالم إلى مرحلة تتوقف فيها كُلُّ الحلول، وتغلق فيها كُلُّ البدائل، وكأنَّها لعمري الحقّ حرب مسلَّطة على كُلِّ القِيَم الإنسانية والأخلاق العالية والمبادئ السَّامية، وإشهار السيف على الفضيلة، وأفقدت حالة التراشق الفكري ولغة الفوقية الكلامية العالم توازنه، وحالة التنمر على القِيَم ومحاولة إسقاطها من قواميس الشعوب، وتفتيتها من قواعد الالتزام والعمل، وتحويلها إلى فسحة للنزال والنزاع والعراك والخروج عن مألوف الطباع، حتى أصبحت المنصَّات الاجتماعية تهديدًا للهُوِيَّة وانصهارًا للشخصية وخطرًا يلازم القِيَم والمبادئ والأخلاقيات، في ظلِّ فراغ الضوابط وغياب الضمير المسؤول بما يطرحه موضوع نفوق القِيَم في المنصَّات الاجتماعية من معالجات متعمقة حول السبيل لحماية القِيَم من غوغائية البشر وتدخُّلاتهم وتسلُّطهم على الموروث القِيَمي والأخلاقي وأرصدة النجاح التي تحققت للإنسانية في فترات متعاقبة.
وبالتالي ما إذا كان هذا التباين السحيق في العلاقة بين المنصَّات الاجتماعية والقِيَم، يرجع إلى النزعة المفاهيمية التي اتجهت نحو التعقيد في قراءة القِيَم وسط البحث عن المثالية، بالإضافة إلى فجوة الممارسة الناتجة عن ضعف مستويات التقارب بين التنظير القِيَمي والممارسة العملية المجسِّدة لروح القِيَم وفضائل الأخلاق متَّخذة من منظور الحلال والحرام طريقها في التفسير وفهم مقتضيات النصوص والتشريعات، والتشوّهات التي أدخلت عليها بسبب الافتقار إلى وضوح الموجِّهات وغياب الأُطر وفراغ الضوابط التي تحمي القِيَم والأخلاقيات، وحالة التشويه التي تواجهها بالقول والفعل بسبب غلبة العادات المادية وتصدرها المشهد في ظلِّ التوجُّه نحو الإعلانات التجارية والترويج للسلع ومظاهر الكسب السريع التي اتَّجه إليها مستخدمو هذه المنصَّات في ظلِّ فراغ المحتوى وتركيزه على أنشطة التجميل والموضة والرشاقة، وما ارتبط بها من نزعة مفاهيمية غير قادرة على إجلاء الصدأ عن بعض المفاهيم المتداولة والأفكار المنتشرة والمعلومات المروّجة، وسرعة الأحكام التي تصدر حولها، وكثرة الأغلاط بشأنها وتداولها بِدُونِ أيِّ تمحيص، ناهيك عن المعلَّبات الفكرية التي باتت تشوِّه صورة القِيَم وتصنع منها مبررًا للتخلُّف والانكسار والانغلاق.
على أنَّ اتساع ظاهرة التنمُّر السياسي والتعصُّب الفكري ومصادرة الرأي في المنصَّات الاجتماعية والأيديولوجيات التي تتَّجه إليها، والصورة القاتمة التي باتت تفصح عنها، وغيابها في حوار مستخدمي هذه المنصَّات، وما أوجدته من تكريس لغة الأنانية والاختلاف في الرأي، وسلطوية التفكير وعقم الأساليب، واستخدامها وسيلة للتشفِّي من الآخر أو إلحاق الضرر به والسِّباب والشَّتم وغيره رسم اليوم صورة أخرى لهذه المنصَّات في عدم قدرتها على تخليص العالم من أزماته الفكرية، بما يؤسِّس اليوم للحاجة إلى تحوُّلات في مسار عملها ودعوتها نحو إعادة إنتاج القِيَم الإنسانية العالمية المشتركة وتعظيم حضورها وتقوية برامجها والتوسُّع في النماذج العالمية المعبِّرة عنها والضامنة لتحقُّقها في إطار من الحقِّ والعدْل والمساواة، ووضعها كمعيار أساسي في السياسة والاتفاقيات والمعاهدات والعلاقات الدولية، وهي معطيات تضع العالم أمام مسؤولية أخلاقية وإنسانية في التعامل معها بعمق، والاحتكام إليها بوعي، في الانتصار لنهضة ضمير القِيَم، بحيث تجسِّد معانيها في مبادئه وسياساته وممارساته ومنظومة قراراته وتخلِّيه عن سياسة الكيل بمكيالين وفرض سلطة الأمْر الواقع، وفي التعامل مع أزماته وأحداثه ومستجدَّاته وتحدِّياته، ليفهم خلالها موقعه، ويعي دَوْره، ويغتنم فرصة التطوُّر الذي يشهده، في ظلِّ نواميس القِيَم وموجِّهاتها الرشيدة الضابطة للممارسات والمقنّنة للأدوات، والداعمة لفرص التمكين للإنسان في الأرض وحقِّ الحياة والعيش بسلام.
ومع الإيمان بأنَّ المحافظة على استدامة القِيَم واستمراريتها لم يَعُد اليوم حالة مزاجية أو سلوكًا فرديًّا، بل إنَّ الكثير من المجتمعات وبشكلٍ خاصٍّ الآسيوية منها ـ والتي أصبحت مثلًا للعالم المتحضِّر اليوم ـ جعلت منها محطَّة لتعزيز الاقتصاد وتنمية الابتكار وإدارة هياكل معامل الإنتاج، ومحطَّة التقاء مختلف الثقافات والفرص لضمان توجيه القِيَم واستنطاقها لتعزيز الاقتصاد وبناء منصَّات الإنتاج وحَقْن الممارسات المرتبطة بالتحوُّلات التي يشهدها العالم للقناعة بأنَّ مَن يحملون القِيَم ويُحلِّقون بها في فضاءات الحياة سوف يكون في مقدورهم صناعة الفرص وإنتاجها؛ كونها الحافظ لهم من الانحراف والدافع لهم نحو العطاء والمُجدِّد لِما يمتلكونه من مهارات وقِيَم ومبادئ ستظلُّ سياجًا لهم في توجيه البوصلة والحدِّ من التجاوزات والانحرافات التي قد تضيع بريق القِيَم وتعصف بها رياح التغيير وتقودها الحركات التحريضية التي باتت تسيء إلى القِيَم وخصوصيات الشعوب، وتضع القِيَم أمام حالة من التضارب والاختلاف والخلاف بين البَشر بينما هي في الأصل مشتركات إنسانية تجمع الناس على حسِّ الوفاق وصدق الالتزام وتآلف المشتركات.
وعليه، لم تكُنِ القِيَم موجِّهات تعبيرية مجرَّدة تغرِّد خارج السرب، بقدر ما هي نماذج حياتية تنشط ملكات الإنسان وقدراته، وطاقة داعمة تدفعه للقمَّة، وترقى به نحو علياء الشموخ، عبر البحث عن سلَّم الأمن والسعادة، ومنطق النجاح والريادة، والبناء والتنمية، ليواصل بها الإنسان مشوار وجوده في الحياة على بصيرة من الأمْر، يبني خلالها ذاته وينطلق ليتفاعل إيجابًا مع عالمه، فتُكسبه قوَّة في الضمير، وإخلاصًا في العمل، وتخلق منه إنسانًا آخر، يمتلك حكمة الرأي، وسلامة الفكر، وسلاسة التعامل، وسُموَّ الخصال، ورُقيَّ الأفكار، حتى تنطبع على سلوكياته وأفكاره وقناعاته وقلبه وعقله وقلمه وبنانه ولسانه، لتبني فيه حياة الشغف والمبادرة والقدوة والمغامرة والبحث، فيقوى حضورها في نفسه، ويتأصَّل منظورها المتسامح، وغايتها المتسامية، وأولويتها المتناغمة مع رغباته العليا، تصقل مهاراته، وتبني شخصيته، وترقى بفكره، وتنهض بسواعد العطاء لديه، وعندها سيتَّجه في استخدامه لهذه المنصَّات الاجتماعي بكُلِّ مهنية وحُسن خلق، ويتفاعل مع تفاصيلها مستحضرًا دَوْره الأخلاقي ومسؤوليته في عالم كوني لا يستقيم نجاحه إلا بتكاتف الجميع واحترام المسؤوليات وتقدير الفكر الإنساني الرصين.
من هنا كانت غربة القِيَم كارثة إنسانية، ونفوقها جريمة تختزل كُلَّ معاني الحياة الجميلة، وأذواقها المتنوِّعة، وترسم علامات الحزن والكآبة والألم في المجتمعات التي وصلت فيها القِيَم إلى حدِّ الغربة، وانتزعت من ضمير الإنسان مسارات بقائها، ومُقوِّمات ثباتها، ومدخلات التغيير فيها، فضاقت بسبب نفوقها حياة الناس، وأثَّرت على طموحاتهم وقناعاتهم وإنجازاتهم ومفاهيم الحياة القائمة على التكامل والتعاون والحوار، وتحوَّل الطموح إلى تجاوز واستهتار على حساب الوطن والأخلاق والفضيلة، وقد يحصل عليه أحدهم عبر سلطة القسوة والتدمير وإغراق الأوطان بالمخدرات، ضاربة بالصفح والتسامح والحوار والتصالح عرض الحائط، لتعيش الإنسانية على الرغم مما تنعم فيه من خيرات وتقدُّم علمي وتكنولوجي في مجالات التقنية والطب والهندسة والأحياء والعلوم والفضاء، حياة الرعب والخوف، وفقدان الثقة وضعف مبدأ الحوار، في ظلِّ انعدام تحقيق معادلة التعايش، والتخلِّي عن مسألة قسوة السُّلطة وعظمة الأنا، والاعتراف بالآخر، وجَلد الذات أو الوصول إلى حلول متكافئة لقضايا الإنسان في أمنه وبيئته وطعامه ومائه وفضائه؛ لِتدُور كُلُّ المحاولات الترقيعية أو الحلول التصحيحية إن وجدت، في دائرة ضيقة عنوانها المصالح، وأسلوبها تعميق الخلاف، وإشعال الفتنة والإشاعة، في ظلِّ أفكار سلبية، وقناعات معادية للحياة، وتناقضات تضع الشباب ـ أكثر الفئات ارتباطًا بالمنصَّات الاجتماعية ـ في حيرة من أمْره واختلال في البناء الفكري لديه.
أخيرًا، يبقى على حكماء العالم وقياداته المعتدلة والأُمم المتَّحدة والمنظمات الدولية الرسمية وغير الرسمية المعنية بحقوق الإنسان والتربية على المواطنة والمعنية بمتابعة برامج العقد الدولي للتنمية المستدامة ومبادئها، البحث في إيجاد ميثاق أخلاقي للمحافظة على القِيَم العالمية كمشتركات لبناء عالم السلام والمَحبة، وإعادتها إلى حظيرة الاعتراف والتأسيس لها لنيل الاستحقاق، في ظلِّ حياة آمنة مطمئنة تحتضنها القِيَم وتديرها الأخلاق وتبنيها المبادئ الراقية، في مواجهة حالات الترويع والإرهاب وغلبة المصالح، عبر الاهتمام بالقِيَم، منطلقًا لمبادئه وسياساته ومنظومة عمله وطريقة تعامله مع الأحداث الدولية والنزاعات الإقليمية، وفي صياغة منظومة القرارات الدولية، ومبادئ السِّلم والتعاون الدولي، لتصبح محور عمل أجندته الإعلامية والتعليمية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية والتقنية.
د.رجب بن علي العويسي