ينطلق طرحنا للموضوع من فرضية الدَّور المحوري الذي تؤدِّيه الدراما ورسالة الوسط الدرامي الفني من ممثِّلين ومخرجين وكتاب سيناريو في حياة المجتمعات، ليمارس العمل الدرامي دَوره في نقل الصورة المعايشة، وإعادة إنتاجها في ظلِّ المحتوى الثقافي والفكري والقِيَمي الوطني بشكلٍ يحمل معه الكثير من الآمال والأحلام والفرص في قادم الوقت، وعبر مشاهد تمثيلية ومحاكاة للواقع لمزيد من الإصلاح وتوجيه الأنظار إلى أفضل الممارسات وأنصع القِيَم والأخلاقيات، لذلك أضحت رسالة الوسط الدرامي الفني، أمام تقييم مستمرٍّ لنواتجها وتأثيرها في حياة الناس، والبصمة التي تتركها في واقعهم، ومستوى التفاعل الذي تصنعه من خلال احترافية هذا الوسط الدرامي بكُلِّ فئاته وامتلاكه رصيد قوة وتقدير اجتماعي واحترام ثقافي، ولتصنع رسالة الوسط الدرامي لنفسها نموذجًا للتغيير الذي يحترم عقله وفكره ويراعي مشاعره وأحاسيسه ويحفظ مبادئه وقِيَمه وهُوِيَّته وتاريخه، فهي أبعد عن الإضرار به أو الإساءة إليه، فكانت رسالة الوسط الدرامي الأصيل وأشكالها التعبيرية والثقافية والفنية المختلفة، رسالة الإنسان المتسامح والمتعاطف مع كُلِّ النماذج الحياتية، أو الحالات التي تستدعي منه الوقوف عليها والتأمل فيها والنظر في صورة الأمل التي تطبعها على وجوه الفقراء والبائسين.
إنّ العمل الدرامي بذلك له أصوله وقواعده ومفاهيمه ومرتكزاته، متخصِّصوه ومُريدوه، ولا يتقنه إلَّا الراسخون فيه والقائمون عليه عبر إعداد كوادر وطنية تتقن العمل الدرامي الأصيل وتتجلى فيها موهبتها وقدرتها على تقديم محتوى لائق يحترم جمهوره ويجسِّد في شخصيته عنوان الإنسان المنتج والمواطن المتزن، يعكس عمله هُوِيَّة مجتمعه وأخلاقه، ويقدِّم نموذجًا من الروح الإنسانية الراقية والعمل الدرامي المبدع الذي يتجاوز الشكليات إلى البحث في الجوهر وصدق الضمير الحي الذي يعكس واقعه الذي يعيشه بكُلِّ فخر واعتزاز لا يتنصل من قِيَم مجتمعه، يسلط الضوء على حياة الناس الكادحين والعاملين المخلصين والباحثين والمسرَّحين وقضايا المجتمع الاجتماعية والاقتصادية والفكرية والثقافية والعادات والتقاليد والممارسات والتفاعلات وتأثير التقنيات وتوظيف المنصَّات بأسلوب يحمل حسَّ المعالجة وروح الفكاهة وأهمِّية القِيَم ويخلد في ذاكرة المجتمع مواقف مضيئة ومعالجات مشرفة ويجيب عن تساؤلات، كثيرًا ما يثيرها المجتمع حول واقع الدراما العُمانية، وهل استطاعت فعلًا أن تصل إلى ثقة المواطن العُماني وقناعته وتحظى باستجابته واعترافه ومشاهدته؟ وهل هي قادر اليوم في ظلِّ وجود تنوُّع في الخيارات واتساع في الفرص ومساحة واسعة من الطموحات المتعاظمة التي وضعتها رؤية عُمان 2040 في مستهدفاتها؟ والمنطلقة من تأكيدها على أهمِّية صناعة الرأسمال البشري، المؤمن بما تحمله رسالة الدراما، والقادر على امتلاك الأدوات والمهارات في ظلِّ الممكنات والمحفزات التي يجب أن تعظِّم من دَور الدراما العُمانية في قادم الوقت.
وبالتالي ما يعنيه ذلك من أنَّ بناء دراما حقيقية، ووسط درامي محترف يتمُّ عبر التأصيل العملي لهذا الفنِّ، وتعظيم حضور هذا التخصُّص أو توجيه مخرجات التعليم ممَّن يمتلكون الخصائص الدرامية إليه للدراسة في جامعات العالم وأكاديمياته المتخصِّصة، وهو عمل بحاجة إلى مزيدٍ من التقنين والجهد والتأطير ليكون النتاج والثمر الناتج ذائقًا في جمالياته وطعمه، إنَّها رسالة نؤكد من خلالها على أنَّ العمل الدرامي الأصيل لا يتمُّ عبر الزجِّ بناشطي المنصَّات الاجتماعية؛ فإنَّ التأثير السلبي المتوقع من دخول هذه الفئات أكبر من إيجابيته؛ ذلك أنَّ الدراما الحقيقية قائمة على مستوى التقدير والاحترام الذي يُولِيه المجتمع لمَسيرة الفنَّان أو الوسط الدرامي الممثل والمخرج وكاتب السيناريو، في حين أنَّ هذه الفئة لا تمتلك في أغلب الأحيان تلك الصورة المأمولة، واتجاهها نحو عالم الدعاية السريعة والإعلانات التجارية لمنتجات تجميلية أو استهلاكية، الأمْرُ الذي يعني انخفاض التقدير الاجتماعي الذي تحظى به في هذا الاستحقاق الذي يمنحه المجتمع للفنِّ الأصيل والدراما الأصيلة، خصوصًا في ظلِّ غوغائية هذه المنصَّات وافتقار أغلب الداخلين إليها لروح المبادرة والتضحية، وحسِّ التجديد وشعور المواطن المسرَّح من عمله والباحث عن عمل، والأُسر المُعسرة وغيرها كثير، وغياب مساحات التقنين والمعايير وفرض الشروط والمواصفات على الداخلين في مجال الدعاية والإعلان، حتى أصبح مساحة للتجارب وفرصة للشهرة والكسب السريع، ولم تعد المسألة قائمة على مواصفات شخصية أو أخلاقية أو مهنية معيَّنة بقدر ما هي ظاهرة صوتية ودعاية كلامية تفتقر إلى المحتوى اللائق، بما يفقدها قالب الاتزان وابتكارية الفكرة، هذه الصورة البرجوازية التي يعيشها مشاهير الفلس وناشطو الدعاية والإعلانات التجارية، الباحثون عن الشهرة والغارقون في الوساطة المالية، لا يمكن أن تصنع منهم قوة في الوسط الدرامي الأصيل، وتمثيلهم لشخصيات أبويَّة وقيادية ودينية ووطنية واجتماعية أو فكرية ذات شأن مجتمعي وحضور اجتماعي.
وإذا كانت الدراما تحمل في ذاتها أبعادًا إنسانية راقية ومسؤوليات اجتماعية وأخلاقية، فإنَّها لا تعني فقط إضحاك الجمهور أو تقديم محتوى فكاهي، بل هي لصناعة نموذج وإنتاج قدوات، وتصحيح ممارسات، وتوجيه الناس إلى محطَّات التغيير القادمة، وإعادة إنتاج فكر المواطن وتغيير قناعاته لتنسجم مع روح المجتمع وجوهر المبادئ والثوابت العُمانية، ولتنسج الدراما الأصيلة خيوط اتصال بين الماضي والحاضر والمستقبل، منطلقة في ذلك من امتلاكها زمام التأثير والاحتواء، ونشر الوعي، وترسيخ القِيَم، واحترام المبادئ، وتقدير المسؤوليات، ورفع سقف التوقعات وصناعة القدوات، يقوم على رعايتها أصحاب المبادئ والموجِّهات ومن يحملون في رسالتهم أوجاع الناس وظروفهم وهمومهم، فيتعاطون معها بمنهجية عالية، وفقه في السلوك الأدائي الذي يضمن مزيدًا من الفهم والوعي والحكمة والتريث، ويتعامل معها بمنظور مجتمعي يحمل رسالة الإنسان ويفتح آفاق الحياة لا يبغي بذلك شهرة ولا مالًا ولا كسبًا، بل يحمل رسالة العدالة والنظام وحُب الخير والمعروف وتطبيق القانون؛ ما يؤسِّس في متابعيه حسَّ الشعور، وتناغم الأفكار، وصدق المشاعر التي تبرز في رفع درجة الاستحقاق والتقدير التي يحظى بها الفنُّ الأصيل، وهو الأمْرُ الذي لا يتقنه من يبحون عن الدعايات السريعة، والإعلانات التجارية، والمكاسب الوقتية، والمتسلقين على المعرفة، فأقرب ما يقومون به تجييش متابعيهم لسلعة ما أو منتج تجاري معيَّن، بعيدًا عن مساحة القِيَم والمبادئ والأخلاق التي يحملها الفنَّان الأصيل ويتعايش معها الممثِّل المُلهم ويجسِّدها في أدواره المختلفة، فهل يستوي من يبغي من دعايته تحقيق الربح وتوجيه الناس إلى شراء منتج أو التسويق له: مع من يحمل صدق المبدأ وحسَّ الضمير وثقافة الإنسان، ويتمثل أخلاق العلماء وسلوك المتعلمين ويجسِّد شخصيات العاملين الكادحين والمناضلين في الحياة؟
عليه، آن الأوان لنصنع للدراما العُمانية موقعها في قلب المواطن وحضورها في قناعاته، وحشد الجهود الوطنية للمراجعة والتقييم؛ لِما تحتاجه من أجل إصلاحها، وبذل المال من أجل إنتاج قدوات درامية قادرة على صناعة التأثير وإبراز الأثر، فإنَّ الاتجاه نحو الزجِّ بمروِّجي الدعاية والإعلانات في هذا العمل الحضاري الإنساني التنموي، سوف يولد حالة من عدم الثقة في المنتج الدرامي، ويقتل روح الإبداع والابتكار والتجديد في الفئات الدرامية الشابة المتخصِّصة، ويقتل المواهب الطلابية في مراحل التعليم المختلفة والتي بحاجة اليوم إلى الالتفات إليها في ظلِّ إعادة قراءة دَور التعليم في الإنتاج الثقافي، وعبر استنطاق المواهب الطلابية، واستنهاض من يمتلكون روح الدراما ويحملون أخلاقياتها ومبادئها ويعكسون قيمتها، بما يؤكد على أنَّ الرهان الأكبر في تحسين صورة الدراما العُمانية يجب أن يبدأ بتأهيل وصناعة وإنتاج القدرات العُمانية في قيادة العمل الدرامي؛ إيمانًا بأنَّ المدارس هي من تصنع الممثِّل والمنتِج والمخرِج والشاعر والقائد، ويبقى حجم الاهتمام الذي يحظى به البُعد الثقافي في المدارس والجامعات، وعمليات التأهيل والتعليم والتدريب والصقل والتربية والتحفيز، والتأصيل الفلسفي والمفاهيمي للدراما العُمانية الطريق لإخراجها من سباتها العميق الذي طال انتظاره.
من هنا نعتقد بأنَّ تحقيق مستهدفات رؤية عُمان 2040 في العمل الإعلامي القائم على الاحترافية والتنوُّع والشفافية والوضوح والتأثير الاحتواء، وإعادة إنتاج الوعي الاجتماعي، والاستثمار في إنتاج أشكال التعبير الفني والإعلامي، وتعظيم دَور الإعلام الوقائي والقادر على ترسيخ الوعي والذي تُشكِّل الدراما إحدى قنواته، يستدعي اليوم مراجعة جادَّة لمسار الدراما العُمانية وتصحيح مسارها وتمكينها من صناعة الفارق لتقديم إنتاج عمل درامي مستدام ولائق وقادر على حشد الاهتمام من المتابع والمشاهد في الداخل والخارج، وتقديم نموذج درامي يعكس روح التحوُّلات في المجتمع ويعالج القضايا والهواجس بأسلوب احترافي درامي، ورسالة فنية متماسكة القوالب، متناغمة الأُطر مع مختلف الأنساق الاجتماعية والاقتصادية في المجتمع، فمع الاحترافية المطلوبة تبقى صناعة المنتج الدرامي الوطني أولوية والمحافظة على أدائه واستمرارية عطائه وتقديم الحوافز له مساحة أمان، قد تعيد للدراما العُمانية حضورها في المشهد الوطني القادم.
أخيرًا.. هل نحن جادُّون فعلًا في الانطلاقة بالدراما العُمانية إلى سلَّم التقدير، ومراكز التتويج، وفرص المنافسة، وصناعة محتوى درامي احترافي نوعي يمتلك حسَّ التغيير وروح التجديد ويعكس نهج التوازنات في المجتمع في معالجة التحدِّيات وإبراز الطموحات، لتقف على المطبات كما تصنع من الفرص منصَّات قوة، دراما تحفظ الهُوِيَّة وتتقاسم المشتركات، وتبرز الوجوه المضيئة والناشئة المحافظة على أصالتها وهُوِيَّتها؟ فإنَّ الزجَّ بفئات أخرى في غير موقعها قد يفقد هذه الدراما بريقها ونظارتها، كما يفقدها قيمتها وحضورها واحترامها وتقديرها من الجمهور، فهل سنكرر هذا الخطأ بحجة البحث عن وجْه جديد على الشاشة الفضائية ـ الوجْه الجديد بدون مواصفات قياسية ومعايير مطلوبة ـ باللجوء إلى مروِّجي الدعايات ومساحيق التجميل لنقدِّمها للمجتمع كوجْه درامي تغييري قادم، نحن لا نريد أن تحمل الدراما تناقضات السلوك في ذاتها، بقدر ما نريد دراما عُمانية تستفيد من الواقع الدرامي العالمي المتطوِّر مع المحافظة على خصوصيتنا الوطنية، لتعيد إنتاج الواقع من جديد، والذي تتَّجه فيه القوة وكُلُّ القوة للمبادئ والقِيَم والأخلاق في مواجهة الغوغائية والفردانية والشهوانية والسُّلطوية والمزاجية والأنانية .
د.رجب بن علي العويسي