السِّياحة العُمانيَّة بما ارتكزت عليه في فلسفة عملها من مبادئ أصيلة وقواعد سلوكية حاكمة، وآليَّات وأدوات وموجِّهات عبَّرت عن أخلاقيات الإنسان العُماني، وعبَّرت عن المحكَّات الحضارية والإنسانية التي عاصرته، واعتمدته من أُطر واستراتيجيات انطلقت في الأساس من الثوابت العُمانيَّة وقِيَم المجتمع العُماني وهُوِيَّته، فكان نهج التوازن بين الأصالة والمعاصرة، والخصوصية العُمانيَّة والمتغيِّرات والمستجدَّات الذي اختطته السِّياحة العُمانيَّة في عهد المغفور له بإذن الله تعالى حضرة صاحب الجلالة السُّلطان قابوس بن سعيد ـ طيَّب الله ثراه ـ والذي جعل من السِّياحة انتصارًا لقِيَم المجتمع وأخلاقياته ومحطَّة لإعادة إنتاج الفرص السياحيَّة، وتعزيز حضورها في التنمية الاقتصاديَّة والاجتماعيَّة والعمرانيَّة والثقافيَّة والبيئيَّة في ظلِّ شواهد نسجت خيوط الترابط بين الماضي والحاضر والمستقبل.
لذلك لم تكن السِّياحة العُمانيَّة حالة طارئة أو مسارًا وقتيًّا للحصول على المكاسب الماديَّة وإثراء موازنة الدولة، بقدر ما كانت مسارًا حضاريًّا ارتبط بكُلِّ أبجديات التنمية الوطنيَّة ورافق فرص التحوُّل الحاصلة في المُجتمع العُماني، لذلك ظلَّت محافظةً على التراث آخذة به، ساعيةً لتوظيفه، في توازن يحفظ القِيَم العُمانيَّة حضورها والثقافة العُمانيَّة موقعها، انعكس ذلك على البنية العمرانيَّة والذائقة الجماليَّة التي تفرَّدت بها في بساطة الأشياء، ما دامت تقدِّم للسائح حضورًا فريدًا وروحًا متجدِّدة، بعيدًا عن صخب ناطحات السَّحاب والأبراج العالية، لذلك كانت أبعد من أن تكون سببًا لتشويه صورة الهُوِيَّة والثوابت العُمانيَّة، أو أن تكون ورقة ضغط سلبيَّة يراد منها محاولة تشويه الأخلاق العُمانيَّة، بل هي مبادئ أصيلة امتزجت مع التربة العُمانيَّة الطيِّبة والأرض العُمانيَّة العصماء وجبالها وسهولها ووديانها وصحاريها وقلاعها وحصونها وأنماطها الثقافيَّة وتنوُّعها التضاريسي لتُشكِّل جميعها مائدة سياحيَّة متجدِّدة، في وجْه التغييرات السلبيَّة والأفكار الأحاديَّة والفرقعات الصوتيَّة الإعلاميَّة، للقناعة بأنَّ قدرة السِّياحة على إثبات بصمة حضور لها في واقع الإنسان وتجسيدها في حياته وسَبر تفاصيله اليوميَّة. يظهر ذلك في التراث المادِّي بما فيه من قلاع وحصون ومساجد وبيوت أثريَّة سطَّرها العُماني على مَرِّ التاريخ بأحرُفٍ من نور فكانت بذلك طريق المُجتمع إلى التواصل والتكامل مع الآخر، وعبَّرت في ذاتها عن العبقريَّة الاستراتيجيَّة، والهندسة العُمانيَّة التي شيَّدت القلاع وشقَّت الأفلاج لتكُونَ معالم حضاريَّة وشواهد سياحيَّة راقية، وينطبق ذلك أيضًا على التراث المعنوي بما أنتجه من علماء ومبتكرين وروَّاد حضارة، وما أفصح عنه من إرث حضاري وثقافي وفكري متوازن انطلق حاملًا معه القِيَم والأخلاق إلى حيث استقرَّ الإنسان.
لقد تأصَّلت معايير قدرة السِّياحة على تحقيق الاستدامة وصناعة الفارق في الثقافة العُمانيَّة وجسَّدت شخصيَّة العُماني في حميميَّة تواصلها وتآلفها وتكيُّفها مع الآخر، روح السِّياحة وسِر نجاحها، فمع وجود الأمن والأمان والاستقرار تأتي قِيَمة التواصل الثقافي والحوار الاجتماعي وقِيَم التعارف والتسامح والتعايش والوئام، خيوط اتصال يشعر السَّائح خلالها بأنَّه يعيش في بلد يحترمه ويحتوي أفكاره، ويقدِّم له الخدمة السياحيَّة بطيب خاطر وبلغة تعلوها عبارات التقدير وأصول الاحترام، الأمْرُ الذي يصنع من السِّياحة العُمانيَّة نموذجًا حضاريًّا عالميًّا في المنافسة وإنتاج القِيَم وصناعة اقتصادها، لتنسج خيوط اتصال مع مختلف حضارات العالم وثقافاته، محافظةً على البناء الفكري المتزن للعُماني في مواجهة التشدُّد والأيديولوجيات ومصادرة الفكر، لتؤسِّسَ قِيَم الحوار والتعايش مع الآخر، وحُسن التعامل معه، والتفاعل الثقافي، والتواصل الحضاري مع كُلِّ القادمين لهذا الوطن، مساحات قوَّة، تضع عُمان محطَّة سياحة المستقبل تستوعب كُلَّ شعوب العالم المُحبَّة للسلام والتنمية.
وبالتَّالي فإنَّ التفكير في التطوير السياحي وتحسين دَوْر السِّياحة في تعزيز الاقتصاد الوطني، وتأكيد دَوْر السِّياحة الوافدة في رفد الاقتصاد وتحقيق الإنتاجيَّة لا يرتبط بالضرورة بالتنازل على الثوابت التي آمنت بها السِّياحة العُمانيَّة والتصقت بها فكرًا وفلسفة، وشرعةً ومنهاجًا، أو آمن بها المُجتمع عقيدةً ومبدًا، وثقافةً ومحتوًى وسلوكًا، لذلك يصبح أيُّ تفكير يصنع من السِّياحة مدخلًا لغربة القِيَم العُمانيَّة أو محاولة التأثر فيها أو زعزعة الثوابت أو فرض لغة سياحيَّة جديدة تقوم على استيراد الصورة السياحيَّة المبتذلة المُشجِّعة للخنا والخواء، والمؤصِّلة للانحراف، والدَّاعية للانسلاخ والعُري، إنَّما هي دعوة إلى مصادرة التفكير، والخروج عن الثوابت، وغياب المسؤوليَّة وانتقاص للمبادئ، الأمْرُ الذي سيكُونُ له تداعياته السلبيَّة على الأمن الاجتماعي التي يُشكِّل السلوك العامُّ والالتزام أحدَ أهمِّ أعمدته، كما ستكُونُ لها تداعياتها على الأخلاق الثوابت والأصالة والقِيَم العُمانيَّة، والصورة التي سينشأ عليها الجيل القادم وسلب قدرته على التأثير في واقعه، وإثبات بصمة حضور له في عالم سريع التغيير لا تكون فيه القوَّة إلَّا لمَنْ يمتلك العِلم والمعرفة والإرادة والحكمة وأعمدة الاقتصاد وأنماط الإنتاج، فيؤثر في الآخرين بقوَّة إرادته وصوت الحقِّ الذي يصدع به والثوابت والمبادئ التي يؤمن بها، كما لا يمكن التفكير في أيِّ تطوير سياحي منتج قادر على أن يستلهم من مَعين القِيَم والأخلاق ذائقته السياحيَّة؛ في غياب قواعد السلوك السياحي الأصيل، ومعايير الذَّوق الوطني والآداب العامَّة، ويضع للهُوِيَّة السياحيَّة موقعها وحضورها في كُلِّ تفاصيل العمل الوطني والمشروعات والمبادرات السياحيَّة.
لقد جاد عاطر النُّطق السَّامي لمولانا حضرة صاحب الجلالة السُّلطان هيثم بن طارق المُعظِّم ـ حفظه الله ورعاه ـ ومنذ تَولِّيه مقاليد الحُكم في البلاد، بعُمق حديثه ومزون كَلِمِه عن القِيَم العُمانيَّة الأصيلة وما يرتبط بها من مفردة الأخلاق والهُوِيَّة والثوابت والمبادئ العُمانيَّة، بما يحمله من دلالات وما يرسمه من خطوط عريضة وخريطة للعمل الوطني المسؤول الذي يرتكز على القِيَم والمبادئ العُمانيَّة؛ باعتباره روح التغيير ونبض الوطن ونهج الانطلاقة، وما تبرز في أصالتها من مرتكزات، وتؤسِّسه في جوهرها من موجِّهات، في ظلِّ عالم يموج بالتحدِّيات الفكريَّة والتشوُّهات المعرفيَّة، ويتَّسع للمنعطفات الخطيرة والمسارات المستجدَّة، والأفكار العشوائيَّة المرتجلة التي بدت تحمل لمستقبل الأجيال صورة مخيفة، وفي ظلِّ واقعٍ تعيش فيه الأخلاق حالةً من التشويه والمزاجيَّة والازدواجيَّة، وتقرأ فيه المفردات والمفاهيم المرتبطة بحقوق الإنسان كمدخل لاختزال القِيَم وتنميط صورة السلوك الإنساني المتَّزن، لِيتَّجه إلى الشكليَّات والظواهر الصوتيَّة في غياب للتربية الأبويَّة واختزال الممارسات في المنصَّات الاجتماعيَّة لجوهر القِيَم والأخلاق النبيلة، لذلك شكَّلت الرؤى والتوجيهات والأوامر والخُطب السَّامية لجلالة السُّلطان المُعظَّم حوْلَ القِيَم في تنوُّع مواقفها، وتعدُّد ظروفها، واختلاف معطياتها، والمخاطبين بها، موجِّهات تستشرف مستقبل القِيَم في ظلِّ هذه المعطيات، ومرتكزات عمليَّة للجهاز الإداري للدولة في تجسيد القِيَم في قواعد العمل الوطني وبناء منظومات الدولة العُمانيَّة وتشريعاتها، ومحطَّة تقف على المنجز القِيَمي العُماني والإرث الحضاري للانطلاقة من خلاله إلى المستقبل الواعد وتحقيق الأولويَّات الوطنيَّة، على أنَّ من بين ما وردَ في مزون الخِطاب السَّامي، ما جاء في بيان ترؤُّس جلالة السُّلطان المُعظَّم لمجلس الوزراء الموقَّر، في الثالث من يناير من عام 2023: حيث جاء: «وفي سياق الحديث عن مستجدَّات الساحتين الإقليميَّة والعالميَّة، ونظرًا لِما يشهده العالم من تغيُّرات في السلوكيَّات والمفاهيم وترسيخ البعض لمفاهيمهم، واستغلال مبادئ حقوق الإنسان، وغيرها من المبرِّرات لفرض رؤى وبرامج وسلوكيَّات لا تتَّفق مع الثوابت والمبادئ السائدة.. فقد أكَّد جلالته ـ أبقاه الله ـ على أهمِّية العمل على ترسيخ المبادئ والقِيَم العُمانيَّة الأصيلة المستمدَّة من تعاليم دِيننا الحنيف، وحثِّ الأُسر على الأخذ بأيدي أبنائها وتربيتهم التربية الصالحة».
عليه، فإنَّ ما يثار بين فترة وأخرى من توجُّهات على مستوى الأفراد والمؤسَّسات، بإدخال بعض العوارض الوقتيَّة، والأفكار المبتذلة، والسلوكيَّات السلبيَّة، أو استقدام بعض منصَّات المجون والميوعة وغيرها والزجِّ بها إلى بلادنا كجزء من التطوير السِّياحي، أو قراءتها في إطار تعزيز اقتصاد السِّياحة، وتعظيم القِيمة المضافة للسِّياحة الوافدة، كجزء من تحقيق أولويَّات رؤية عُمان 2040 السياحيَّة، والتوجُّهات المتعلِّقة بالسَّماح لأكثر من 103 دولة حوْلَ العالم بالزيارة السياحيَّة المؤقتة إلى سلطنة عُمان بدُونِ الحاجة إلى الإجراءات التطويليَّة، أو تبرير توجُّه الحكومة نَحْوَ استهداف أكثر من 11 مليون سائح بحلول عام 2040، ومحاولة ربط هذه الزيادة المتوقعة ببعض الأفكار غير المقنعة بحجَّة إيجاد بيئة تتوافق مع بيئة السَّائح الوافد، والتنازل السَّهل عن الخطِّ الأحمر الذي رسمته السِّياحة الوطنيَّة في أهدافها المعلنة للمُجتمع؛ ما يعنيه ذلك كُلُّه من خروج عن الثوابت، وإرهاق لكاهل السِّياحة، وتلبيسها قضايا وتُهَم في غنًى عنها، أو التأثير على مساحة الأمان السِّياحي وعلاقة التكامل النموذج الذي يعيشه المواطن في محاولة إخراج السِّياحة من إنسانيتها، ونزوغ بها إلى المادَّة والمصالح الشخصيَّة، وإرباك قواعدها وأصولها ومرتكزاتها بأفكار تتجافى وأولويَّات السِّياحة وغاياتها.
من هنا، فإنَّ هذه الصورة التكامليَّة المتدرِّجة في تأطير القِيَم والهُوِيَّة العُمانيَّة وإدماجها في منظومات المُجتمع وتجسيدها في مفردات التطوير ومنصَّات الخِطاب وعرصات المنافسة والإنجاز، تؤسِّس اليوم إلى سياسات وطنيَّة تنطلق من رؤية عُمان 2040 وما ورَدَ في محور «المواطنة والهُوِيَّة والتراث والثقافة الوطنيَّة» والتوجُّه الاستراتيجي «مُجتمع مُعتز بهُوِيَّته وثقافته وملتزم بمواطنته» لتصنع من الخصوصيَّة والقِيَم والهُوِيَّة والثوابت والمرتكزات الإطار الذي تَدُور حوْلَه كُلُّ التوجُّهات الوطنيَّة، ومحطَّة انطلاقة للمسار التنموي الوطني في عموميته، وتعمل على تحقيقه قِطاعات الدولة السياحيَّة والتعليميَّة والاجتماعيَّة والاقتصاديَّة والأمنيَّة والثقافيَّة، وهي في المنظومة السياحيَّة أكثر تأثيرًا؛ كونها جسور اتصال ثقافي وحضاري لسلطنة عُمان مع العالم، وعبر تبنِّي سياسات وطنيَّة لتعظيم وجود سياحة مستدامة، تؤصِّل الصورة الحضاريَّة للقِيَم العُمانيَّة وتعظيم دَورها الريادي في صناعة مُجتمع المعرفة والاقتصاد والتقنية والتنمية، وتعظيم حضورها في تفاصيل البناء الفكري للإنسان العُماني ومبادئ الدولة العُمانيَّة، واستراتيجياتها في توظيف الإرث الحضاري الخالد والميزة التنافسيَّة بالمحافظات.
أخيرًا، ومع قناعتانا الأكيدة بأنَّ السِّياحة العُمانيَّة مبادئ أصيلة مقاومة لصدأ التشويه، يبقى التساؤل الذي يبحث عن إجابة تروي للأجيال القادمة تفاصيل الحدث، هل ستصنع كومة التراكمات والضغوطات الموجَّهة إلى السِّياحة للانفتاح المطلق منصَّة اختبار يستلهم منها القائمون على السِّياحة العُمانيَّة وغيرها من بيئات الترفيه والترويح مسؤوليتهم الأخلاقيَّة وأمانتهم التأريخيَّة الوطنيَّة في احترام إنسان هذا الوطن، وما يحمله من عقيدة المبادئ والقِيَم والأخلاق والثوابت، ومكتسبات الأمن والأمان والاستقرار وانخفاض الجريمة، وموجِّهات تحفظ للإنسان العُماني كرامته، وتحترم عقله وفكره وذائقته، وتجنِّبه غوغائية المصادر وحملات التشويه؟
د.رجب بن علي العويسي