تُعتبر القدرة على ملاحظة أوجه التشابه بين الأشياء والظواهر ذات قيمة عالية في الكلام العربي، وبالتالي فإن روائع الأدب العربي مليئة بالمقارنات الملائمة والاستعارات التعبيرية.
في النصف الأول من القرن التاسع، شكلت الدعوة إلى المعنى المجازي للكلمات أساس الاتجاه العقلاني في التفسير، تم تطويره من قبل علماء الدين من مدرسة المعتزلة، ومدارس الكلام الأخرى، وخوفاً من تفسير مجسم للصفات الإلهية، لم يدرك المعتزلة المعنى المباشر للآيات التي تذكر الصفات أو الأعمال الإلهية، حيث عارضهم أهل مدرسة الحديث، الذين نفوا قبول التفسير العقلاني للصفات الإلهية.
ونتيجة لذلك، أصبحت مشكلة المعاني المباشرة (الحقيقة) والمجازية للكلمات موضوع للمناقشات، سعى فيها كل جانب بطريقته الخاصة للتأكيد على قدسية الصفات الإلهية.
بالتالي، إن وجود المجاز باللغة العربية معترف به من قبل معظم علماء اللغة، بما في ذلك الجرجاني (تولد – 1078) وابن جني (تولد 1002) وغيرهما.
وفقاً للقزويني (تولد 1338)، فإن الحقيقة تتوافق مع المعنى المعجمي الذي من المعتاد فيه استخدام كلمة في سياق معين (وبالتالي، يتم استبعاد حالات الاستخدام الخاطئ للكلمة والمعاني التي ليس لها توزيع). أما المجاز فيقسمها العالم إلى قسمين: الأول يشير إلى استخدام الكلمة بمعنى غير نموذجي لسياق معين، على سبيل المثال، استخدام كلمة الزكاة في معنى “النمو”، والفئة الثانية هي استخدام الكلمة ليس بالمعنى المباشر، ولكن بالمعنى المجازي، على سبيل المثال، تسمية المحارب الشجاع “الأسد”.
إن استخدام الكلمة بالمعنى المجازي يعني إنكار معناها الأساسي، على سبيل المثال: “رأيت أسداً يقاتل الأعداء” أي مقاتلاً شجاعاً، بعبارة أخرى، يمكن دحض المجاز، ولذلك أنكر بعض علماء الدين وجود المجاز في القرآن، وكان من بينهم مؤسس المدرسة الظاهرية، داود بن علي (تولد 883)، حيث أنه لا يمكن أن يكون هناك أقوال في القرآن يمكن دحضها، حتى ولو بشكل رسمي فقط، وبالتالي، فإن جميع معاني القرآن تنتمي إلى فئة الحقيقة وتتكون مما يخطر ببال الشخص الواعي بموضوع الكلام.
أدى هذا الجدل بشأن التحديد الوجودي المسبق للأسماء في اللغة إلى حقيقة أن الكثيرين بدأوا في إنكار المجاز تماماً بالعربية، وقد شارك في هذا الرأي عالم اللغة الشهير أبو علي الفارسي (تولد 987)، وابن تيمية (تواد 1328)، وابن القيم (تواد 1350)، أما البعض الآخر، كان يعتقد أن كل كلمة وتعبير في سياق معين يكتسب المعنى الذي يضعه فيه الخطاب، لذلك، فإن الكلمات والتعبيرات لها معنى ليس بمعزل عن غيرها، ولكن مع السياق الذي تستخدم فيه.
وفي الوقت نفسه، يعتقد معظم المفسرين أن المجاز لا تحرم النص القرآني من الوضوح، بل على العكس تؤكد على تعابيره وإعجازه.
أما النقل المنطقي هو إسناد إجراء يقوم به شخص إلى شخص أو كائن أو ظاهرة أخرى.
بالنسبة للنقل المعجمي النحوي هو الاستخدام الفعلي للكلمة بالمعنى المجازي، وقد حدد الزركشي أكثر من أربعين نوعاً من هذه المجاز، موضحاها بأمثلة من القرآن الكريم، سنعرج عليها في مقالات لاحقة.
في وضع التفسير التقليدي، لا يُقبل المعنى المجازي إلا عندما يُستبعد المعنى المباشر بحجج مقنعة من القرآن والسنة، يقوم أنصار مدارس الكلام المختلفة بتوسيع نطاق المجاز، باستخدامها للتفسير العقلاني للصفات الإلهية، حيث يكتسب المجاز أهمية كبرى في تفسير الباطنيين، الذين ينسبون بعض المعنى الخفي لجميع الآيات تقريباً.
من هذه المقدمة المبسطة لبعض جماليات النص القرآني حاولنا إبراز جانب من رؤية البعض للمجاز في القرآن الكريم، والآن نستكمل تفسير سورة طه المباركة.
قال تبارك وتعالى: (فرجع موسى إلى قومه غضبان أسفاً قال يا قوم ألم يعدكم ربكم وعداً حسناً أفطال عليكم العهد أم أردتم أن يحل عليكم غضب من ربكم فأخلفتم موعدي قالوا ما أخلفنا موعدك بملكنا ولكنّا حمّلنا أوزاراً من زينة القوم فقذفناها فكذلك ألقى السامري فأخرج لها عجلاً جسداً له خوار فقالوا هذا إلهكم وإله موسى فنسي أفلا يرون ألا يرجع إليهم قولا ولا يملك لهم ضراً ولا نفعا ولقد قال لهم هارون من قبل يا قوم إنما فتنتم به وإن ربكم الرحمن فاتبعوني وأطيعوا أمري).
لقد عاد موسى عليه السلام إلى قومه بغضب وحزن، وقال: يا شعبي! ألم يعطيك ربك وعد جميل أي الكتاب السماوي، هل هذه الفترة طويلة جدا بالنسبة لكم؟ أم أنكم أردتم أن يغضب منكم ربكم (لأنكم بدأت في عبادة العجل)، وبالتالي حنثتم بوعدكم لي؟ في تفسير المحيط، لقد وعدوا أنهم سيتبعون دين الله وسنة موسى ولا ينتهكون أمر الله، لكنهم خالفوا الوعد وبدأوا في عبادة العجل، ثم أجابوا: نحن لم نخلف بوعدنا عن قصد، لقد حملنا الحلي الثقيلة لهذا الشعب (المصريين) وألقيناها في النار (كما قال السامري)، وهذا مثال كيف لشخص أن يضلل شعبه ويجعلهم تابعين له، ألم يروا أنه (العجل) لم يجبهم ولم يستطع إيذائهم أو نفعهم، فقد ترك موسى أخيه هارون عليها السلام في السلطة عندما ترك قومه.
في تفسير ابن كثير يخبر تعالى عما كان من نهي هارون، عليه السلام، لهم عن عبادة العجل، وإخباره إياهم: إنما هذا فتنة لكم (وإن ربكم الرحمن) الذي خلق كل شيء فقدره تقديراً، ذو العرش المجيد، الفعال لما يريد (فاتبعوني) أي: فيما آمركم به، واتركوا ما أنهاكم عنه.
ومن يقرأ بتدبر وتمعن لن يستصعب فهم الدلالات والحكم والمعاني الواسعة في هذه الآيات، وأن الشر مهما زاد وطغى فإن الخير هو الذي سيعم في نهاية المطاف، فرحلة أنبيائنا خلال نشر الرسالات السماوية تؤكد أن السعي والسير في طريق الخير يعبّد ويزيل كل الأشواك والشرور، لتكون الحكمة والموعظة الحسنة وزرع الخير ونشره ثقافتنا، كما هي ثقافة نبينا محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وكما هي ثقافة كل الأنبياء والرسل، فكم من فرعون اليوم طغى وتجبر، فلا تستوحشوا طريق الحق مهما واجهتكم صعاب، لأن خير الدنيا ليس إلا نقطة في بحر خير الآخرة.
عبدالعزيز بن بدر القطان/ كاتب ومفكر – الكويت.