الحضارة السورية مثيرة للاهتمام، أولاً وقبل كل شيء، لطبيعتها الوسيطة، فقد أنشأت جسوراً بين الحضارة اليونانية الرومانية في العصور القديمة والحضارات الهلنستية اليهودية وحضارات بلاد ما بين النهرين في البحر الأبيض المتوسط.
دور آخر للحضارة السورية كان تكييف التراث القديم في الشرق الأوسط، والذي يمكن رؤيته في مثال تقليد المخطوطات والطب والفلسفة وما إلى ذلك، ثم سمح هذا التكيف بظهور الثقافة العربية الكلاسيكية، حيث امتدت منطقة نفوذ الحضارة السورية إلى جورجيا وأرمينيا وأكسوم (إثيوبيا)، كما يجب اعتبار التقليد النسكي البيزنطي، المعروف باسم الهدوئية، ثمرة خاصة لتأثير الحضارة السورية، فقد حافظ المترجمون السريانيون على عدد كبير من النصوص المفقودة باللغة اليونانية، وضمن هذا الإطار، كانت حضارة السوريين بمثابة بيئة محافظة، فقد نقلت الحضارة السورية إنجازاتها إلى الشرق، متفاعلة مع الثقافة الصغديانية والأويغورية وحتى الصينية.
وجدير بالذكر أن النهج الحضاري بشكل عام قد تشكل في إطار التقاليد التاريخية العظيمة لأوروبا في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، عندما ذهب كل شيء من فكرة العصور القديمة والحضارة القديمة – وأدى إلى أوروبا باعتبارها استمرار الحضارة القديمة.
إن كلمة “سوري” للإنسان الحديث يمكن أن تكون مضللة، لأنها غالباً ما تستدعي ارتباطات بالدولة السورية الحديثة، أو بالمنطقة الجغرافية التي تسمى الآن سوريا، بما في ذلك جزء من لبنان وشرق تركيا، وهذا ارتباط خاطئ، هذه ليست سوريا الجغرافيا، والأهم من ذلك أنها ليست سوريا السياسية. عندما نتحدث عن الحضارة السورية الفرعية، والتي هي جزء من هذه الدائرة الحضارية للشرق الأوسط، فإننا نعني فضاء الناس، والثقافة، والفضاء التاريخي والثقافي، والذي عبر عن نفسه في الآرامية والسريانية.
بالتالي، يمكن القول، إن الحضارة السورية القديمة، كانت من نواح كثيرة، من ناحية، من أصل محلي، ومن ناحية أخرى، لعب السومريون دوراً كبيراً في تشكيلها.
اعتبر العلماء سوريا نوعاً من المنطقة العازلة بين الحضارات المصرية القديمة والحضارات السومرية والأكادية والبابلية، فقد تشكلت على أساس الحضارات السومرية والأكادية والمصرية وبحر إيجة، ومع ذلك، فإن الزمن يغير الأفكار حول الثقافات القديمة إذ أن الاكتشافات الجديدة للعلماء تضع سوريا على قدم المساواة مع الحضارات الأساسية.
كانت سوريا التاريخية أكبر من أراضيها الحالية، وشملت سوريا الحديثة ولبنان وجزء من فلسطين والأردن وكذلك شمال الجزيرة العربية، موقع مفيد استراتيجياً وتجارياً بين بلاد ما بين النهرين والبحر الأبيض المتوسط، سطح جبلي منع تكوين دولة مركزية، ووجود الصحاري التي تحيط بالبلاد التي توغل منها الساميون فيها – كل هذا أدى إلى تطور محدد للبلاد – الحضارة السورية.
تم اكتشاف أقدم مدينة معروفة في تاريخ العالم في وادي الأردن، في هذه المنطقة حوالي الألف العاشر قبل الميلاد، تأسست مدينة أريحا. في نفس الألفية، تم تدميرها ثم إعادة بنائها مرة أخرى، وفي الألفية التاسعة قبل الميلاد، في أريحا بنيت بيوت مستديرة تشبه الخيام، وفي عام 7 آلاف قبل الميلاد. بدأ بناء أول منازل مستطيلة الشكل في التاريخ.
وفي 3 آلاف قبل الميلاد، كانت مدينة إيبلا حاضرة، يعيش حوالي 30 ألف شخص في المدينة المسورة، قام سكان المدينة بتجارة مكثفة مع مصر، والتي يمكن رؤيتها من المنحوتات والآثار المعمارية، تحتوي رسائل الملوك المصريين على إشارات إلى مدينة – دولة أوغاريت، تم اكتشاف موقعها فقط في عام 1929 من قبل علماء الآثار الفرنسيين، منذ ذلك الوقت وحتى يومنا هذا، تم نشر نصوص أرشيفات الملوك الأوغاريتيين بانتظام، تقول أرشيفات القصر الملكي أنه في عام 4 آلاف قبل الميلاد، كانت أوغاريت مركزاً تجارياً رئيسياً ودولة مستقلة، لكن في 3-2 ألف قبل الميلاد، حدثت تغيرات عرقية بسبب تحركات العمريين والكنعانيين، فقد كان سكان فلسطين القديمة يدعون الكنعانيين حتى انتقل اليهود إليها، لكن غزوات الأجانب والتغيرات في الظروف الاقتصادية أدت إلى تراجع أوغاريت، وفي بداية القرن الثاني عشر قبل الميلاد، دمر زلزال المدينة.
بعد سقوط أوغاريت، ظهر شعب جديد – الفينيقيون، تعتبر بداية التاريخ الفينيقي عام 1200 قبل الميلاد، منذ هذا التاريخ، بدأت العديد من المصادر في العد التنازلي، تتحدث عن حياة المدن الفينيقية أرواد وجبيل وصيدا وصور وغيرها، ولم ينجح الفينيقيون في دولة واحدة، كانت فينيقيا تحكمها المدن، من قبل الملوك، الذين كانت سلطتهم محدودة بشدة من قبل مجالس النبلاء، أثناء الغزوات من الخارج، اتحدت المدن الفينيقية في تحالفات عسكرية، وهكذا فتح التحالف بقيادة صيدا مصر، عندما حكمت صور فينيقيا، دمرها الآشوريون، فيما بعد من قبل بابل، وضم الفرس فينيقيا إلى ممتلكاتهم.
تعتبر سوريا من أقدم المراكز الحضارية، أنشأ الناس مناطقهم فيها منذ منتصف العصر البرونزي، وهو ما فسره وفرة الموارد المائية، بما أن أساس النشاط البشري هنا كان الزراعة، فإن هذا الظرف كان ذا أهمية حاسمة لتطورها الناجح، أعطت سوريا الإنسانية أول أبجدية في العالم، اخترعت في مدينة دولة أوغاريت (الآن رأس شمرا) أما عن إيبلا (تل مرديخ)، فقد عثر في قصرها الملكي على أرشيف ضخم، تسلط وثائقه الضوء على نظام الإدارة والتجارة والحرف والدبلوماسية وعلاقات الحرب والسلام التي بنتها إيبلا مع الدول الأخرى.
بلد متعدد الجنسيات: الأكراد والتركمان والشركس والأرمن والآشوريون يعيشون فيها، سوريا مهمة أيضاً للمسيحيين الذين يشكلون 10٪ من سكان البلاد، في سوريا أسس الرسول بطرس أول كنيسة في الشرق في أنطاكية، ومن هنا انتقل للتبشير في بلدان أخرى، يمكننا القول إن التاريخ الغني لسوريا جعلها مهد العديد من الأديان والحضارات.
بالنسبة إلى دمشق، يعود تاريخ تأسيسها إلى الألفية الثالثة قبل الميلاد، وفيها ما يصل إلى 125 معلماً تاريخياً من مختلف العصور، أحدها هو الجامع الأموي الذي بني في القرن الثامن، كما يوجد فيها معالم مثل معبد جوبيتر والقلعة والشارع المستقيم (بطول كيلومتر ونصف) الذي بناه الرومان وكنيسة القديس حنانيا وكاتدرائية السيدة العذراء مريم والمعبد، ومسجد السيدة رقية، وتوجد في المدينة مدارس قديمة مثل العديلية (بنيت في القرن الثالث عشر) والكليجية، ويوجد في دمشق القديمة عدد من الأسواق الشهيرة، منها سوق الحميدية، تحت سقف حديدي مقبب يصل ارتفاعه إلى 10 أمتار، وسوق مدحت باشا وغيرهم، وتجدر الإشارة إلى أنه في عام 1979 تم إدراج المدينة القديمة بدمشق في قائمة اليونسكو لمواقع التراث العالمي.
أما بصرى فهي موطن لعدد من الآثار الرومانية-السريانية، بما في ذلك البازيليكا البيزنطية المزينة بالنقوش البارزة المتقنة، والمقابر العثمانية، والقصور الإمبراطورية، والحصون والقلاع الحصينة التي تشهد على مهارة المهندسين المعماريين الرومان، يوجد في بصرى مسرح روماني بني في القرن الثاني قبل الميلاد، وتوجد في المدينة كنائس مسيحية وآثار رومانية وبيزنطية ونبطية، إضافة إلى آثار العصر الإسلامي، ومن بين هذه الأخيرة مسجد عمر الذي يعتبر من أقدم المساجد المحفوظة في هذه المدينة.
بالانتقال إلى تدمر، فهي تضم عدداً من المواقع التاريخية، بما في ذلك معبد بعل الذي بني عام 32، ومعبد نابو، بالإضافة إلى 750 عموداً حجرياً نجوا حتى يومنا هذا.
ولدينا حلب الشهباء، وحمص الفيحاء، والكثير الكثير للحديث عن الحضارة السورية التي نعتز بها، لكن ارتأيت أن أستعين بمصادر تاريخية لكتابة هذا المدخل ومن ثم الولوج للكتابة عن أهم مدينتين ليس فقط لسوريا بل لكل العرب والعالم الإسلامي، دمشق وحلب، مسقط رأس الكثير من العلماء في مختلف الميادين، ومكتبات عريقة احتفظت بأرشيفهم، ما يدل على أن من سكن هذه البلاد ارتقى وعلا ونشر العلم نحو العالم، ومن هذه التمهيد البسيط سيكون مدخلاً للحديث عن علماء الشام وحلب، عن الطب والفلسفة عن الحضارة من أوسع أبوابها وصولاً إلى العصر الحديث. وللحديث بقية.
عبدالعزيز بن بدر القطان/ كاتب ومفكر – الكويت.