في ظلِّ مرحلة وطنيَّة فارقة تتَّجه فيها الأنظار إلى دَوْر أكبر للتكامل في العمل الوطني، والتشاركيَّة في القرار الاستراتيجي المنتج، وتعظيم اللامركزيَّة في التطوير ومسارات التحسين، وانطلاقًا من المبادئ والمرتكزات والفرص والأولويَّات التي أصَّلتها رؤية «عُمان 2040» وعَبْر محور «تنمية المحافظات والمُدن المستدامة» والتي وضعت من بَيْنِ أهدافها تعزيز الإدارة المحليَّة، وترسيخ مفاهيم اللامركزيَّة في عمل المحافظات، وعَبْرَ توسيع قاعدة الشراكة الفعليَّة بالاستفادة من كُلِّ المُكوِّنات والفرص والبيانات والمعلومات والميزات التنافسيَّة بالمحافظات في بناء مرحلة جديدة تتناغم مع مستهدفات العمل الوطني، وتتجاوب مع متطلبات الأوضاع الاقتصاديَّة والاجتماعيَّة وتداعياتها على الحياة المعيشيَّة للمواطنين، جاء المرسوم السُّلطاني رقم (26/2022) بإصدار المحافظات، والمرسوم السُّلطاني (38/2022) بتعديل بعض أحكام قانون المجالس البلديَّة تجسيدًا عمليًّا للانتقال بهذا الفكر التنموي الاستراتيجي إلى ميادين العمل وعرصات الممارسة، وإيذانًا بمسار تطويري متجدِّد ينطلق من المحافظات بمشاركة جميع أطياف المُجتمع وشرائحه.
وعليه، يفرض واقع العمل الوطني على المحافظات لتؤدِّي مسؤوليَّاتها التنمويَّة والتطويريَّة والنهضويَّة على أكمل وجْه، امتلاكها أدوات وآليَّات تشخيص الواقع وتحليله ودراسته وضبط متغيراته والوقوف على أسبابه ومسبباته ومؤشِّرات نجاحه بما يسهل عليها تحقيق الأولويَّات الوطنيَّة والغايات من هذا التوجُّه الوطني، وفي الوقت نفسه بما يتيح للقرار الوطني وعَبْر مؤسَّسات الدولة وقِطاعاتها ومرجعيَّاتها سرعة اتِّخاذ القرار الساعي إلى الاستدامة التنمويَّة ورفع المستوى المعيشي للمواطن وتحقيق معايير السلامة والأمان، والمبني على كفاءة البيانات وجودة المعلومات ووضوح صورة العمل التشاركي وإنتاجيَّته بَيْنَ كُلِّ الجهات الحكوميَّة والخاصَّة العاملة في نطاق المحافظات، ومستوى التحديث والتجديد الحاصل في نوعيَّة المؤشِّرات الاجتماعيَّة والاقتصاديَّة والسياحيَّة والثقافيَّة والتعليميَّة التي استطاعت المحافظات أن تحققها في ظلِّ تشخيصها للواقع التنموي، إذ من شأن هذا التشخيص أن يوفر قواعد بيانات متكاملة وتفاصيل مثرية وموثَّقة حَوْلَ المحافظات وولاياتها من مختلف الجوانب التنمويَّة الاجتماعيَّة والاقتصاديَّة والصحيَّة والتعليميَّة والبيئيَّة والإعلاميَّة والتواصلية ومؤشِّرات الباحثين عن عمل والمسرَّحين العُمانيين من القِطاع الخاصِّ والأُسَر محدودة الدخل والأُسَر المعسرة والإسكان الاجتماعي والقروض، والشركات العاملة والمؤسَّسات الصغيرة والمتوسطة الفاعلة، والأنشطة التجاريَّة والاقتصاديَّة المتاحة للشباب، في تحليل للفرص وتشخيص للتحدِّيات وتفصيل دقيق للمطبات والمعوِّقات ووقوف جادٍّ على الأسباب والمسببات، واقتراح للبدائل والمعالجات وترتيبها في ظلِّ الإمكانات وسرعة التحقق، وإنتاج للحلول التي تستطيع من خلالها المحافظات أن تبني عليها قراراتها القادمة أو أن تفصح بها للجهات المعنيَّة في سبيل العمل على اتِّخاذ قرارات منتِجة بشأنها.
من هنا لم يَعُدْ وجود هذه الصورة من التكامليَّة والحراك حالة مزاجيَّة ترتبط بالمحافظين ومستوى قيادتهم للعمل بالمحافظة وحضورهم في الشأن الاجتماعي؛ بل خيار أصيل ومسؤوليَّة أخلاقيَّة وأمانة تأريخيَّة، يحتِّم عليها أداء مسؤوليَّاتها وفق أُطر ومنهجيَّات واضحة، لِما من شأنه مساعدة الجهات المعنيَّة بالدولة في الوقوف على التحدِّيات التي يواجهها المواطن، وفهم أعمق لطبيعة المتغيِّرات والخصوصيَّة والميزة التنافسيَّة التي تحدِّد طبيعة ما تحتاجه المحافظات من أولويَّة الاهتمام، والشكل المَرِن الذي يجب أن يتعامل معه القرار الوطني بما يضْمَن للمحافظات ميزتها التنافسيَّة النسبيَّة، ويحافظ على الكيان الاجتماعي والخصوصيَّة الوطنيَّة لمُجتمع المحافظة، انطلاقًا من كونها جسور اتصال ممتدَّة بَيْنَ المواطن ومؤسَّسات الجهاز الإداري للدولة، فإنَّ الحديث عن دَوْر البيانات والمعلومات والمنتَج الفكري التفاعلي الناتج من حلقات العمل والاتصال والمشتركات واللقاءات والحوارات التي تنفِّذها المحافظات في محيطها الجغرافي، يضع عمليَّات التشخيص والتحليل والمراجعة كموجِّهات أصيلة في تحقيق استراتيجيَّات التنمية الوطنيَّة، الأمْرُ الذي يؤكد أهمِّية عُمق البيانات وقدرتها على توفير أفضل الممارسات التي تنقلها من حيِّز الذاتيَّة والتكراريَّة والسطحيَّة إلى بناء إطار وطني لعملها، في ظلِّ اعتمادها على نماذج تقييم مجربة، واستمارات رصد محكمة، وبرامج تشخيص دقيقة، وإتاحة هذه البيانات لمؤسَّسات الدولة المعنيَّة ضرورة ملحَّة تضْمَن قدرتها وفاعليَّتها وحضورها في استيعاب طبيعة الاحتياج، والحصول على مؤشِّرات دقيقة معزَّزة بالأدلة والنماذج، تؤسِّس لتوليد بدائل لمحاكاة الواقع، أو إنتاج حلول مبتكرة للكثير من التحدِّيات التي تواجهها المحافظات، وتوجيه بوصلة عملها وفق خطَّة وطنيَّة واضحة تقلل من الهدر في الموارد والوقت والجهد، وتحدُّ من الانحرافات المتكررة في تحقيق المحافظات لاختصاصاتها أو وفائها بالتزاماتها، وحُسن توظيف الفرص وتعزيز الاستثمار فيها.
إنَّ ما تفصح عنه اختصاصات المحافظات والمحافظين والولاة ومساعديهم والمجالس البلديَّة مجتمعة من تحوُّلات في طبيعة الدَّور وفاعليَّة الممارسة القادمة التي يجب أن توجّه أجندتها لصالح تقديم نماذج عمليَّة وطنيَّة تستوعب مستجدَّات العمل بالمحافظات وتقدِّم صورة نموذج حَوْلَ تكامل الأُطر وتفاعل الجهود وتقاسم المسؤوليَّات ورفع مسارات التكامل المؤسَّسي والتفاعل المُجتمعي وعَبْر فتح المجال للحوار الاجتماعي البنَّاء القادر على تشخيص الواقع بأدوات وآليَّات أكثر تطورًا ومهنيَّة واحترافيَّة وتقديم بدائل وحلول ومعالجات أكثر ابتكاريَّة في رسم صورة مشرقة للعمل الوطني القادم في المحافظات؛ يؤسِّس لمرحلة جادَّة من العمل المشترك والتفاعل النوعي والتناغم في الرؤى والأفكار، وتدارس جوانب القوة وفرص النجاح التي تتميز بها المحافظة مع مختلف الشركاء، أو التحدِّيات والصعوبات التي ينبغي الوقوف عليها وتكاتف الجهود مجتمعة نَحْوَ معالجتها، وتعزيز مبادئ التفاعل والحوار والاحتواء وتلمُّس الأفكار الإيجابيَّة، واستمطار الأفكار واستنطاق الفرص وإنتاجها بطريقة تضْمن فاعليَّتها وإعادة تدويرها بشكلٍ يضْمَن كفاءة العمليَّات الداخليَّة وقدرتها على التكيُّف مع الواقع التنموي المتجدِّد وتعاظم قيمتها المضافة التي ستصنع الفارق في نواتج العمل، وما يعنيه ذلك من تبنِّي سياسات أكثر قدرة على التشخيص والتحليل والمقارنات والمراجعات وتوفير البيانات وتوظيف نتائج المسوحات والدراسات الاستطلاعيَّة والإحصائيَّات والمؤشِّرات، وإيجاد آليَّات وأدوات لتشخيص واستقراء ورصد وتحليل متطلبات الواقع الاجتماعي والاقتصادي بالمحافظة، وخلق نموذج وطني مصغر يعبِّر عن حسِّ التلاحم والتكامل الوطني والانسجام بَيْنَ المحافظات كهياكل إداريَّة وتنظيميَّة وبَيْنَ مختلف شرائح المُجتمع في العمل معًا على تحسين صورة المحافظة وإثبات بصمة حضور نوعي لها في المشاريع التنمويَّة التي ستغيِّر وجْه المحافظة، ويفترض أن تتقاسم مُجتمع المحافظة أولويَّاته واهتماماته ومسؤوليَّاته أو تقدِّم صورة إيجابيَّة مشرقة حَوْلَ نتائج هذه التحوُّلات وانعكاساتها على الحياة المعيشيَّة للمواطن ومدى توافر الخدمات.
وتبقى الإشارة إلى أنَّ صورة العقل الجمعي التشاركي التي بات يُشكِّل طبيعة عمل المحافظين والمجالس البلديَّة، يُمثِّل بيت خبرة وطنيًّا متعدِّد المواهب والقدرات والاستعدادات، إذ يحمل وجود هذا التنوُّع في الفئات وحضور المرأة في عضويَّة المجلس ميزة تنافسيَّة وقِيمة مضافة في تأطير الخبرة الوطنيَّة وحُسن استثمار الكفاءات وتقدير مفهوم التنوُّع في المواهب والخبرات والقدرات ليصبَّ في منتج المحافظات والمجالس البلديَّة على حدٍّ سواء، ويعبِّر عن تأصيل لمنحى التكامل بما تمتلكه من فِقه المعرفة والتجربة والخبرة في تعاملها مع الكثير من المواقف في وظائفها السابقة أو مواقعها الاجتماعيَّة ومسؤوليَّاتها السابقة في العمل الاجتماعي والعمل الخيري والتطوُّع، وما يحققه هذا التنوُّع من فرص البحث والجديَّة في استنطاق الأفكار المطروحة، الأمْرُ الذي سينعكس على جاهزيَّتها في استدراك مقتضيات العمل التشاركي بالمحافظات، والقواعد والمبادئ والسلوكيَّات والأُطر والمنهجيَّات والسياسات وأنماط السلوك التي يفترض أن تُشكِّل مدخلًا لتحقيق جودة الأداء، وما تؤسِّسه هذه الموجِّهات من مراجعة جذريَّة للذَّات، وإعادة صياغة متكاملة للممارسة، وصقل جديد للشخصيَّة؛ كونها تتعاطى مع جملة كبيرة من الفرص التطويريَّة والتوجُّهات التنمويَّة الاقتصاديَّة والاجتماعيَّة والثقافيَّة والسياحيَّة والاستثماريَّة، ويفرض عليها الاختصاص إبداء الرأي في العديد من المجالات التي تهمُّ المحافظة وتقع تحت دائرة الاهتمام، وهي بجانب ذلك تمارس سياسة وطنيَّة تتطلب منها عقليَّة الوفرة واستشعار المسؤوليَّة والهدوء والإيجابيَّة والموضوعيَّة والتفاعل والحكمة والتحليل والدراسة والتشخيص والبحث والسؤال والرجوع إلى أصحاب الخبرة أو الكبار من الآباء والأجداد، والاعتماد على الأدلَّة وترجيح الآراء وفق الشواهد والأدلَّة والمعايير والأحكام التي تنظِّم عمل المحافظات، متَّخذين من التباينات أو الاختلافات التي تضمُّهم تحت قبَّة المجلس البلدي بالمحافظات، مشتركات للتكامل ومحطَّات لمزيدٍ من التعاون والتكامل والتقدير والاحترام للرأي، والتعدديَّة في الآراء واحترام الأدوار.
أخيرًا، فإنَّ الإشارة إلى هذه الصورة التكامليَّة في تشكيلة المجالس البلديَّة والمحافظات وعلاقتها بمسار دعم القرار الاستراتيجي المؤسَّسي والوطني على حدٍّ سواء، محطَّة يجب أن تضيف حضورًا مُهمًّا للمحافظات في تقديم تشخيص متكامل عن واقعها بكُلِّ تفاصيله وتحدِّياته وعوامل نجاحه وأسباب تأخره، ليكون مائدة مهمَّة لبنية وجودة وكفاءة وإنتاجيَّة القرار المؤسَّسي والوطني، ويضْمَن الحدَّ من الهدر الحاصل في جهود مؤسَّسات الدولة المعنيَّة، والتي مع التقدير لها والاحترام لتوجُّهها ما زالت اليوم رغم الدَّور المحوري للمحافظات في تشخيص الواقع وتقديم صورة متكاملة حوْلَه، تتَّجه بكوادرها إلى المحافظات من أجْل عقد حلقة عمل مع موظفيها أو المواطنين حوْلَ الواقع والتحدِّيات والاقتراحات والحلول التي تبحث عنها في موضوع يتعلق بالخدمة التي تقدِّمها أو غير ذلك، في حين أنَّ المحافظات قد تمتلك من المعلومات والأفكار والبيانات، ووصلت إلى قناعات أخرى واستراتيجيَّات عمل أكثر قابليَّة للتطبيق والتنفيذ، يمكن أن تستفيد منها هذه المؤسَّسات بشكلٍ أفضل وبطريقة أكثر مهنيَّة وتنظيميَّة ممَّا تقوم به هذه الجهات بصورتها الحاليَّة، هذا الأمْرُ يؤكد اليوم على أهمِّية تعظيم مسار الثقة والتكامل في العمل المؤسَّسي، وتفعيل نتائج تقارير المحافظات ومتابعتها واتِّخاذ قرارات وإجراءات عمليَّة بشأنها، ويقع على المحافظات أيضًا مسؤوليَّة استدراك هذا الدَّور واحتضان مركز متخصص لقواعد البيانات المتكاملة، وأن تقوم بِدَوْرها في رفد الجهات المعنيَّة بالبيانات التشغيليَّة من واقع العمل، وأن تقدِّم للجهات المعنيَّة صورة متكاملة حوْلَ ما يطمح إليه المواطن من هذه المؤسَّسات، سواء من خدمات تنمويَّة وترفيهيَّة أو تسهيلات اقتصاديَّة ومشروعات تطويريَّة وأولويَّات المواطن المعيشيَّة في هذه المحافظات، وموقع التطوير والتحسين الذي يستوطن هذه المحافظات، والذي بِدَوْره يحكي قصَّة شراكة فعليَّة ونجاح كتبت بأحرف من نور من أجل عُمان.
د. رجب بن علي العويسي