يشبه تاريخ ولادة مدينة حلب الشهباء وحياتها وموتها، التي كادت أن تمحى نتيجة الحرب في سوريا، عاشت مصيراً لا تًحسد عليه، كأنها قطعة قماش، أرادوا تمزيقها وهي على نقالة الإسعاف، لكنها نفضت غبار هذه الحرب ونفضت غبار الزلزال المدمر، لتبقى قلعتها شامخة وأبوابها مفتوحة وحضارتها تعبق بالتاريخ الجميل، هذه المدينة المشرقة كانت منارة العلم والعلماء وأنا شخصياً درست على يد بعض علمائها الفقه والنحو، منهم، الشيخ خالد سيد علي، والدكتور خالد الأطرش الحسيني، “متن الآجرومية والفقه الشافعي”، وهذا شرف كبير لي.
لا يزال المؤرخون يتباحثون حول متى “ظهرت” حلب بالضبط – قبل دمشق أو بعدها، لكن المؤكد أن لعبت السمات الجغرافية، مثل المناخ المعتدل، والذي كان يًعتبر الميزة الرئيسية للمدينة، منذ 3 آلاف قبل الميلاد، تم تجديد قائمة الراغبين بالاستيلاء على حلب، وكان من بينهم السومريون والحثيون والآشوريون والمصريون والفرس واليونانيون.
مدينة حلب السورية هي واحدة من أقدم المدن الموجودة على وجه الأرض، يعود أول ذكر لها إلى الألفية الثالثة قبل الميلاد، في الألفية الثانية قبل الميلاد، سقطت ذروة مدينة حلب القديمة في القرنين الرابع والأول قبل الميلاد، ثم، في عهد السلوقيين، كان لها بالفعل مظهر مشابه لما هو عليه اليوم – القلعة على التل ومراكز التسوق أدناها أدت إعادة الهيكلة العربية اللاحقة للمدينة إلى إرباك الشوارع القديمة المستقيمة، لكنها لم تغير شيئًا جوهرياً، أصبحت حلب الآن متاهة حقيقية من الشوارع الرمادية الضيقة.
لطالما، اشتهرت حلب بكثرة المساجد والمؤسسات التعليمية الإسلامية – المدارس، بالإضافة إلى ذلك، فإن العديد من المباني المحلية هي الأقدم في العالم الإسلامي، ففيها أحد أقدم المساجد العربية هو جامع التوتة، أو مسجد شجرة التوت، الذي بناه الخليفة عمر بن الخطاب، في النصف الأول من القرن السابع، مباشرة بعد الفتح العربي للمدينة عام 637 م، وهو يقع في حي باب أنطاكية، حيث كان له أهمية كبيرة جداً لكونه أول مسجد شيده المسلمون في حلب، وقد أطلق على هذا الجامع عدة أسماء بحسب المصادر التاريخية. وتسميته الأولى كانت مسجد التروس؛ وذلك نسبة إلى الأتراس وترجع إلى الفتح الإسلامي، فحين دخل المسلمون مدينة حلب من باب أنطاكية ألقوا بأتراسهم في الساحة التي أنشأ بها فيما بعد هذا الجامع تخليداً ليوم الفتح الإسلامي، والتسمية الثانية هي العمري وكانت نسبة للخليفة عمر بن الخطاب الذي تم بعده فتح المدينة.
أما التسمية الثالثة فهي الغضائري نسبة للشيخ أبي الحسن علي بن عبد الحميد الغضائري، والتسمية الرابعة فكانت الشعيبية وكانت أيام السلطان نور الدين زنكي حين تحول المسجد إلى مدرسة، وعهد فيها بالتدريس للفقيه الصوفي الأندلسي الشيخ شعيب بن أحمد الأندلسي، والتسمية الحالية للجامع هي جامع التوتة، حيث لا تذكر المصادر التاريخية مصدراً لها (يقال لوجود شجرة توت مزروعة فيه)، تعرض المسجد للخراب والدمار مرات عديدة كان يجدد على أثرها، وقد جدد الجامع أيام السلطان نور الدين عام 545 هـ، كما تشير إلى ذلك الكتابة الموجودة عليه، وجدد أيضاً في العصر المملوكي مرتين، أولهما سنة 972 هـ، أيام السلطان برقوق على يد الأمير كمشبغا، والتجديد الثاني هو الباقي حتى الآن تم عام 804 هـ، أيام السلطان فرج برقوق، ويعد هذا المسجد وثيقة أثرية هامة بالنسبة للأبنية الكبيرة في العمارة الإسلامية، وهو غيض من فيض، مثال واحد على أمثلة كثيرة جداً.
حلب باختصار هي مدينة المآذن، فهي موجودة هنا في كل منعطف داخل أحيائها، من بينها، مئذنة جامع الصفحية (1425)، مئذنة الجامع البهرمية، مئذنة مسجد الرومي (1366)، مسجد السفاهية، العديلية – الجامع العثماني (1556).
بالتالي، إن مدينة حلب، المعروفة لدى الأوروبيين باسم حلب، وفي المصادر اليهودية باسم آرام تسوفا، في الألفية السادسة قبل الميلاد، كانت هذه الأماكن مأهولة، وبحلول الألفية الخامسة كانت هناك بالتأكيد مدينة كبيرة إلى حد ما، مذكورة في الألواح المسمارية البابلية، أما بحلول 2500 قبل الميلاد، هناك إشارات إلى أن مدينة حلب ثم تم ذكرها فيما يتعلق بقربها من المدينة التجارية السامية القديمة – الدولة المسماة إيبلا.
حلب تثير الإعجاب ليس فقط بتقاليدها الأصلية، حيث تستحق الهندسة المعمارية للمدينة، التي تشكلت على مدى عدة آلاف من السنين، اهتماماً خاصاً، فقد سعى كل “مالك” إلى ترك بصمته عليه، والآن أصبح مزيج الأساليب المعمارية يجعل المجموعة الحضرية لا تُنسى، إذ غالباً ما تعود الفنادق والحمامات والمدارس وبعض المباني السكنية إلى القرنين الثالث عشر والرابع عشر، وهو أسلوب القرنين السادس عشر والسابع عشر، إن أمثلة الباروك الشرقي المحفوظة تحت ستار المنازل البرجوازية ليست غير شائعة، وكذلك المباني على طراز القرن التاسع عشر – أوائل القرن العشرين ، حيث تتخلل بطريقة ما الأحياء الكلاسيكية الجديدة والصينية وحتى النورمانية أو المباني الفردية.
لكن الجوهرة الحقيقية للهندسة المعمارية في حلب هي قلعة حلب، (القرن العاشر)، وهي منذ عام 1986 مدرجة في قائمة مواقع التراث العالمي لليونسكو، صمدت القلعة في العديد من المعارك من أجل الدفاع عن المدينة، لكنها تضررت بشكل كبير من زلزال عام 1822، وبعد ذلك لا تزال القلعة قيد الترميم، تم الترميم على نطاق واسع وتم تنفيذه منذ عام 2000 بدعم من اليونسكو، لكن هذا ليس كل شيء، كانت الحفريات في منطقة حلب هي التي أدت إلى اكتشاف ثقافة إيبلا القديمة، وحافظت الكتلة الحجرية لمسجد حلب الجامع-كيكان (القرن الثالث عشر) على الكتابات الحثية، وبفضلها وجد العلماء مفتاح فك رموز اللغة الحثية.
ومن المثير للاهتمام، أن الحرفية في صناعة الأقمشة لم يتم تطويرها على نطاق صناعي فحسب، بل ما زالت تنتقل من جيل إلى جيل، هذا ينطبق بشكل خاص على نسج الحرير الذي صدرته حلب إلى كل دول العالم، لا عجب أن حلب إلى الآن تُسمى العاصمة التجارية لسوريا حديثاً وللشام قديماً، هناك أيضاً المدرسة الحلوية على سبيل المثال، التي تعود للقرن الثاني عشر، والتي تضم بقايا الكاتدرائية المسيحية في حلب، إلى جانب المساجد والمدارس والأسواق والخانات الأخرى، تمثل انعكاساً استثنائياً للجوانب الاجتماعية والثقافية والاقتصادية لما كانت ذات يوم واحدة من أغنى مدن البشرية جمعاء.
بالتالي، إن حضارة الشام بشكل أو بآخر كانت مفترق طرق معين: المسار من الشمال إلى الجنوب، من الشرق إلى الغرب بما في ذلك موانئ البحر الأبيض المتوسط، أثاروا مزيجاً من العناصر. نفس تدمر التي هي مزيج من العناصر، أما حلب الواقعة على مفترق طرق عدة للتجارة، يحكمها على التوالي الحيثيون والآشوريون والعرب والمغول والمماليك والأتراك منذ الألفية الثانية قبل الميلاد، توجد قلعة شامخة بنيت منذ القرن الثالث عشر، ومسجد كبير من القرن الثاني عشر، بالإضافة إلى مباني المدرسة والقصور والنوازل والحمامات من القرن السابع عشر.
لا أستغرب كل هذا الجمال عن هذه البقعة الجغرافية، التي هي فخر لكل العالم، فقد أعطت سوريا الكبيرة والتي أحب أن أسميها الشام للعالم الأبجدية، والنوتة الموسيقية، والعجلة الحجرية، والمحراث، كما ظهرت الأديرة والجماعات المسيحية الأولى على هذه الأرض القديمة، فقد تبنى بولس الإيمان المسيحي في طريقه إلى دمشق، ثم عاش في أنطاكية، أما الإسلام، فقد اكتسب موطئ قدم في سوريا عام 661، عندما أصبحت دمشق عاصمة الخلافة العربية في عهد الأمويين، وأصبحت سوريا مركز العالم العربي بأكمله.
وعن حلب نكمل، التي ورد ذكرها في النقوش الحثية من الألفية الثالثة قبل الميلاد، وكما اشرت آنفاً فهي أقدم مدينة مأهولة، كما أنها كمركز للتجارة والفنون العسكرية، الاسم العربي لمدينة “حلب” هو من أصل سامي قديم كموقع لمعبد إله العاصفة، فقد اكتشف علماء الآثار بقايا هذا المعبد بجدران سميكة، كما أطلق الإغريق والرومان على المدينة اسم فيرويا.
إن قلعة حلب من الأمثلة البارزة على العمارة العسكرية الإسلامية في العصور الوسطى، فقد شيدت عام 957، كحصن عسكري ونجت من الحيثيين والمغول، وما تلا ذلك، تحمل المدينة المسورة التي نشأت حول القلعة دليلاً على تخطيط الشارع اليوناني الروماني المبكر وتحتوي على بقايا مباني مسيحية من القرن السادس وأسوار وبوابات من العصور الوسطى ومساجد ومدارس تتعلق بتطور المدينة الأيوبية والمملوكية، والمساجد اللاحقة وقصور العصر العثماني، خارج الأسوار حي باب الفرج شمالاً غرباً ومنطقة الجديدة شمالاً ومناطق أخرى جنوباً وغرباً، معاصرة مع هذه الفترات من الاحتلال للمدينة المسورة تحتوي على مبانٍ ومساكن دينية مهمة.
أما الأسواق فيها، فهي موجودة منذ القرن الخامس عشر، كانت الأسواق القديمة منتشرة حول القلعة، وكانت الأسواق التي نشأت خلال عصر طريق الحرير العظيم هي مركز التجارة الدولية، وأهم سوق هو المدينة المنورة وهو أكبر سوق داخلي في العالم تبلغ مساحته 13 كلم، وهو مدرج كموقع للتراث العالمي لليونسكو، حيث تنتمي المحلات التجارية (الخانات) الخاصة بالتجار المحليين إلى أجيال عديدة من العائلات.
أما سوق خيري بيك فيعد هذا السوق من أقدم الأسواق في منطقة الشرق الأوسط بأكملها، عمره آلاف السنين، وكان هذا السوق ثاني أكبر سوق من حيث تجارة المنسوجات، فقد كان يتم إرسال قوافل تجارة الحرير من حلب عبر الأناضول (تركيا) وعن طريق البحر إلى روسيا القيصرية وأوروبا، ورغم حالة الحرب آنذاك بين روسيا القيصرية والخلافة العثمانية كانت قائمة لكن الحروب والصراعات لم تؤثر بشكل كبير على كثافة التجارة، بالتالي، على الرغم من طبيعة العلاقات المتضاربة بين الإمبراطوريتين الروسية والعثمانية، فإن العلاقات الاقتصادية لم تتوقف فحسب، بل نمت أيضاً في البنية التحتية، إذ لا تزال هناك منطقة مسيحية في حلب مبنية بأوامر العثمانيين، حيث قدم التجار والشخصيات العامة والحرفيون الذين هاجروا من أرمينيا وروسيا مساهمة كبيرة في تشكيل المدينة.
إن شمولية الحديث عن تاريخ هذه المدينة متشعب جداً، لا يمكن حصره في مقال واحد أو عدة مقالات، فهي حضارة ممتدة عبر التاريخ، وإلى الآن نجد الطابع القديم حاضر في كل الأزقة والحارات والأسواق والعمران خاصة في حلب القديمة، لا عجب أيضاً أن حلب إلى جانب أنها عاصمة تجارية فهي العاصمة الثقافية لسوريا، وهي مركز الشعر العربي التقليدي والموسيقى وأيضاً مركز فكري، وجامعتها من أعرق الجامعات، إلى جانب معهد الموسيقى والعديد من المدارس الدينية.
وبتفصيل أكثر عن المساجد في حلب هناك الجامع الكبير أو المسجد الأموي الذي تم بناؤه في بداية القرن الثامن، المئذنة فقط عمرها 1090 عام، زاره النبي زكريا عليه السلام، وقام أبو الحسن محمد بترميم مئذنة الجامع الكبير التي يبلغ ارتفاعها 45 متراً عام 1090، كما تم ترميم هذا المسجد وتوسيعه من قبل السلطان نور الدين الزنكي عام 1169 بعد حريق كبير، لقد نجا هذا المسجد من الحروب والحرائق والزلازل، خمس مرات في اليوم لمدة 919 عام، ووفقاً للروايات يوجد فيه قبر النبي زكريا والد النبي يحيى (يوحنا المعمدان).
هذا يعني أن مساجد حلب شكلت مزيجاً عمرانياً فريداً، يتداخل فيك الفن المملوكي والعثماني، فلكل مسجد ينتشر في حلب القديمة له قصة تجذرت في التاريخ، فإن عرّجنا إلى باب الحديد الشهير نجد مسجد الحدادين، وسمي بهذا الاسم وفقاً للمصادر التاريخية نسبةً إلى شيخ الحدادين الفقيه، كما كان يسمى جامع بنقوسا العتيق، ويرجع إلى منتصف القرن الرابع عشر، في فترة الحكم الأيوبي، وبانيه هو الحاج علي بن معتوق الدينسيري، وقد جدد عام 1841، الجميل والرائع أن تخرج العديد من علماء الدين من هذا المسجد، وأمَّ فيه عدة مشايخ، وكان مدرسة للمنشدين الكبار.
وجدير بالذكر أني أسرد هذا المقال بناءً على معلومات اطلعت عليها وقرأتها، ما يعني أن التسلسل الزمني غير وارد، لذا هنا لا أؤرخ بل أذكر ربما جانب من جوانب حضارة أمتي العريق، لذا اقتضى التنويه، وإن كان في بعض جوانبه تأريخاً لكن على طريقتي الخاصة.
استكمالاً لبعض المساجد في حلب، لدينا أيضاً جامع العادلية، وهو مسجد تاريخي يقع في مدينة حلب القديمة، بُني المسجد خلال العهد العثماني في عام 1557، على يد الوالي دوقه كين زاده محمد باشا.
ويلعب التنوع الأسلوبي الاستثنائي للمآذن التاريخية دوراً حاسماً في الطابع المميز لمدينة حلب القديمة من أواخر القرن الخامس الهجري/ الحادي عشر الميلادي.
في عام 637، دخل العرب المدينة، وعادوا إلى اسمها القديم حلب، في القرن العاشر أسست أسرة حمدان نفسها في حلب كإمارة مستقلة، كانت المدينة تحت حكمها حياة ثقافية رائعة: ضمت محكمة سيف الدولة، مؤسس الدولة الحمدانية في حلب، شخصيات بارزة مثل الشاعر المتنبي والفيلسوف الفارابي، ثم حاصر الجيش البيزنطي نيسفوروس الثاني فوكاس المدينة ونهبها عام 962، أعقبتها فترة من الحرب والاضطراب، غذتها صراعات محلية على السلطة وجهود بيزنطية وفاطمية وسلجوقية للسيطرة على حلب، ثم أصبحت حلب في القرن الثاني عشر مركزاً لمقاومة المسلمين للصليبيين الذين حاصروها دون جدوى في 1124-1125، تم صد التهديد الصليبي من قبل عماد الدين زنكي، الذي سيطر على حلب عام 1129، وابنه نور الدين، وبعد وفاة نور الدين، انتقلت المدينة إلى سيطرة الأسرة الأيوبية، التي أسسها صلاح الدين الأيوبي، في عهد الحكام الأيوبيين، شهدت حلب فترة ازدهار استثنائي، حيث عاد دور حلب كمركز للتجارة بين أوروبا وآسيا، كما أعيد بناء القلعة وتوسعت أسواق المدينة وضواحيها، كما أنشأ الحكام الأيوبيون عدداً من المدارس الدينية لتشجيع إعادة تأسيس الإسلام في حلب.
انتهى حكم الأيوبيين بشكل مفاجئ عام 1260 عندما استولى المغول على حلب وذبحوا سكانها، وسرعان ما تم طرد المغول من سوريا من قبل مماليك مصر، لكن المدينة استمرت في المعاناة، حيث عانت من تفشي الطاعون في عام 1348 وهجوم مدمر من قبل تيمور في عام 1400، لكن كان الانتعاش التجاري في القرن الخامس عشر ممكناً بسبب تراجع طرق التجارة الشمالية عبر الأناضول والبحر الأسود.
أما في عام 1516 وفي ظل توسع الخلافة العثمانية تم دخول مدينة حلب أسوة بأقرانها من المدن التي كانت تحت زعامة الخلافة العثمانية خاصة وأن المدينة تم فتحها في عهد الخليفة عمر بن الخطاب عام 637 م، بدون قتال، وظلت موجودة في العهد الأموي والعباسي، حيث بقيت ضمن جغرافيا الدولة الإسلامية، من عهد الخلفاء الراشدين إلى سقوط الخلافة العثمانية، وصولاً إلى العهد الحديث، وفي عهد الخلافة العثمانية، وسرعان ما أصبحت عاصمة لإقليم يضم شمال سوريا وأجزاء من جنوب الأناضول، حيث استمر الانتعاش التجاري، مما أدى إلى إعادة بناء وتوسيع سوق حلب وبناء خانات جديدة (استراحات للتجار المتجولين)، وشملت الواردات الرئيسية للمدينة الحرير الفارسي والفلفل الهندي، وفي القرنين السادس عشر والسابع عشر، كانت حلب ثالث أكبر مدينة في الإمبراطورية العثمانية، بعد القسطنطينية (اسطنبول الآن).
استمر الازدهار حتى منتصف القرن الثامن عشر، عندما تراجعت التجارة بسبب انخفاض إنتاج الحرير الفارسي الذي صاحب انهيار السلالة الصفوية، كما أدى تطوير النقل البحري والإبحار الاقتصادي إلى نقل الكثير من الحركة التجارية الدولية إلى المدن الساحلية المتوسطية، على حساب مراكز القوافل الداخلية مثل حلب، أيضاً شهد أواخر القرن الثامن عشر ضعف سيطرة الحكومة العثمانية في حلب وزيادة مقابلة في الصراع بين الفصائل والنقابات والجمعيات التجارية القوي، حيث أثارت الإصلاحات العثمانية حلقة من أعمال الشغب والاحتجاج في حلب عام 1850، ومع ذلك، سرعان ما تمت استعادة السيطرة العثمانية.
بالتالي، خضعت سوريا لحكم الخلافة العثمانية بدخول السلطان “سليم الأول” البلاد عام 1516م، لينتهي مع دخوله الحكم المملوكي ويبدأ عهد الخلافة العثمانية، بعد أن انتصر السلطان “سليم” على السلطان المملوكي “قانصو الغوري” في عام 1516، عندما تقابل الجيش العثماني والمملوكي في موضع حمل اسم “مرج دابق”، وامتدت فترة حكمهم إلى أربعة قرون، ويعدّ القرن السادس عشر للميلاد من أهم العصور التي شهدت فيها مدينة “حلب” الكثير من المباني العثمانية المهمة، وكان أولها “وقف خسرو باشا” والذي أسس بين عامي (1536-1544م) وجامعه يقع في أقصى الجهة الشرقية من “المدينة” بالقرب من مدخل قلعة “حلب”، ولم يبق من مؤسسات ومباني هذا الوقف الكبير سوى الجامع وملحقاته وخان الشونة.
بالنسبة للعمران في عهد الخلافة العثمانية فطابعه شاخص إلى الآن في بلاد الشام إن كان في المساجد أو الأحياء القديمة والأسواق والحمامات وغير ذلك، كانت البيوت العربية هي السائدة في حلب، بالتالي، إن ما يزيد على 300 مبنى أثري تنوعت في وظائفها بين المساجد والقصور والخانات والقيساريات وغيرها من المباني، كانت تلك من أهم الآثار المعمارية للحقبة العثمانية في “حلب”، لقد حظيت هذه المدينة باهتمام بالغ من قبل السلاطين والولاة العثمانيين، فإلى جانب المساجد هناك التكايا مثل التكية الخسروية التي تعد أول تكية تحمل الطراز العثماني، إلى جانب المدارس كالمدرسة العثمانية والأحمدية، ففي حلب نجد 68 خاناً على الطراز العثماني، وجدير بالذكر أن الوقف العثماني كان له دور بارز في نهضة حلب العمرانية وتوسعها، وترك ولاة حلب العثمانيين بصمة واضحة إلى الآن، أمثال، خسرو باشا، وبهرام باشا، ودوقاكيين زاده وغيرهم، ومن الأمثلة على ذلك، مدرسة الخسروية، وجامع البهرمية، وجامع العادلية، لتظل هذه المباني الأثرية شاهداً على فترة في غاية الأهمية شهدتها مدينة “حلب”.
وللحديث بقية.
عبدالعزيز بن بدر القطان/ كاتب ومفكر – الكويت.