عندما إلتقيته للمرة الأولى، وكنا فى منزل الأخ والصديق العزيز المهندس أبو العلا ماضى. لم أتصور لحظة أن هذه هى المرة الأولى التى أتقابل فيها مع جورج اسحق، وبعد أن اقتربنا كثيراً، أدركت أننى لم أكن وحدى الذى لديه هذا الشعور نحو جورج، أدركت أنه “ساحر” يمتلك قدرة هائلة على اختطافك والاستحواذ عليك وأخذك إلى عالمه الذى يعيشه ويعشقه، وهنا بالتحديد يتكشف السر، وهو أن “عالم جورج اسحق” الخاص جداً هو نفسه العالم الذى يشغل كل من جذبتهم قضية مصر، وبالتحديد مستقبلها، والحصول على إجابة شافية لسؤال “هى مصر رايحه فين؟”.
هذا السؤال نفسه هو الذى اجتمعنا حوله فى الدعوة الكريمة التى وجهها لنا المهندس أبو العلا ماضى للإفطار على مائدة أسرته فى يوم من أيام رمضان عام 2003. كان العدد يقترب من 35 شخصاً أو يزيد ، لا أعرف كيف استطاع المهندس أبو العلا أن يجمع كل هؤلاء رغم تباعد مشاربهم ومعتقداتهم: الناصرى والليبرالى والماركسى والإسلامي، المسلم والمسيحى . وبعد الإفطار وصلاة المغرب افتتح أستاذنا الكبير الراحل الدكتور عبد الوهاب المسيرى الحديث وطرح ذات السؤال الذى شغل كل إفطارات المنتديات والأحزاب والنقابات فى ذلك الشهر المبارك فى تلك الفترة الصعبة من حياة مصر. وكانت مصر مقبلة على مرحلة من الغموض المريب؛ هل سيجدد الرئيس مبارك لنفسه، وهو الشخص الذى لم تعد مصر تتحمل رئاسته يوماً واحداً إضافياً أم تجتمع على توريث ابنه لتدخل مرحلة أكثر غموضاً، أم هناك بديل آخر مصر قادرة على صنعه.
كان السؤال الذى تردد فى كل الإفطارات الرمضانية واستحوذ على إفطارنا فى منزل المهندس أبو العلا ماضى : “مصر رايحه فيين؟” وامتد الحوار الذى اجتهد فى الإجابة على هذا السؤال للوصول إلى البديل الثالث بعيداً عن مبارك وابنه، وهنا كان الليل قد انتصف ولم يعد ممكناً أن يستمر الحوار، ومن ثم استعد الجميع للإنصراف، كما هى العادة فى معظم اللقاءات ، لكن، ولحسن الحظ، تدخل العبقرى المصرى المبدع الدكتور عبد الوهاب المسيرى وقال: “انتظروا قليلاً.. لقد سمعنا هذه الليلة كلاماً مهماً لكنه لم يكتمل، ومن العبث أن نتركه يفلت من بين أيدينا” ، ثم قال: اقترح أن نختار من بيننا عدداً من الذين أثروا هذا الحوار ليواصلوه وعندما يصلوا إلى شئ عليهم دعوتنا لمناقشته معهم، ونرى ماذا بعد.
اتفق الحضور على اختيار 6 أشخاص ولحسن الحظ كانوا ممثلين للتيارات السياسية المصرية الرئيسية الأربعة: الناصرى والليبرالى والإسلامى واليسارى وهم: جورج اسحق، والمهندس أبو العلا ماضى، والمهندس أحمد بهاء الدين شعبان، والدكتور السيد عبد الستار المليجى، والأستاذ أمين إسكندر، والدكتور محمد السعيد إدريس .
وهنا بدأ مشوار جورج اسحق التاريخى، الذى احتضن المجموعة ووفر لها ما يمكن اعتباره “الملاذ الآمن” كى تلتقى وتتحاور لشهور امتدت إلى ما يقرب من الثمانية أشهر، فى المقر الذى وفره جورج اسحق فى أمانة المدارس الكاثوليكية بشارع طلعت حرب وسط القاهرة. بأمانة شديدة استطيع أن أقول أن جورج “سحرنا” وخلق من هذه المجموعة شيئاً جديداً أذاب كل ما بينها من خلافات ووحدها حول ما يريده جورج وهو أن تملك القدرة على أن تصنع مستقبلاً لائقاً لمصر، تذوب فيه كل الخلافات والصراعات التى تمزق وحدة المصريين. كان التسامح والاحترام والأمل قيماً مارسها جورج معنا ومارسناها معه، استطيع أن أقول أن الكل ذاب فى واحد وأننا وجدنا أنفسنا الضائعة.
وعندما احتجنا إلى ضم كفاءات إضافية، انتقلنا للإجتماع فى مكتب الأستاذ عصام الإسلامبولى المحامى فى مقدمتهم بالطبع الأستاذ عصام الإسلامبولى والأستاذ جمال فهمى والدكتورة كريمة الحفناوى والدكتور عبد الحليم قنديل ثم أستاذنا الدكتور عبد الجليل مصطفى والأخ الفاضل الدكتور يحيى القزاز والأستاذ عبد الغفار شكر – رحمه الله – والدكتور هانى عنان وغيرهم من أكابر المهمومين بمصر ومستقبلها، ثم كان ميلاد “الحركة المصرية من أجل التغيير” (كفاية) ابتداءً من المؤتمر التأسيسي الذى شهد إعلان الحركة الذى عقدناه فى مقر جمعية أبناء الصعيد بحى الضاهر، ثم المظاهرة الشهيرة أمام مبنى القضاء العالى يوم 4/12/2004 التى كان يتقدمها جورج اسحق بصفته “منسق حركة كفاية” وتوالت الأحداث التى لم تكتب قصتها بعد، لكننى وأنا أعايش أحزان رحيل هذا “الساحر” العظيم الذى استطاع تفجير كل ما هو جميل وإنسانى ونبيل بين رفاقه، أجدنى مأخوذاً بالحديث عن مواقف كثيرة لكنى ، ولضيق المساحة، سأتحدث عن أحدها الذى يكشف تفرد شخصية جورج اسحق وقدرته على فرز المواقف وبناء التحالفات.
حدث هذا الموقف عندما قررت “الجبهة الوطنية للتغيير” التى تأسست عام 2005 بزعامة الدكتور عزيز صدقى رئيس وزراء مصر الأسبق، تشكيل تحالف انتخابى وطنى عريض يخوض الانتخابات النيابية بقائمة موحدة ضد الحزب الوطنى الحاكم، تواصلوا مع كل القوى السياسية وحصلوا على موافقات، ولم يتبق غير حزب التجمع وجماعة الإخوان، فشكلوا وفداً للتواصل مع الطرفين من الدكتور يحيى الجمل (عليه رحمة الله) وجورج اسحق ومحمد السعيد إدريس. ذهبنا باكراً إلى الدكتور رفعت السعيد (رحمه الله) فى مقر حزب التجمع وعرضنا الأمر عليه فوافق شرط أن يكون لهذا التحالف الانتخابى برنامجاً سياسياً ، وعندما أخبرته أننى من سيكتب هذا البرنامج وسيراجعه الدكتور يحيى الجمل وافق فوراً، وبالتالى انتقلنا إلى مقر الإخوان فى حى منيل الروضة وكانت المفارقة وكانت تجليات جورج اسحق .
دخلنا إلى مقر الإخوان لحظة الإقامة لصلاة الظهر، ولم يكن أمامنا اختيار غير الدخول فى الصفوف ولحسن الحظ كنا على وضوء أنا والدكتور يحيى الجمل الذى دخل مباشرة فى الصلاة، وتذكرت أنا أمر جورج اسحق ، ماذا سيفعل، فداعبته بجذبه للدخول معنا فى الصلاة وهو يتهرب من الموقف قائلاً “عيب يا محمد” قلت له “إذا ما دخلتش معنا فى الصلاة لن يستقبلونا” .. ضحك ونزع ذراعه منى واستبقنا إلى غرفة الاجتماعات حيث مقر المرشد محمد مهدى عاكف الذى كان يؤم الصلاة، وبعدها كان اللقاء العاصف على العكس تماماً من لقائنا مع الدكتور رفعت السعيد.
أخذت أنا مبادرة الحديث وحاولت تخفيف وطأة ما جئنا من أجله بمداعبة المرشد مهدى عاكف حيث قدمت زملائى وقلت أستاذنا الدكتور يحيى الجمل، وفضيلة الأستاذ جورج اسحق منسق كفاية، وأنا فلان، انفجر المرشد وبعض الحضور بالضحك، قلت لهم انتم عندكم “فضيلة المرشد” واحنا عندنا “فضيلة المنسق” . كانت بداية مريحة، وعرض الدكتور يحيى الجمل الأمر، وقال أننا نريد خوض الانتخابات البرلمانية بقائمة انتخابية وطنية موحدة، فرد المرشد: “للأسف.. نحن اخترنا قائمتنا واخترنا شعارنا، ويمكننا التنسيق معكم فى بعض الدوائر” ثم تدخل الدكتور محمد مرسى متحدثاً باستعلاء “نحن ندعوا ولا ندعى” ، أى أن أى مبادرة للعمل الوطنى يجب أن تكون إخوانية كى تنجح، وهنا جاء دور جورج اسحق الذى انتفض مثل الأسد الغاضب قائلاً: “اللقاء انتهى”.
فعلاً انتهى اللقاء00 وانتهت معه أشياء كثيرة أبرزها أن جورج رحل قبل أن يكتمل المشوار .
د. محمد السعيد إدريس