ينطلق تناولنا للموضوع من فرضيَّة ما يحمله مفهوم جودة الحياة في مُدُن المستقبل من مدلولات أخرى، تفوق المعايير التي التزمتها مُدُن المستقبل في كونها مُدُنًا ذكيَّة نابضة بالحياة، ومستدامة قابلة للتكيُّف، تتميز بوجود بيئة إسكانيَّة وعمرانيَّة ذات جودة عالية للعيش والعمل والترفيه، وبتوافر الخدمات الأساسيَّة المتطوِّرة، والمعتمِدة على التقنيَّة الحديثة بما تتضمنه من فرص التطوير النَّوعي المكاني والاجتماعي والاقتصادي، وقدرتها على الوفاء بالتزاماتها نَحْوَ الإنسان في ظلِّ بيئات إسكانيَّة نموذجيَّة قادرة على تعويضه صخب المُدُن العامَّة، والازدحام المروري والاكتظاظ السكَّاني وقلَّة المتنفَّسات التي تتيح له ممارسة هواياته الحياتيَّة اليوميَّة كاستخدام الدراجات ورياضة المشي أو توفير الملاعب والمتنزَّهات وبيئات الاستجمام والمسطَّحات الخضراء، وغيرها كثير ممَّا يوفِّر للسكَّان الاستقرار النَّفْسي والفكري، ويضْمَن بناء مُجتمعات سكنيَّة تستوعب في أحيائها سكَّانًا عالميين متعدِّدي الأمزجة متنوِّعي الأنماط الفكريَّة والثقافيَّة.
ذلك أنَّ اختزال مفهوم جودة الحياة وتحجيمه في اكتمال حصول الفرد على مسكن ملائم ومبنى آمن ومركبة فارهة وبيئات إسكان وتسوُّق واستجمام ومرافق تفاعليَّة مغلقة، وتكوين مساحة لتعزيز الصحَّة النَّفْسيَّة والأُسريَّة، قد لا يعطي إجابة صادقة للمفهوم ولا يصل إلى مؤشِّرات تحقُّق عالية في قياسه. فوجود هذه المعطيات ليس الغاية النهائيَّة الضَّامنة لاستدامة السَّلام الداخلي والاستقرار النَّفْسي والأمن الشخصي، بل هي وسيلة للوصول إلى الحدِّ الأدنى من العيش الكريم والحياة الآمنة، فإنَّ جودة الحياة لا تكتمل إن لَمْ يرافقها امتلاك مُدُن المستقبل لمنظومة قِيَميَّة وأخلاقيَّة تتكيَّف مع طبيعة المهام والمتغيِّرات والمسؤوليَّات التي تتطلَّبها منظومة العيش في هذه المُدُن، بحيث ترافق سكَّانها في أسلوب حياتهم، واستراتيجيَّات عملهم، ومنظومة تفاعلاتهم وعلاقاتهم، وطريقة تعاملهم مع الظروف والمتغيِّرات والأزمات والمواقف، ومستوى ما يحملونه من حسِّ المسؤوليَّة وفِقْه الالتزام ونهضة المبادئ وثقافة الفريق، وحسِّ الشعور بالآخر، وعَبْرَ تقديم القِيَم كنموذج حياة في الممارسة البيئيَّة والعمرانيَّة في مُدُن المستقبل؛ باعتبارها الحلقة الأقوى في استدامة هذا الشعور، وتقوية خيوط الترابط والتكامل في قراءة محتوى هذه المُدُن ومرافقها ليتماهى مع الذائقة الإنسانيَّة ويتناغم مع مفرداتها؛ ذلك أنَّ تعزيز مفهوم أنسنة المُدُن وجعلها موجَّهة لخدمة الإنسان، إنَّما يقوم على الاعتراف بأهمِّية استنطاق القِيَم واستحضار الأخلاق وتجسيدها في مخطَّطات هذه المُدُن والتصميم المعماري لها ومسارات التخطيط والتطوير العقاري والبنية الهيكليَّة في مُكوِّناتها، فتتأصَّل في الصورة النموذج للممارسة الواعية في حياة الفرد، الأمْرُ الذي يُكسِب مفهوم جودة الحياة عمقًا أكثر، ويضيف إليها نكهات أكثر تنوُّعًا في اختيار البدائل، وأقدر على استنطاق الشعور الإيجابي والفأل الحسَن وخلق مفهوم أعمق للبيئة الصديقة للإنسان.
ويبقى مفهوم جودة الحياة في مُدُن المستقبل الذكيَّة محطَّة مُتجدِّدة بحاجة إلى ممكّنات أخرى خارج إطار هياكل البناء والمخطَّطات الهندسيَّة ورسومات المسَّاحين والمخطِّطين واشتراطات البناء والمعايير التي تلتزمها عمليَّات التنفيذ والتصميم والديكورات وغيرها كثير؛ إنَّها بحاجة إلى بُعد قِيَمي يستنطق فيها المبادئ، ويستحضر فيها الأخلاق ويتقاسم فيها مع الآخرين إنسانيَّة المواقف وصدق الشعور، في إعادة إنتاج المادَّة الخام والفرص الهامدة والخيارات الهاملة بطريقة تبعث فيها روح الحياة، وتُعِيد إنتاجها بلغة السَّلام الداخلي والتفاعل العفوي الذي ينعكس على طريق العيش وأساليب التفكير ونمط التفاعل، بما يُعِيد مفهوم الهدف من وجود هذه المُجتمعات في هذه المُدُن، فهو وجود يحمل في طيَّاته مساحات أوسع ونماذج أكفأ للعيش والحوار والتكامل وتقاسم المسؤوليَّات وبناء أرضيَّات أوسع للنهوض بهذا المُجتمع الإسكاني ليشكِّلَ نموذجًا فريدًا في خلق الفرص وصناعة البدائل وتقديم المبادرات، ورفع درجة الاتصاليَّة القائمة بَيْنَ القاطنين في الأحياء السَّكنيَّة في هذه المُدُن، القائمة على روح التآلف والودِّ والرحمة والحُبِّ والإحساس بالآخرين وتقدير ظروفهم ومراعاة أذواقهم، وإدراك خصوصيَّتهم، وينتقل في تحقيق هذه الفرص من استشعار مسؤوليَّاته الاجتماعيَّة والأخلاقيَّة نَحْوَ الآخرين، وعَبْرَ العمل التطوُّعي الخيري والاندماج في المُجتمع والارتباط بأفراده فسعادته إنَّما تتحقق بسعادتهم، وجودة الحياة التي يريدها إنَّما تبرز واجباته نَحْوَ الأرض والبيئة والناس والثوابت والفرص والموارد والإمكانات، فيعمل على التثمير فيها والمحافظة على وجودها ونظارتها وإشراقتها، فتنتفي فكرة الأنانيَّة وشخصنة السلوك، وتنصهر المنافسة القائمة على الأنانيَّة والصراع مع الجيران والنزاعات والاختلافات. لذلك نعتقد بأنَّ تحقيق جودة الحياة في البيئة المكانيَّة مرهون بالبيئة الروحيَّة والوجدانيَّة فيما تحمله من حسِّ التغيير النابعة من التزام الفرد بالقِيَم والمبادئ والأخلاق التي تحفظ حقَّ هذا المكان نظيفًا آمنًا ينعم بجماليَّاته ويحافظ على رونقه ويُشعِر القاطنين فيه بالاستقرار فتتجسَّد أخلاقًا تمشي على الأرض، فيصفو قلبه، وتتبارك حياته، وتسعد أوقاته، ويتفاعل معه جيرانه بالسؤال عنه والسَّلام عليه.
من هنا نعتقد بأنَّ تقديم الأخلاق والقِيَم كنموذج لجودة الحياة في الممارسات البيئيَّة والعمرانيَّة سوف يصنع لمفهوم جودة الحياة قوَّة ويبني على تحقُّقها الكثير من الشواهد الإيجابيَّة والممارسات المُثلى التي تتجلَّى فيها قِيَم الإنسانيَّة وتنتزع منها سلوك الأنانيَّة والفوقيَّة والفردانيَّة التي يعيشها الأفراد في هذه المُدُن لِما يمنحهم وجودهم فيها من استحقاق مكاني قد لا يتوافر في البيئات الإسكانيَّة الأخرى كما يمكن أن يسمِّيها البعض مُدُن الطبقة المخمليَّة في المُجتمع، وما يتيحه وجودهم في هذه البيئات من حصولهم على ميزات تنافسيَّة وامتيازات وفرص ومحفِّزات تشجيعيَّة لا تحصل في البيئات العامَّة، وبالتالي أن تكُونَ هذه المدخلات القِيَميَّة والأخلاقيَّة بما فيها من قِيَم السَّلام والاحترام والتعايش والوئام والتسامح والشراكة والمسؤوليَّة والاحتواء والتطوُّع، والعلاقات الاجتماعيَّة، والتكافل الاجتماعي، والبساطة والإيجابيَّة والتفاؤلية وغيرها لتتجسَّد في بيئة المُدُن ومرافقها، مرتكزات أصيلة يجِبُ أن تكُونَ حاضرة في سلوك السكَّان، هذا الأمْرُ من شأنه أن يضْمَنَ استنطاق القِيَم وتجسيدها في إثبات بصمة قوَّة وحضور في مختلف المواقف التي يتعامل فيها الفرد، مراعيًا مبدأ الخصوصيَّة واحترام الآخر، وتشجيع القاطنين في هذه المُدُن على إقامة فعاليَّات وبرامج مشتركة تضْمَن مزيدًا من الانسياب في حركة العلاقات وجسور التواصل والتكامل بَيْنَ سكَّان هذه المُدُن، انسجامًا مع ما فيها من انسيابيَّة المداخل والمخارج وحركة التنقل بالمركبات والدَّراجات الهوائيَّة والسكوترات والحركة المروريَّة أو التنقل عَبْرَ رياضة المشي؛ محطَّات يصبح فيها مفهوم التناصح والتواصي بالحقِّ والتواصي بالصبر مساحات أمان تجسِّد بعُمق أنسنة هذه المُدُن وجعلها ملائمة للعيش، منتجة للفرص، وصالحة للحياة في أبعادها الصحيَّة والنفسيَّة والجسديَّة والفكريَّة وحجم التفاعلات البَيْنَية التي تعطي مؤشِّرات عميقة في قوَّة العلاقات الاجتماعيَّة. فإنَّ إغفال البُعد القِيَمي والأخلاقي والسلوكي والثقافة المُجتمعيَّة الحاضنة لجودة السلوك، وتأصيل مفهوم الجَمال الروحي على جَماليَّات المظهر العام، أو أن يكُونَ المظهر العام بما فيه من بيئات خضراء ومسطَّحات مائيَّة وغيرها نموذجًا يعكس البناء الداخلي لسكَّان هذه المُدُن.
وعليه، فإنَّ المحافظة على درجة التوازنات في صناعة جودة الحياة في عمليَّة التخطيط الحضري لمُدُن المستقبل يستدعي الانطلاق من موجِّهات تخطيطيَّة واستشرافيَّة وتنظيميَّة وترويحيَّة تأخذ في الاعتبار نموذج الثقافة العُمانيَّة الأصيلة وما جسَّدته في مخطَّطاتها العمرانيَّة من مسارات، مراعيةً للبُعد القِيَمي والاجتماعي وخصوصيَّة الثقافة المُجتمعيَّة، وإعادة تنظيمها وضبط الانحرافات الناتجة عنْها بما يحافظ على هذه الخصوصيَّة والذائقة القِيَمية في تصميم المنازل والموافقات على الخرائط الإسكانيَّة والتجاريَّة، فتحترم التراث، وتحافظ على درجة التوازنات في العلاقات، وتنمو فيها مساحات العمل مع الآخر وفرص الالتقاء به، وتنمو ثقافة العمل التطوُّعي وتزدهر الفِرَق الخيريَّة والمبادرات الشَّعبيَّة وجاهزيَّتها في التعامل مع الظروف لِتُشكِّلَ هذه المُدُن بيئات مساندة للمُجتمع الذي توجد فيه أو البيئة المكانيَّة التي تُمثِّلها ضِمْن حوزة المدينة الأُم، إذ من شأن هذه اللطائف الفنيَّة أن تُسهمَ في إعادة تصحيح الممارسات الحاصلة، وإعادة التصميم الخارجي للمباني السَّكنيَّة والتجاريَّة والمُجمَّعات السَّكنيَّة بحيث تحافظ على مستوى الخصوصيَّة مع الاستمرار في إبراز النسيج الحياتي للمُدُن العصريَّة الذَّكيَّة والتنظيم العمراني الذي يستوعب احتياجات الإنسان ويُلبِّي متطلَّباته، ويعترف بحقوقه في الحصول على بيئة إسكانيَّة هادئة تحفظ له مساحة أكبر من الخصوصيَّة وتُحقِّق له معايير جودة الحياة، مستفيدًا من كُلِّ الفرص المتاحة والتثمير فيها لمزيدٍ من الأمن والاستقرار والعيش الكريم.
إنَّ ما يتمُّ إسقاطه حَوْلَ حركة التفاعلات الحاصلة في هذه المُدُن وأحيائها السَّكنيَّة في سلوك الطبقة المخمليَّة في مُجتمع هذه المُدُن، وحالة الأنانيَّة والمزاجيَّة والأثَرَة والفردانيَّة والسلطويَّة التي تعيشها يؤكِّد أهمِّية القِيَم والأخلاق كمعايير في قياس جودة الحياة وبناء ثقافة نوعيَّة واقعيَّة في سكَّان هذه المُجتمعات، لِيتَّجهَ التنافس الأهمُّ في هذه المعادلة الإسكانيَّة إلى قوَّة ما تغرسه في دواخلهم من مَعين القِيَم ونُبل الأخلاق وفرص التكامل. فمع كُلِّ الفرص التي تتاح لمُدُن المستقبل إلَّا أنَّ توظيف هذه الفرص من أجْل سعادة الإنسان وأمانه وأمنه واستقراره وشعوره باستحقاقات السَّلام الداخلي لا يمكن أن يتحققَ في ظلِّ غياب المشتركات القِيَميَّة والتآلف الاجتماعي وتفاعل الأُطر البَيْنَيَّة، فهي بحاجة إلى القِيَم التي تُرقق النَّفْس، وتحفظ الودَّ، وتؤصِّل المبدأ، وتحافظ على علاقات الترابط والتكامل، وتزرع بذور الأمل، وتفتح نوافذ الإيجابيَّة، ويتخلَّى فيها الفرد عن حالة الإفراط أو التفريط ولغة الغرور. وبالتالي إلى أيِّ مدى سوف تستدرك الجهود المتَّخذة من جهات الاختصاص في تأكيد حضور مُدُن المستقبل في الخريطة الإسكانيَّة والعمرانيَّة في سلطنة عُمان، وطبيعة التحوُّلات الحاصلة في تحديد مؤشِّرات جودة الحياة، مددًا يُعِيد إنتاج الممارسة الإسكانيَّة ويستنطق روح التغيير النابعة من إرادة صادقة وشعور أصيل وأخلاق عالية والتزام ذاتي في تحويل السياق القِيَمي إلى التطبيق وتجسيدها في تفاصيل السلوك اليومي الممارس في هذه المُدُن، بحيث تتفاعل مع الفرد بطريقة منهجيَّة، وممارسة معقولة يترجمها في سلوكه بطريقة ذاتيَّة ذكيَّة، وفق منهجيَّة واضحة ومبادئ راقية، ورقابة والتزام واستدامة لا تتأثر بالظروف والأحوال.
إنَّها دعوة إلى المخطِّطين والمهندسين المعماريين في الانطلاقة من تآلفيَّة القِيَم مع البنية التنظيميَّة للتخطيط الإسكاني والعمراني الحضري، واستحضار تأثيرها في تشكيل هُوِيَّة وسلوك وثقافة وأمزجة وأذواق وتفاعلات القاطنين في هذه المُدُن.
د.رجب بن علي العويسي