نحن في مرحلة تاريخية حساسة وخطيرة، وأسئلة الناس كثيرة ومحقة، لكن هناك التباسات عديدة لدى طيف واسع بما في ذلك للأسف النُخب التي يفترض بها أن تقود الرأي العام، ومع ذلك لا يمكن التقليل من صعوبة الواقع ومرارته، ولقاء الجمهور في هذه الأيام صعب للغاية لا بل يحتاج لشجاعة كبيرة، وضمن هذا الإطار دعاني فرع حزب البعث العربي الاشتراكي في اللاذقية لملتقى البعث للحوار، وسأحاول في مقالي نقل نبض الناس بأمانة ودقة، والحوار الذي دار أول من أمس الثلاثاء، حيث طرح أحد الرفاق الشيوعيين مسألة تراجع الأرضية الشعبية، وأشار لتفهمه للعوامل الموضوعية التي تمر بها سورية، لكنه ركز على العوامل الذاتية وعلى منظومة الفساد التي تنهش في قوت الناس، وإمكانات الدولة، كما أكد أن القطاع العام أساس قوة الدولة، محذراً من أن الحيتان سيأخذوننا إلى مصير مجهول!
هذه المقاربة من أحد الرفاق الشيوعيين تكرر نغمها لدى البعثيين وغيرهم متسائلاً أحدهم عمن يخطط ويقرر في هذا البلد، ومعتبراً أن المساحة التي تسيطر عليها الدولة السورية غير مستثمرة بشكل صحيح! ثم تساءل عن دور الفكر في توجيه الاقتصاد وخلط الأمر مع العلمانية، من دون أن أفهم الربط بين الاثنتين، لكني أنقل بأمانة ما دار من حوارات!
أعاد أحد المداخلين الكرة مرة أخرى حول موضوع الفساد، معتبراً أن الظروف الموضوعية لانتشار الفساد ما تزال موجودة، وأن المطلوب تجفيف المستنقع كي تنتهي الملاريا؟ لينتقل مداخل آخر ويحدثنا عن أهمية الاشتراكية محملاً السياسات الحكومية المسؤولية عما وصلنا إليه، لأن اقتصاد السوق الاجتماعي برأيه كان السبب فيما يحدث الآن! كما طُرحت قضايا ترتبط بتحفيز الشباب، وإصدار تشريعات خاصة بذلك، وحذر آخرون من موضوع الخصخصة، وبيع القطاع العام كخيار أصبح واضحاً وبارزاً، مع التأكيد على محاسبة الفاسدين.
الحقيقة أنني كنت أمام طوفان من الأسئلة والمداخلات، بعضها محق جداً، وقليل منها ما طرح حلولاً ومخارج، لا بل كان جو القاعة لاهباً بسبب الواقع الصعب جداً للناس التي لا تريد معرفة الأسباب الحقيقية، وتبحث عن مشجب لإلقاء المسؤوليات، وهذا جو طبيعي لواقع اقتصادي صعب ومرير، وتراجع في مستوى دخل الفرد إلى حد لم يعد يغطي الحد الأدنى لحاجات الإنسان، ولكن علينا أن نواجه الحقائق العلمية والموضوعية بوضوح شديد، والوقت الآن ليس للمزايدات والخطابات الرنانة، بل لتحمل المسؤوليات جميعاً حكومة، ومنظمات، ونقابات، ومجتمعاً أهلياً، وبلديات أي إدارات محلية، وأحزاباً، وقوى مجتمعية، كما تحملنا جميعاً كلاً في مجاله فترة الحرب الإرهابية، وهنا سأشير إلى نقاط جوهرية لابد من إيضاحها للرأي العام من دون مزايدة على أحد، وأقدّمها بصدق، ووضوح شديدين:
1- يجب التمييز في التحليل بين الظروف الموضوعية للحرب على سورية، والعوامل الذاتية، ففي الجانب الموضوعي لا يمكن إنكار أن الاحتلال الأميركي يسطو على ثروات سورية، حيث كان لدينا قبل الحرب 380 ألف برميل، وأصبحت الآن 24 ألف برميل، أي أن سورية كان لديها حوامل الطاقة التي تؤمن لمواطنها واقتصادها مصادر طاقة رخيصة تمكنه من الثبات، والصمود، وإذا أضفنا لكل ذلك الغلة الزراعية من قمح وقطن وموارد مائية وكهربائية، اتضحت لنا حقيقة موضوعية لا يمكن إنكارها، والجانب الآخر أن هذا المحتل الغاشم يريد ربط جنوب سورية مع شمالها الشرقي لإغلاق الحدود مع العراق، وبالتالي بتر جزء من الجسد السوري، وحصر السوريين باتجاه البحر الذي يحاصره أيضاً من خلال أسطوله البحري.
إذا أضفنا لكل ذلك الاحتلال التركي، والموارد الموجودة في إدلب وريفها، وريف حلب نصل لنتيجة أن 60 بالمئة لا بل إن بعض الاقتصاديين قالوا لي: 80 بالمئة من الموارد السورية محتجزة لدى قوى الاحتلال المختلفة.
2- شكّل الحصار الاقتصادي، والمالي الظالم الأميركي- الغربي، والإقليمي، أداة خطرة ومؤثرة على بنية الاقتصاد السوري، إضافة لعوامل العزل مثل الطيران والبر والبحر، مع تجفيف متعمد للعملة الصعبة وصلت لحد إفلاس البنوك اللبنانية لضرب سورية ولبنان في لعبة مالية قذرة، مع استهداف مرفأ بيروت بعمل عدواني لقطع الرئة والمتنفس للاقتصاد السوري.
3- ضمن إطار هذا الواقع الموضوعي الذي أنتج أرقاماً تقول إننا نصدر بـ600 مليون دولار، ونستورد بـ4.5 مليارات يورو أي قرابة 5 مليارات دولار، وهو عجز مخيف جداً لابد من خفضه على مراحل كي لا نصل لمرحلة أكثر خطورة!
4- هناك سياسات اتبعت عبر عقود من الزمن ندفع ثمنها الآن، وهي التوظيف الاجتماعي الذي حول كتلة كبيرة من السوريين إلى موظفين غير منتجين، يعيشون على الراتب الشهري لأننا قلنا لهم إن الدولة هي الأب والأم سوف تعلمك، وتطعمك، وتعطيك راتبك، وإن شئت سوف تزوجك! وليس لديك أي التزام سوى أن تأخذ من دون أن تعطي، أي حقوق دون واجبات؟ هنا دعوني أضرب مثالاً واحداً فقط، هل هناك دولة في العالم تنفق من مواردها على مئات وآلاف الأطباء كي تصدرهم إلى ألمانيا والغرب، مجاناً من دون مقابل، ومن دون التزام؟ نستطيع أن نقيس ونضرب الكثير من الأمثلة التي تراكمت عبر سنوات وعقود من دون أن يحرك أحد ساكناً، أضف إلى ذلك دور الدولة الأبوي لا يعني أن تتحول الدولة ومؤسساتها إلى تكايا لموظفين لا ينتجون شيئاً، بل شكّلوا كتلة بيروقراطية كبيرة وغير مؤهلة لا نستطيع الآن التعامل معها سوى بإعطائها الحد الأدنى للمعيشة، لا بل تحت الأدنى.
إن دور الدولة الأبوي ليس بهذا الشكل المشوه، بل هو من خلال تسهيل الأعمال للناس، والتشريع، والتنظيم، والأهم إعادة توزيع الثروة عبر سياسة ضريبية عادلة، تأخذ من الغني وتعطي الفئات الأكثر هشاشة، ليس إعاشة وسكراً ورزاً وزيتاً، ولكن تعطيهم دورات تمكين بالمهن، والزراعة، والصناعة، والتعليم الفني، والأعمال الحرة كي يتحول كل فرد في المجتمع إلى منتج وليس عالة على الدولة، أي إن الراتب المجزي الذي نبحث عنه لا يمكن أن يتحقق إيديولوجياً، وسياسياً، بل بالمنظار الاقتصادي الذي يعرف لغة الأرقام، والكفاءة، والربح، والتنافسية، والفكرة هنا كي لا يفهمنا أحد بشكل خاطئ أن ما كان يصلح في السبعينيات والثمانينيات قد لا يصلح في القرن الـ21، وفي عصر تقانات المعلومات، والذكاء الصنعي، أي نحن بحاجة لإعادة النظر في الكثير من السياسات التي تحتاج إلى رؤية جديدة، لكن الزمن صعب جداً ودور الدولة بمفهوم التكية يجب أن ينتهي، قد لا يكون الآن، لكن في المستقبل بالتأكيد.
5- لا يشك أحد أن القطاع العام أساسي وحامل مهم للاقتصاد الوطني، لكن المطلوب ألا يشكل مصدراً للاستنزاف، بل داعماً مهماً، وهنا لابد من تحديد المجالات الإستراتيجية التي يجب أن تكون قطاعاً عاماً، والمجالات التي يجب أن تترك للقطاع الخاص، وهذه مسألة تحتاج للبحث، ويجري العمل عليها كما أعرف.
6- إن ما طرحته خلال نقاشي في اللاذقية، سؤال مركزي ماذا بإمكاننا أن نفعل؟ فشتم الحكومة لن يحل المشكلة، وإلقاء المسؤوليات هنا وهناك لن يجلب الرخاء والسعادة، بل لابد من التفكير وطرح الحلول في هذا الزمن الصعب، ففي زمن الرخاء من السهل إيجاد الحلول، وسأحاول أن أقدم بعض الأفكار التي يطرحها الناس، وأسمعها منهم خلال اللقاءات أو عبر وسائل التواصل، منها مثلاً:
- تسهيل الأعمال الصغيرة والمتوسطة للمواطن، وتشجيعه على الإنتاج الزراعي والصناعي، والخدمي، أو أي شكل آخر، ورفع سلطة البيروقراطية الإدارية، وغيرها التي تعيق هنا وهناك.
- الدفع نحو اقتصاديات المكان، المحليات، ونقل الثقل من المركز إلى الأطراف، أي إطلاق طاقات الإدارات المحلية باتجاه تذليل العقبات، وتشجيع المجتمع الأهلي على أخذ جزء من المسؤولية.
- التعامل بقسوة مع كبار الفاسدين باتجاه عقوبات قانونية صارمة، والتركيز على توجيه المال العام نحو قطاعات إنتاجية.
- التركيز على قطاع الزراعة باعتباره حاملاً أساسياً في الاقتصاد السوري، واتباع سياسات خارج إطار المتبع، والذي فيه منافذ فساد كبيرة بما في ذلك طرق الدعم لهذا القطاع.
هذه بعض المقترحات العاجلة التي لامستها من خلال الحوار مع الناس في أكثر من مكان، والتي تحتاج إلى سياسات تنفيذية واضحة، وصارمة، وتركز على النتائج الفعلية والملموسة القابلة للقياس بعيداً عن لغة الخطابات والوعود، فالناس تريد أفعالاً وليس أقوالاً، فالمسؤولية علينا جميعاً كل حسب موقعه من خلال إنتاج الحلول، وابتكارها، وليس صب الزيت على النار كما يتوهم البعض، أو يحاول ذلك عبر وسائل التواصل الاجتماعي، فالنقد أكثر من مطلوب، ومُلحّ لكن بشرط أن يكون موضوعياً وعلمياً، ويقدم الحلول، وأما الجهات التنفيذية والحكومية فدورها تطبيق مبدأ «دعه يعمل.. دعه يمر» من دون تعقيد أمور الناس، وزيادة الطين بلّة.
د. بسام أبو عبدالله