في غياهب الزمن وأروقة التاريخ، تسللت قضايا تعدد الزوجات إلى صروح المجتمعات، محملة بأعباء وتحديات تتنوع بين الشرعية والقانونية، تلك القضية التي جسدتها الروايات والقصائد بألوانٍ مختلفة، ملتقطةً الألم والحيرة من بين صفحاتها، مترجمةً للأوجاع والتناقضات التي تحيط بها.
في حكايا الزمن، تتفرّد هذه القضية بأبعادٍ فلسفية تتعانق مع العدالة والإنصاف، تلك القيم التي يسعى القانون والشريعة إلى تحقيقها في حياة البشر، إنّها ليست مجرد قضية شخصية أو عاطفية، بل هي تمثل تحدياً كبيراً يطال الأسرة بأكملها وحقوق أفرادها، ولا يمكن التغاضي عن أثرها العميق على المجتمعات، كما تفتح تلك القضية أبواب التفكير في كيفية توفير المساواة والعدالة بين الأزواج والزوجات، وضمان حقوق الأطفال في الأسر المتعددة، ما يجعلها محط اهتمام العلماء والفلاسفة والقانونيين على حد سواء، في سعيهم لإيجاد الحلول المناسبة التي تحقق التوازن بين الأحكام الدينية والقوانين المدنية، وتحافظ على مبادئ العدل والإنصاف في المجتمعات المعاصرة.
بالتالي، تسود في العديد من الحالات بين الزوجات حالات التنافر والتعمد لإلحاق الضرر ببعضهن، وبناءً على هذا السياق، فإن سكن الزوجة مع ضرتها قد ينجم عنه تفاقم الوضع بشكل كبير، واستجابة لهذه القضية، صاغت التشريعات القانونية قوانين تحد من إمكانية إسكان الزوجة مع ضرتها إلا بموافقتهما، وبعد الحصول على موافقة الزوجتين الضرتين، يُمكن للزوجة بموجب القانون أن تطلب العدول عن موافقتها وتطالب بسكن مستقل عن ضرتها، وفيما يتعلق بحقوق الزوجة في حالة السكن مع ضرتها، فإنها تحق لها أن تترك بيت الزوجية، ولا يُعتبر وجودها في هذه الحالة مخالفة للأنظمة القانونية المتعلقة بالنشوز.
في الفقه الإسلامي، يُعتبر الزواج أساساً لبناء الأسرة المسلمة، حيث يسعى لتحقيق العشرة الصالحة والمودة والرحمة بين الزوجين، وتعتبر الزوجة شريكاً في هذه البنية المجتمعية المبنية على الأسس الإسلامية، وينص الفقه الإسلامي على أن الزوج ملزم بالعدل والمساواة في الإنفاق على زوجاته، بما في ذلك توفير سكن مناسب لكل واحدة منهن، كما يشترط في السكن الشرعي أن يكون مستقلاً وآمناً، حيث يمكن للزوجة فيه العيش بأمان لها ولأسرتها، ويُعتبر الضرر بين الزوجات تصرفاً مُحتملاً، وتحظر الشريعة الإسلامية الضرر وتُلزم بتجنبه ورفعه إذا حدث، وبناءً على هذا، يُفتى بعدم جواز إسكان الزوجة مع ضرتها إلا بموافقتهما، ويُسمح للزوجة بطلب سكن مستقل حتى إذا مضت قبولاً سابقاً على السكن مع ضرتها.
وفي إطار قانون الأحوال الشخصية، الذي يتبع المنهج الفقهي الإسلامي في هذا السياق، تمنح القوانين الزوج حق إسكان الزوجة مع ضرتها في سكن واحد شريطة أن يكون هذا الترتيب موافقاً لإرادة الزوجتين، وعلى الرغم من الرضاء المسبق بالسكن مع الضرة، فإن ذلك لا يُلغي حق الزوجة في التراجع عن موافقتها وطلب سكن مستقل عن الضرة، بالتالي، يُعتبر الأصل في القانون عدم جواز إسكان الزوجة مع ضرتها، مع استثناء السماح بهذا الترتيب في حالة موافقة الزوجتين على ذلك، بالإضافة إلى ذلك، يُمنح القانون الزوجة الراضية حق التراجع عن موافقتها في أي وقت، مما يتيح لها المطالبة بتوفير سكن شرعي مستقل عن سكن الضرة في ذلك الوقت.
وتنص التشريعات في بعض الدول الإسلامية على عدم جواز إسكان الزوجة مع ضرتها، وهذا الموضوع يعكس النهج القانوني المتبع في الفقه الإسلامي، الذي يؤكد أن الأصل هو عدم جواز إسكان الزوجة مع ضرتها في كل الظروف، باستثناء حالة موافقة الزوجتين على ذلك، ومع ذلك، يحق للزوجتين أو أحداهن التراجع عن الموافقة والمطالبة بسكن مستقل عن الضرة الأخرى، ويكمن وراء ذلك حكمة عميقة في الفقه الإسلامي؛ حيث يهدف إلى منع الضرر داخل الأسرة المسلمة وإحلال السلام والتآلف بين الأزواج، تحقيقاً للغاية القرآنية من الزواج في توفير الحب والرحمة والسكينة بين الزوجين، وفقاً لقول الله تبارك تعالى “وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً”.
بناءً على هذه الأسس، يصدر القضاء قرارات يُفتى فيه أن ترك الزوجة منزل الزوجية المشترك مع ضرتها لا يُعتبر نشوزاً، حتى إذا كانت قد وافقت وقبلت السكن مع الضرة، وأمر الحكم الصادر بتوفير سكن مستقل للزوجة بعيداً عن ضرتها، ويبقى الله أعلم بالحقيقة.
وفي إطار التشريع الإسلامي بشكل عام، يعتبر مفهوم عدم جواز إسكان الزوجة مع ضرتها جزءاً من مبادئ العدل والمساواة في الزواج وحماية الأسرة واستقرارها، حيث يسعى التشريع الإسلامي إلى تحقيق هذه المبادئ من خلال تنظيم العلاقات الزوجية والأسرية بما يحقق المودة والرحمة بين الزوجين ويحافظ على استقرار الأسرة كوحدة أساسية في المجتمع.
ويأتي منع إسكان الزوجة مع ضرتها في هذا السياق لحماية حقوق الزوجة وضمان حياة زوجية سليمة ومستقلة. فالزوجة تحظى بحقوقها الشرعية والقانونية التي يجب أن تُحترم وتُحافظ عليها، ومنها حقها في السكن المستقل والآمن الذي يضمن لها الراحة والحماية والخصوصية، وفي الوقت نفسه، يتيح التشريع الإسلامي للزوجة أو لكل من الزوجتين العدول عن موافقتهن على السكن المشترك مع الضرة، مما يعكس مرونة النظام القانوني في معالجة الظروف المتغيرة وضمان حقوق الأفراد.
وبالتالي، فإن توجيهات التشريع الإسلامي في هذا السياق تعكس روح المساواة والعدل بين الأزواج، وتسعى لتحقيق التوازن بين حقوق الزوجة والزوج في إطار حماية الأسرة وتعزيز استقرارها وسلامتها النفسية والاجتماعية.
أما في العصر الحديث، تشهد العديد من المجتمعات تحولات اجتماعية وثقافية تؤثر على نمط الحياة الأسرية، ومن بين هذه التحولات انخفاض تعدد الزوجات بشكل ملحوظ، يعزى ذلك إلى عدة عوامل، منها التقدم في مفهوم العدالة والمساواة بين الجنسين، والتحولات في القيم والمبادئ الاجتماعية، وتطور النظام القانوني الذي يحمي حقوق الزوجات ويضمن معايير العدل في الحياة الزوجية، وإلى جانب ذلك، يعود انخفاض تعدد الزوجات أيضاً إلى تغيرات في البنية الاقتصادية والاجتماعية، حيث يُصبح من الصعب على الرجال تحمل التزامات مالية واجتماعية متعددة تترتب على الزواج من عدة نساء بشكل متزامن، كما أن التقدم في التعليم وتمكين المرأة اجتماعياً واقتصادياً يعزز من استقلاليتها وقدرتها على اختيار نوع العلاقة الزوجية التي ترغب فيها.
وبالتالي، يمكن القول إن انخفاض حالات تعدد الزوجات في العصر الحديث يُظهر تقدماً في مفهوم العدالة والمساواة بين الجنسين، ويعكس تغيرات في القيم الاجتماعية والاقتصادية، مما يسهم في تحسين جودة الحياة الزوجية وتعزيز العلاقات الأسرية بما يتوافق مع مبادئ العدل والتسامح واحترام حقوق الأفراد، رغم أن ذلك إن حدث هو حق مشروع شريطة تحقق شروطه وأهمها المساواة والعدل بين الزوجات.
بالإضافة إلى ذلك، إن تعدد الزوجات قد يؤثر على الأطفال من الناحية الشرعية والقانونية بطرق متعددة:
من الناحية الشرعية:
في النظام الشرعي الإسلامي، يجب على الزوج العدل والمساواة بين زوجاته في جميع الجوانب، بما في ذلك التوزيع العادل للوقت والاهتمام والنفقات على الأطفال، حيث يتعين على الزوج أن يتولى مسؤولياته نحو جميع الأطفال من الزوجات بنفس القدر والعدل، وألا يميز بينهم بناءً على أصل المساواة المشترك في الدين الإسلامي.
من الناحية القانونية:
في القوانين المدنية والأسرية، قد تختلف الأنظمة من دولة إلى أخرى فيما يتعلق بتعدد الزوجات وتأثيره على حقوق الأطفال، وقد توفر بعض القوانين حقوقاً محددة للأطفال من عدة زيجات للوصول إلى الرعاية والنفقة والحضانة بنفس القدر، بينما قد تكون هناك تحديات في تطبيق هذه الحقوق بشكل عملي.
وبشكل عام، يتعين على الأنظمة القانونية في الدول التي تسمح بتعدد الزوجات أن تحدد حقوق الأطفال وتحميها بما يضمن لهم الرعاية والنمو السليمين، مع الحرص على عدم إهمال حقوق أي طفل بسبب وجود أطفال من علاقات زواجية أخرى.
وفي ختام هذا المقال الذي تناول موضوع تعدد الزوجات وتأثيره على الأسرة والأطفال، نجد أن تلك القضية تستحق تفكيراً عميقاً ومناقشة موضوعية تراعي المصالح الشرعية والقانونية على حد سواء.
إن الدمج الفعّال للشريعة الإسلامية مع القوانين المدنية يتطلب التوازن بين القيم الدينية والمبادئ القانونية المعاصرة، مع مراعاة حقوق جميع الأفراد في الأسرة وضمان سلامتهم ورعايتهم بحكمة وعدالة، ومن هذا المنطلق، ينبغي على النظم القانونية إنشاء أطر وآليات لتنظيم شؤون الأسرة المتعددة بطريقة تحقق المساواة والعدالة بين الأزواج والزوجات، وتحمي حقوق الأطفال في هذه الأسر من التمييز والإهمال.
ولن يكون هذا الهدف ممكناً إلا من خلال التعاون والتنسيق بين العلماء الدينيين والمشرعين والمجتمع المدني، بهدف إيجاد الحلول القانونية والشرعية المناسبة التي تضمن استقرار الأسر وسلامتها، وتعزز قيم العدل والإنصاف في المجتمعات المعاصر، لذا، فإن دمج القانون للحؤول دون الوقوع في مشاكل تعدد الزوجات يتطلب رؤية شاملة ومتوازنة، تضمن توافق الأحكام الشرعية والقوانين المدنية مع مبادئ العدل والإنصاف واحترام حقوق الأفراد في الأسرة والمجتمع.
عبدالعزيز بن بدر القطان / كاتب ومفكر – الكويت.