في تتمة سلسلة مقالات فقه مقاصد الشريعة الإسلامية، سنتطرق اليوم إلى كيفية تفعيلها لوصولها إلى أن تكون متاحة لكل الناس عند تنزيل الأحكام، وعند فهم الآيات القرآنية، وعند دراسة الأحاديث، وعند قراءة القرآن الكريم، وعند القاضي والمفتي، وصولاً إلى الإنسان العادي الذي ينبغي أن يعرف مقاصد الأحكام الشرعية ليفهم متى يكون الأمر ومتى يكون النهي، وهو مدركٌ أن ما يقوم به هو “عبادة”، وطاعة الله تبارك وتعالى.
إن المقاصد تطورت من ظاهرةٍ إلى مبحثٍ أصولي في علم أصول الفقه، إلى تطبيقٍ وتنزيل في فقه الشريعة عند فقهاء الإسلام الكبار.
مجدد القرن الخامس الهجري
يعتبر هذا القرن، من القرون الذهبية في تاريخ فقه المسلمين، وفيه تكونت المذاهب وإنتشرت وتأصّلت ودوِّنت أفكارها، وكُتبت مباحثها، ونتج عنها العديد من المؤلفات الكبيرة الموسوعية التي خطها علماء كبار، مثل إمام الحرمين “الإمام الجويني” وهو فقيه شافعي، تربى في بيئةٍ علمية، حيث كان والده من كبار رجالات الفقه الإسلامي، أبو عبدالله الجويني له كتاب مهم جداً في الفروق ما بين الكلمات والألفاظ والمصطلحات الواردة في الفقه والأصول، فعلم الفروق علمٌ مهم جداً وله صلةٌ كبيرة بمبحث المقاصد الشرعية.
الإمام الجويني (419 – 478 هجري) هو أبو المعالي الجويني الملقب بـ”إمام الحرمين” هو عبد الملك بن عبد الله بن يوسف بن عبد الله بن يوسف بن محمد بن حَيُّويَه الجويني، نسبة لجوين من قرى نيسابور، فقيه شافعي وأحد أبرز علماء الدين السنة عامةً والأشاعرة خاصة.
الإمام الجويني، هو شيخ الإمام الغزالي “حجة الإسلام”، وهو صاحب كتاب “إحياء علوم الدين” الشهير، فلقد إستطاع الإمام الجويني أن يقوم بنقلة نوعية، حيث وجدنا أنفسنا أمام فقيهٍ أصولي وعالم بعلم الكلام، وأصول الدين، فلقد إستطاع أن يمزج في منهجه بين التأصيل الذي يحدد الماهية ويحدد المفاهيم ويضبط المصطلحات وبين التطبيق الذي هو تنزيلٌ عملي.
النقلة النوعية التي قام بها الإمام الجويني، هي إدراكه الشديد لأهمية المقاصد الشرعية في دراسة الشريعة وفهمها وتنزيلها في واقع الناس المُعاش، ولذلك نجد عبارة وردت في كتابه الأصولي الشهير “البرهان”: (من لم يتفطّن لمقاصد الشريعة، فإنه لا يستطيع أن يستوعب الأمر والنهي)، وهنا الأمر والنهي أي (أحكام الشرع)، فكل ما يتعلق بالتكليفات الشرعية هي أوامر ونواهي وردت في القرآن الكريم أو في السنة النبوية، لا يمكن إدراكها ومعرفتها معرفةً دقيقة وإستيعابها، إلى أن تتحول إلى أفعال وسلوك، مثل: “أقيموا الصلاة، وآتوا الزكاة، ولا تقربوا الزنى، وغير ذلك).
الشريعة الإسلامية، لم تأتِ لأن تكون أحكامها غير مطبقة، بل جاءت لتطبّق، وتكون سلوكاً يومياً في حياة الناس سواء في مجال العبادات، قال تعالى في محكم كتابه العزيز: “يسألونك عن الأهلّة قل هي مواقيتٌ للناس والحج”، أو في مجال المعاملات.
ونعود للإمام الجويني الذي قام بضبط العديد من المصطلحات، أفرزت عنده ما يمكن تسميته بالتقسيم الذي إتخذه المقاصديون دليلاً في فهم مقاصد الشريعة الإسلامية وذلك بتقسيمها إلى ضروريات وحاجيات وإلى تحسينيات، فالإمام قام بجهودٍ في هذا المجال بإتجاهاتٍ ثلاثة:
الإتجاه الأول، في تأصيل المقاصد، وذلك بضبطها على ضوء المصلحة من خلال التقسيم الثلاثي الذي قام به الإمام الجويني كتقسيم مبدأي، عندما قسّم المصالح، إلى مصالح ضرورية مثل حفظ الدين وحفظ المال، ومصالح حاجية ومصالح تحسينية تكتمل بها الحياة.
الإتجاه الثاني، قام الإمام الجويني بتقديم إضافةٍ أخرى، وهي وضع عدد من القواعد للمقاصد، وتطبيقها تطبيقاً في كتابه الفقهي المشهور الواقع في أكثر من 20 مجلد “نهاية المطلب في دراية المذهب”، وفيه ثروة كبيرة جداً في قواعد المقاصد، وإرتباطها بأبواب الفقه الإسلامي.
الإتجاه الثالث، وهو يتعلق بعملية التطبيق الكاملة التي قام بها الإمام الجويني لنظرته في المقاصد ورؤيته للمصالح الشرعية في كتابه “غياث الأمم في التياث الظلم”، حيث طبق المبادئ والأصول والقواعد المضبوطة وتصحيح المفاهيم لها ومن ثم تنزيلها في مجالاتٍ متعددة، الكتاب يضم قواعد سياسية ويؤصلها ويربط ما بين قيمة العدل ونظرية حفظ الحياة داخل بنية النظام السياسي الإسلامي.
الإمام الجويني يتكلم عن الإمام والخليفة والحاكم من منظور مقاصدي وتبرز هنا قاعدة من قواعد المقاصد الفقهية الكبيرة وهي أن قاعدة تصرف ولي الأمر منوط بمصلحة الرعية، ما يعني أن ولي الأمر في مواقعٍ مختلفة، تصرفه مرتبط بما يتخذه من قرارات، وهذه رؤية مقاصدية واسعة تفتح الباب واسعاً أمام قواعد ضبط المشروعية في النظام السياسي الإسلامي.
كما حرك الأمام الجويني المقاصد ليس فقط من الناحية السياسية، بل من الناحية الإجتماعية أيضاً، مثل الزواج والضرورات والحياة الإنسانية والمعاملات العادية بين الناس عموماً، ثم حركها أيضاً في المجال الإقتصادي وأشار الإمام إلى الكثير من تطبيقات صحابة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، والتي تُتخذ أصولاً في فهم النص القرآني الوارد في كتاب الله وسنة رسول الله.
من هنا، تأتي أهمية الدور الكبير الذي قام به إمام الحرمين، الجويني في تأصيل فقه المقاصد الشرعية سواء في كتابه البرهان، الذي هو من الكتب الأربعة الرئيسية التي يشار إليها على أنها الكتب الأساسية في علم أصول الفقه الذي تناوله بعد ذلك الفقهاء، ثم كتاب “نهاية المطلب في دراية المذهب”، ثم كتاب “غياث الأمم في التياث الظلم”، وبذلك يكون الإمام الجويني قد قدم منظومة متكاملة فيما يتعلق بعملية البناء المقاصدي على مستوى النظرية وعلى مستوى التطبيق.
عبدالعزيز بن بدر القطان / كاتب ومفكر – الكويت.