يواجه لبنان “نكبات” اجتماعية واقتصادية وسياسية جراء تضافر عدة عوامل، من بينها وجود طبقة سياسية “فاسدة”، حسب تعبير روبرت رابيل أستاذ العلوم السياسية بجامعة فلوريدا أتلانتك (Florida Atlantic University).
ومن بين تلك العوامل التي ذكرها الأستاذ الجامعي في مقال بمجلة ناشونال إنترست (National Interest) الأميركية حزب الله الذي يصفه بأنه “طرف فاعل غير حكومي وهو طوع بنان إيران”. هذا إلى جانب نظام العقوبات الذي فرضته عدة دول بقيادة الولايات المتحدة على إيران وحزب الله ووكلائهما.
ويحذر رابيل من أن الوضع الناتج عن تلك النكبات ما لم يعالج سريعا وبحكمة- سيفضي إلى كارثة لا تقل فداحة عن المجاعة الكبرى التي ضربت لبنان إبان الحرب العالمية الأولى (1915-1918) وفتكت بربع سكانه.
وفي حقيقة الأمر أن هذا الوضع ما هو إلا انعكاس للأحوال التي سادت أثناء الحرب العالمية الأولى، وتنداح اليوم -بصورة أو بأخرى- في ظل ظروف مختلفة ولاعبين سياسيين، بحسب الكاتب.
وإذا ما استمرت الولايات المتحدة في كبح جماح ما يُسمى محور المقاومة دون إتاحة منفذ لنجدة اللبنانيين، فإن ذلك سيكون أشبه بالطريقة التي حاولت بها قوات الحلفاء ترويض الحكومة العثمانية في بلاد الشام، وإلا فإن مصيرهم التضحية بهم على مذبح الصراع الأميركي الإيراني على النفوذ في الشرق الأوسط، كما يرى رابيل.
“المجاعة الكبرى”
ويعود كاتب المقال إلى التاريخ ليحكي تفاصيل المجاعة الكبرى التي عانى منها لبنان خلال فترة الحرب العالمية الأولى. وبدأت القصة في بواكير الحرب عندما أغلقت الإمبراطورية العثمانية المتحالفة مع “قوى المحور” آنذاك (ألمانيا والإمبراطورية النمساوية-المجرية)، مضيق الدردنيل الذي يعد ممرا مائيا رئيسيا يربط بين روسيا وحلفائها.
وأكد السفير الأميركي لدى إسطنبول هنري مورغنتاو في ذلك الوقت أن “من شأن هذا التصرف البسيط أن يحرم جيش القيصر من الذخائر الحربية، ويدمر روسيا اقتصاديا بوقف صادراتها من الحبوب، الذي يعد أكبر مصادر ثروتها، ومن ثم يعزلها عن شركائها في الحرب العالمية”.
وردت قوات الحلفاء بقصف التحصينات التركية على طول مضيق الدردنيل، وبفرض حصار على منطقة شرق البحر المتوسط بأسرها لقطع الإمدادات عن العثمانيين.
وخوفا من إنزال الحلفاء قواتهم في بيروت بدعم من الطوائف المسيحية اللبنانية الموالية لفرنسا، فرض جمال باشا الحاكم العسكري العثماني لسوريا الكبرى -التي كانت تضم كلا من لبنان وسوريا وفلسطين- بدوره حصارا على جبل لبنان وبيروت.
وأدى حصار الحلفاء إلى إغلاق خطوط الإمداد إلى المناطق الساحلية لسوريا الكبرى مما أدى إلى توقف حركة السفر من وإلى بيروت، كما توقفت التحويلات المالية القادمة من الخارج، وباتت المواد الغذائية سلعا نادرة، فكان أن انهار اقتصاد بيروت على الفور، ولم يعد الناس قادرين على كسب عيشهم.
ومما زاد الطين بلة، في المقابل، إقدام جمال باشا على إغلاق وادي البقاع -الذي يصفه روبرت رابيل بسلة غذاء لبنان- من جبل لبنان إلى جانب فلسطين وسوريا؛ وحدَّ من نقل المواشي ومنتجاتها، ومنع تصدير الحبوب والقمح إلى جبل لبنان، وفرض رقابة شاملة على المحاصيل، وبخاصة القمح.
وتسبب الحصار في تجويع جماعي، والذي استخدمه جمال باشا كنوع من إستراتيجية الحرب لإرغام المسيحيين على الخضوع له، وقطع أي اتصال لهم بقوى الحلفاء وحرمان قواتهم من المؤن لو قُدِّر لها النزول في بيروت.
كارثة وشيكة
واليوم -يقول رابيل- يتعرض اللبنانيون إلى موقف مماثل، حيث وقعوا بين براثن العقوبات الأميركية ضد إيران ووكلائها في النظام السوري وحزب الله من جهة، ومحور المقاومة الذي يضم أيضا المليشيات العراقية الموالية لطهران، والحكومة السورية وحزب الله من جهة أخرى.
ومما جعل الأوضاع الاقتصادية والسياسية في لبنان لا تطاق وأشد تأثرا بالمواجهات بين الولايات المتحدة وإيران، أنه لم يطرأ تغير كبير في البلاد منذ نيلها استقلالها.
ثم إن الاقتصاد اللبناني، الذي ترتبط عملته الليرة بالدولار الأميركي، ما فتئ معتمدا على الاقتصاد العالمي والنزعة الاستهلاكية. وباتت المشاكل البنيوية التي تعصف بلبنان تحيط بنظام البلاد الطائفي، وظلت دون حل.
وقد أغرى “ضعف” لبنان الدول الأجنبية على التدخل في شؤونه، ولا تزال هويته -رغم أنها عربية في ظاهرها- موضع تنازع، على حد تعبير كاتب المقال.
وإزاء ذلك، تردى لبنان حتى أصبح “دولة فاشلة”، وعجزت ثورة 17 أكتوبر/تشرين الأول حتى الآن عن تخليص البلاد من الطبقة السياسية “الفاسدة” وحزب الله، كما يزعم الكاتب.
وبالمقابل، كان للعقوبات الأميركية على حزب الله تأثير على الشعب أكبر منه على الحزب، الذي استطاع تحصين نفسه -بشكل أو بآخر- عبر إدارته اقتصادا موازيا منفصلا عن مؤسسات الدولة.
ويخاطب روبرت رابيل في مقاله اللبنانيين ناصحا إياهم بأن عليهم أن يدركوا أن تعاملهم مع حزب الله دون معالجة الأخطاء التاريخية لمجتمعهم المتمثلة في ضعف الدولة والقيادة السياسية “الإقطاعية”، والهوية الوطنية المتنازع عليها، أشبه ما يكون بمعالجة الأعراض منه من جذور الداء الذي ابتُلي به لبنان.
وعليه، يكاد يتعذر إقصاء حزب الله دون إغراق البلاد في أتون حرب أهلية، طبقا لمقال ناشونال إنترست.
والحالة هذه، فإن على واشنطن العمل مع منظمات المجتمع المدني للمساعدة في تغيير الأوضاع الاجتماعية والسياسية، التي سمحت لحزب الله وأطراف أخرى غير تابعة للدولة بالازدهار.
وفي حال عدم قيامها بذلك، قد تجد واشنطن نفسها في القريب العاجل شاهدة على كارثة توشك أن تحل على اللبنانيين، لا تقل -وفقا للمقال- عن المجاعة الكبرى التي حدثت إبان الحرب العالمية الأولى.
المزيد من أخبار