إن نظرية فقهاء الشريعة في تحديد رابطة السببية ةالنظرية الفرنسية وقد مضى عليها أكثر من ألف عام، تدل على أنهم كانوا أبعد نظراً وأدق تقديراً للأمور من شراح القانون الوضعي في عصرنا الحاضر.
فالشراح الفرنسيون حتى اليوم لا يقبلون إلا السبب المباشر للقتل؛ أي السبب الذي أنتج الفعل المؤدى للقتل بشرط أن لا يطرأ عليه سبب آخر يؤدي بذاته إلى حدوث النتيجة المتوقعة أو يساعد على حدوثها، فمثلاً إذا ضرب شخص آخر ضربة مميتة، وجاء ثالث قبل أن يموت فقطع رقبته فالثالث هو القاتل؛ لأن السبب الثاني حال بين السبب الأول ونتيجته وقطع عمله، ولأن السبب الثاني هو الذي أدى بذاته إلى القتل، وفي هذا يتفق القانون الفرنسي مع الشريعة. ولكن إذا ضرب الجاني شخصاً أو جرحه فأهمل المجنى عليه العلاج، أو أساء علاج نفسه أو كان مريضاً أو ضعيفاً؛ فساعد إهماله أو سوء علاجه أو مرضه أو ضعفه على الوفاة، فإن الضرب أو الجرح لا يعتبر فى نظر الشراح الفرنسيين سبباً مباشراً للقتل، لأن هناك سبباً أو أسباباً أخرى ساعدت على إحداث القتل وقد لا يحدث القتل لو لم تكن هذه الأسباب وفي هذا تخالف الشريعة القانون الفرنسي لأنها تأخذ بالرأي المضاد.
نقد النظرية الفرنسية
يطبق الشراح الفرنسيون نظريتهم هذه في حالة القتل العمد فقط، ولا يرون بأساً من اعتبار السبب غير المباشر في القتل الخطأ وفي هذه التفرقة وحدها ما يؤكد أن نظريتهم معيبة؛ لأنه إذا كان العدل يقتضي أن لا يقبل إلا السبب المباشر فمن الظلم أن يقبل السبب غير المباشر فى القتل الخطأ، وإذا كان العدل يقتضي أن يقبل السبب غير المباشر في القتل الخطأ فمن الظلم أن لا يقبل في القتل العمد، أما فيما يختص بحالة تعدد الأسباب، فإن فعل الجاني هو السبب الفعال فى الموت، ولولاه لما كانت الأسباب الأخرى فعالة ففعل الجاني وسبب الموت أولاً وأخيراً ومن العدل أن يسأل عن فعله ونتائج فعله.
النظرية الألمانية
الشراح الألمان فيسلمون بالسبب المباشر وغير المباشر، ويرون أن السبب هو كل شرط من شروط نتيجة الفعل المزهق لنفس، لأنه هو الذي جعل الشروط الأخرى سلبية، والفعل عندهم يعتبر قتلاً ولو كان غير كافٍ وحده لإحداث الوفاة أو كانت الوفاة لم تحدث لولا أعمال أخرى اقترنت بهذا الفعل أو تلته، ومن ثم فهم يعتبرون الضارب والجارح مسؤولاً عن القتل، ولو كان الضرب والجرح في ذاته مهلكا لولا ضعف المجني عليه أو إهماله العلاج.
النظرية الانكليزية
يأخذ الإنكليز بالسبب المباشر وغير المباشر، معتبرون الجاني قاتلاً ولو لم يكن الموت نتيجة مباشرة لفعله بل أدت إليه أو ساعدت عليه عوامل أخرى، فإذا اعتدى شخص على آخر اعتداء شديداً حمل المعتدى عليه أن يلقي بنفسه من نافذة أو شرفة ليخلص نفسه من هذا الاعتداء، فإن المعتدي يعتبر قاتلاً إذا مات المعتدى عليه من إلقاء نفسه، كذلك يعتبر الجارح قاتلاً ولو تبين أن المجني عليه أساء علاج نفسه، أو رفض إجراء عملية كان من المرجح أن تؤدي إلى شفائه.
عيوب النظريات الغربية
عيب النظرية الألمانية والإنكليزية، ونظرية الألمان تتفق مع النظرية الإنجكليزية وهما أوسع مدى من النظرية الفرنسية، ويرى الكثير من الشراح أن النظرية الألمانية والإنكليزية أقرب إلى العدل من النظرية الفرنسية؛ لأن الأولى تفتح الباب واسعاً أمام القاضي ليقدر مسؤولية من تسبب في قتل غيره بطريقة غير مباشرة، ولا تسمح بإفلات قاتل من العقاب لأنه استطاع أن يصل إلى غرضه بطريق غير مباشر، ولكن النظرية الألمانية – الإنكليزية بالرغم من ذلك معيبة، وعيبها أنها تسلم بتوالي الأسباب غير المباشرة إلى غير حد يقف عنده هذا التوالي، وقد أدى بها هذا العيب إلى أن تخلق حلولاً يستسيغها العقل ولا تتفق مع العرف، فمثلاً يرى بعض الآخذين بهذه النظرية على إطلاقها أنه يعتبر متسبباً في القتل من جرح غيره جرحاً غير ميت إذا استلزمت حالة الجرح نقله للمستشفى فاحترق المستشفى بمن فيه إذ لولا الجرح لما احترق المجني عليه.
الرأي المعتدل
حاول به أصحابه أن يصلحوا هذا العيب يقوم على أساس أن يكون السبب كافياً لتحقيق النتيجة، فإن كان كافياً فالجاني قاتل، وإن لم يكن كافياً فهو غير قاتل.
وتقيد النظرية بكفاية السبب لتحقيق النتيجة معناه تقيدها بالعرف، لأن مقياس الكفاية ليس مادياً، وإنما هو معنوي يرجع إلى ما تعارف عليه الناس وما تقبله عقولهم وترتاح إليه نفوسهم، وإذا كان العرف هو المقياس الذي تقاس به كفاية الأسباب لتحقيق النتيجة في الشريعة الإسلامية، فمعنى ذلك أن نظرية السببية في القوانين الوضعية تسير الآن في نفس الطريق الذي رسمه فقهاء الشريعة الإسلامية من ألف سنة وأكثر، وأحكام المحاكم المصرية تتفق مع الشريعة الإسلامية فيما يختص بتحديد رابطة السببية واعتبار السبب غير المباشر وتعدد أسباب الوفاة وليس منشأ هذا الاتفاق أن المحاكم المصرية ترجع للفقه الإسلامي وإنما منشؤه أن المحاكم المصرية تفضل في هذه المواضيع النظرية الألمانية – الإنكليزية، على النظرية الفرنسية، والنظرية المفضلة تتفق مع الشريعة الإسلامية؛ فمثلاً حكمت محكمة النقض المصرية في قضية ضرب أفضى إلى موت بأنه “متى ثبت أن الضرب الذي وقع من المتهم هو السبب الأول المحرك لعوامل أخرى تعاونت وإن تنوعت على إحداث وفاة المجنى عليه سواء كان ذلك بطريق مباشر أو غير مباشر، فهو مسؤول جنائياً عن كافة النتائج التي ترتبت على فعله مأخوذاً في ذلك بقصده الاحتمالي لأنه كان من واجبه أن يتوقع كل هذه النتائج الجائزة الحصول.
وأصدرت محكمة جنايات أسيوط حكماً في قضية قتل أشارت فيه إلى الخلاف بين الشراح الفرنسيين من جهة وبين الألمان والإنكليز من جهة أخرى، فيما يتعلق بالسبب وتحديد معنى السببية وقالت: إنها تأخذ بنظرية الألمان والإنكليز لأنها أقرب إلى العدل وتفسح الطريق لمعاقبة من يتسبب في قتل آخر بطريق غير مباشر متى كانت ظروف القتل تدل على أنه قصد ذلك، وحكمت محكمة النقض فى قضية قتل بأن إذا طعن المتهم المجني عليه بسكين متعمداً قتله فأحدث به جرحاً في تجويف الرئة نتجت عنه الوفاة يكون مرتكباً لجناية القتل عمداً، وإن تكن الوفاة قد حصلت بعد علاج ثمانية وخمسين يوماً بالمستشفى إذ من المبادئ المقررة أن الفاعل مسؤول عن جميع نتائج فعله غير القانوني التي كان يمكنه أو كان واجبا عليه أن يفترضها، وهذه المسئؤولية ليست متوقفة على إثبات أن المجني عليه قد عولج أحسن علاج طبقاً للعلوم الحديثة.
ويختلف القانون المصري والفرنسي مع الشريعة في حالة القتل العمد إذ يعتبر الجريمة التى لم تتم شروعاً في قتل ولا يعتبرها جرحاً. فكأن هذين القانونين يؤاخذان الفاعل على فعله بحسب قصده من هذا الفعل، أما الشريعة فتؤاخذه على فعله طبقاً لنتيجة فعله، وليس لهذا الخلاف أهمية؛ لأنه في تصوير الفعل القانوني والمهم أن كل تشريع يعاقب على الفعل بالعقوبة التي يراها مناسبة له.
د. عبدالعزيز بن بدر القطان