في هذه السلسة المتصلة المنفصلة من المقارنة بين الشريعة الإسلامية والقوانين الوضعية لا بد من القول إن المواضيع القانونية والتشريع الجنائي هي بطبيعة الحال مواضيع طويلة وتحتاج نفس طويل يتضمن شروح وافية، نحاول تبسيطها من خلال بذل الجهد في هذه السلسة المتواضعة تحتاج السير تدريجياً لاتصال القوانين والأحكام الشرعية بعضها ببعض، وهذا لكل باحث ومتتبع قانوني وغير قانوني عسى ولعل أن يجد الفائدة والمنفعة فيها، من خلال التلخيص الذي نقدمه تثقيفاً للإنسان على الرغم من أن المواد التي تتسم بقانونية الطرح تبقى طريقتها أكاديمية أكثر منها أدبية لكن نحاول الاستفادة من التكنولوجيا بطريقة عصرية علمية وأكاديمية في إيصال هذه المواضيع للجميع دون استثناء.
وكما الزاد الأدبي مهم لأي إنسان، أيضاً الزاد القانوني المعرفي والزاد الفكري واللغوي والعلمي حتى السياسي عموماً، مهم لكل إنسان خاصة عندما يعلم مقاصد حياته، ما لها وما عليها من حقوق وواجبات، من هنا تُبنى ثقافة متينة تكون سلاحاً في مواجهة مطبات الحياة أياً كان نوعها، فهذا كله يندرج تحت بند اسمه ثقافة “قوانين الحياة”، الإنسان بدون قانون يضبط سلوكه من كافة النواحي لا يمكن له العيش، ومن خلال ما نقدم وقد يعجب أو لا يعجب البعض، لكن لا بد من إغناء وإثراء الفكر الإنساني، وكل إنسان حر فيما يتلقى.
واستكمالاً لهذه السلسلة كنا قد وصلنا إلى مسألة القتل شبه العمد، ذكرنا أن القتل شبه العمد مختلف عليه بين الفقهاء، فمالك يرى أن القتل صنفان: عمد وخطأ فمن زاد عليهما فقد زاد على النص، أما أبو حنيفة والشافعي وأحمد فيقولون بالقتل شبه العمد ويرون أن القتل على ثلاثة أنواع: عمد وشبه عمد، وخطأ، فمن قصد ضرب آخر بآلة تقتل غالباً كان حكمه كحكم الغالب أي حكم من قصد القتل، ومن قصد الضرب بآلة لا تقتل غالباً كان حكمه متردداً بين العمد والخطأ ففعله يشبه العمد لأنه قصد ضربه ويشبه الخطأ لأنه ضرب بما لا يقتل غالباً وما لا يقتل غالباً يدل على أنه لم يقصد القتل، ولذلك سمي هذا النوع من القتل بشبه العمد لأنه يمثل القتل العمد في كل شيء ولا يختلف عنه إلا في قصد الجاني، والمفروض أن مرتكب القتل العمد يعتدي على المجني عليه بقصد قتله، أما مرتكب القتل شبه العمد فيعتدي على المجني عليه بقصد الاعتداء دون أن يفكر فى قتله، الفرق بين النوعين هو في نية الجاني التي يستدل عليها بالآلة المستعملة فى الجريمة ومن ثَمَّ تشابه القتلان تشابهاً شديداً دعا لتسمية أحدهما بالقتل شبه العمد إذا كان الثاني يسمى بالقتل العمد.
يدخل تحت شبه العمد كل الأفعال التي يقصد منها الجاني العدوان، ولم يقصد بها القتل، ولكنها أدت إلى موت المجني عليه. فالقتل شبه العمد في الشريعة يقابل الضرب المفضي إلى الموت في القوانين الوضعية، ولكن تعبير الشريعة بالقتل شبه العمد أصح منطقاً من تعبير القوانين الوضعية ذلك أن القتل شبه العمد يندرج تحته الموت الناشئ عن الضرب والجرح وما شابه ذلك، وكل ما يدخل تحت القتل العمد إذا انعدمت نية القتل عند الجاني وتوفر قصد الاعتداء، ولفظ القتل يدخل تحته كل ما يؤدي للموت، فاختيار فقهاء الشريعة لهذا اللفظ للدلالة على هذه الأنواع المختلفة من الاعتداء والإيذاء هو اختيار موفق لأنها تنتهي جميعاً بالموت، أما لفظ الضرب الذي عبرت به القوانين الوضعية فإذا دخل تحته الضرب باليد أو بأداة أخرى فإنه لا يمكن أن يندرج تحته غير ذلك من أنواع الإيذاء والاعتداء المختلفة الصور والوسائل كالتغريق والتحريق والتردية والخنق وشراح القانون المصري يعترفون بقصور لفظ الضرب عن استيعاب المعنى الذي يندرج تحته قانوناً ويلاحظون على نصوص الضرب عموماً قصور ألفاظها عن الإحاطة بما يندرج تحتها.
أركان القتل شبه العمد
أركان القتل شبه العمد ثلاثة: أولها: أن يأتي الجاني فعلاً يؤدي لوفاة المجني عليه. ثانيهما: أن يأتي الجاني الفعل بقصد العدوان. ثالثهما: أن يكون بين الفعل والموت رابطة السببية.
الفعل الذي يؤدي لوفاة المجني عليه: يشترط لتوفير هذا الأمر أن يأتي الجاني فعلاً يؤدي لوفاة المجني عليه: أيّاً كان هذا الفعل من أنواع التعدي والإيذاء بغير قصد القتل، وليس من الضروري في الضرب والجرح أن يستعمل الجاني آلة معينة: فقد يكون بغير أداة كاللطم واللكم ويستوي أن يحدث الفعل أثراً مادياً فى جسم المجني عليه أو أن يحدث به أثراً نفسياً يودى بحياته: كمن صوب على إنسان بندقية فمات رعباً قبل أن يضربه.
لا يتفق القانون المصري والفرنسي مع الشريعة في هذا ولكن الكثيرين من الشراح يرون أنه من القصور أن لا يعاقب هذان القانونان على مثل هذه الحالات، أما القانون الإنكليزي فيعاقب على مثلها فعلاً.
أن يتعمد الجاني الفعل: يشترط أن تعمد الجاني إحداث الفعل المؤدي للوفاة دون أن يتعمد قتل المجنى عليه: وهذا هو المميز الوحيد بين جريمتي القتل العمد وشبه العمد، ففي الأول يتعمد الجاني إصابة المجني عليه وفي الوقت ذاته يقصد من الإصابة قتله، وفي الثاني يتعمد إصابة المجني عليه ولا يتعمد قتله، فالفاصل بين الجريمتين أصلاً هو قصد الجاني، فإن قصد القتل فالفعل قتل عمد وإن قصد مجرد العدوان ولم يقصد القتل فالفعل شبه عمد، ويستدل على نية الجاني قبل كل شيء بالآلة أو الوسيلة التى يستعملها فى القتل، فإن كانت الآلة تقتل غالباً فالفعل قتل عمد ما لم يثبت الجاني أنه لم يقصد القتل، وإن كانت الآلة لا تقتل غالباً فالفعل قتل شبه عمد ولو توجه قصد الجاني فعلاً للقتل؛ لأن القتل لا يكون إلا بالآلة الصالحة لإحداثه، فإن لم تكن الآلة صالحة لإحداثه كانت نية القتل عبثاً.
أن يكون بين الفعل والموت رابطة السببية، يشترط أن يكون بين الفعل الذي ارتكبه الجاني وبين الموت رابطة السببية: أي أن يكون الفعل علة مباشرة للموت أو أن يكون سبباً في علة الموت، فإذا انعدمت رابطة السببية فلا يسأل الجاني عن موت المجني عليه، وإنما يسأل باعتباره جارحاً أو ضارباً، ويكفي أن يكون فعل الجاني هو السبب الأول فى إحداث الوفاة ولو تعاونت معه أسباب أخرى على إحداث الوفاة: كإهمال العلاج أو إساءة العلاج أو ضعف المجني عليه أو مرضه أو غير ذلك.
والقضاء المصري يتجه اتجاه الشريعة مخالفاً بذلك النظرية الفرنسية، ومن المبادئ التى قررتها محكمة النقض المصرية: أنه لا يقبل من المتهم الاحتجاج بأن وفاة المجني عليه الذى أصابته ضربة من الغير مطالباً بأن يعمل كل احتياط لما عساه أن يحدث من هذه الضربة طالما أنه لم يعمل عملاً إيجابياً ساءت به حالته، المتهم مسؤول عن كافة النتائج التى ترتبت على فعله، ومأخوذ في ذلك بقصده الاحتمالي ولو لم يكن يتوقع هذه النتائج لأنه كان يجب عليه قانوناً أن يتوقعها التي أوصلت الوضع إلى شكل النتيجة النهائية لهذا الفعل.
د. عبدالعزيز بن بدر القطان