مع تنامي الجريمة وتعدد أشكالها بحكم تطور العصر، أصبح كل شيء اليوم يحتاج إلى تعديلات كنت قد اأشرت إليها في مواضيع كثيرة سابقة، فعلى سبيل المثال، الجريمة الإلكترونية لم تكن معروفة ما قبل عصر التكنولوجيا، والقرصنة، وسرقة المحتوى، كلها جرائم حديثة العهد، للتماشي معها يجب تعديل القوانين وصياغتها بما يتوافق والعهد الحديث من روح القديم شريعة وقوانين وضعية.
واستكمالاً لما بدأناه، وصلنا إلى “القتل الخطأ”، يرى بعض الفقهاء أن الخطأ نوع واحد: ولكن بعضهم يقسمه إلى نوعين: قتل خطأ محض، قتل في معنى القتل الخطأ.
أولاً، قتل خطأ محض: هو ما قصد فيه الجاني الفعل دون الشخص، ولكنه أخطأ فى فعله أو فى ظنه. ومثل الخطأ فى الفعل أن يرمي صيداً فيخطئه ويصيب إنساناً، والخطأ في ظن الفاعل كمن يرمي شخصا على ظن أنه مهدر الدم فإذا هو معصوم، وكمن يرمي ما يحبسه حيواناً فيتبين أنه إنسان.
ثانياً، قتل في معنى القتل الخطأ: هو ما لا قصد فيه إلى الفعل ولا الشخص، أي أن الجاني لا يتعمد إتيان الفعل الذي يسبب الموت ولا يقصد المجني عليه. وهذا النوع من القتل الخطأ قد يحدث من الجاني مباشرة وقد يحدث بالتسبب، والأول: كمن انقلب على نائم بجواره فقتله، أو سقط منه شيء كان يحمله على آخر فمات منه. والثاني: كمن حفر بئراً فسقط فيها آخر فمات، وكمن ترك حائطه دون إصلاح فسقط على بعض المارة، أو كمن أراق ماء فى الطريق فانزلق به أحد المارة وسقط على الأرض فجرح جرحاً أودى بحياته. والفقهاء الذين لا يرون تقسيم الخطأ يدخلون تحته ما يدخله الآخرون تحت هذين القسمين، فالفرق بين الفريقين في منطق الترتيب والتبويب لا غير.
ولعل الذي دعا القائلين بالتقسيم إلى التقسيم الخطأ أنهم رأوا أن طبيعة الفعل في الخطأ المحض تختلف عن طبيعته فيما يعتبر قتلاً في معنى الخطأ، ففي الخطأ المحض يتعمد الجاني الفعل، أما في النوع الثاني فلا يتعمده، وعلة تقسيم النوع الثاني إلى قتل مباشر وقتل بالتسبب: أن القتل المباشر فيه الكفارة دون القتل بالتسبب والكفارة عقوبة تعبدية أو هى دائرة بين العقوبة والعبادة وتخص المسلم دون غيره.
وما جاء في الشريعة عن الخطأ يتفق مع ما جاء فى القوانين الوضعية بعينه. وإذا كان شراح القوانين لا يقسمون الخطأ هذه التقاسيم ويكتفون بإدراجها كلها تحت لفظ الخطأ كما فعل بعض الفقهاء إلا أن ما تعتبره القوانين خطأ لا يخرج عن نوع من الأنواع التي ذكرها فقهاء الشريعة، ومن تتبع أمثلة الفقهاء أن الجاني يكون مسؤولاً كلما كان الفعل والترك نتيجة إهمال أو تقصير أو عدم احتياط وتحرز أو عدم تبصر أو مخالفة لأمر السلطات العامة أو الشريعة ومن ثَمَّ يكون أساس جرائم الخطأ في الشريعة هو نفس الأساس الذي تقوم عليه هذه الجرائم في القوانين الوضعية وبصفة خاصة القانونين المصري والفرنسي.
يسير الفقهاء عامة على قاعدتين عامتين يحكمان مسؤولية الجاني في الخطأ وبتطبيقهما نستطيع أن نقول إن شخصاً ما أخطأ أو لم يخطئ.
القاعدة الأولى: كل ما يلحق ضرراً بالغير يسأل عنه فاعله أو المتسبب فيه إذا كان يمكن التحرز منه، ويعتبر أنه تحرز إذا لم يهمل أو يقصر فى الاحتياط والتبصر، فإذا كان لا يمكنه التحرز منه إطلاقاً فلا مسؤولية.
القاعدة الثانية: إذا كان الفعل غير مأذون فيه (غير مباح) شرعاً وأتاه الفاعل دون ضرورة ملجئة فهو تعدٍّ من غير ضرورة وما تولد منه يسأل عنه الفاعل سواء كان مما يمكن التحرز عنه أو مما لا يمكن التحرز عنه.
وبحسب فقهاء الشريعة أن المسؤولية تختلف في حالة ما إذا كان الفعل مباحاً عنها في حالة ما إذا لم يكن مباحاً، فإن كان الفعل مباحاً فالمسؤولية أساسها التقصير الذي يرجع إلى الإهمال وعدم الاحتياط والتحرز أو عدم التقصير، أما إذا كان الفعل غير مباح فأساس المسؤولية هو ارتكاب الفعل غير المباح ولو كان لم يحدث منه تقصير. وهذا الذي تقوم عليه المسؤولية في الخطأ في الشريعة هو نفس ما يأخذ به القانون المصري الناقل عن القانون الفرنسي، فهو ينص على المسؤولية في حالة التقصير بصوره المختلفة من عدم الاحتياط والإهمال وعدم الانتباه كما ينص على المسؤولية في حالة عدم مراعاة واتباع اللوائح، ولا يشترط التقصير في الحالة الأخيرة.
أركان القتل الخطأ
أولاً، فعل يؤدي لوفاة المجني عليه: يشترط أن يقع بسبب الجاني أو منه فعل على المجني عليه: سواء كان الجاني أراد الفعل وقصده، كما لو أراد أن يرمي صيداً فأصاب إنساناً، ولا يشترط في الفعل أن يكون من نوع معين: كالجرح مثلاً بل يصح أن يكون أي فعل مما يؤدي للموت؛ كالاصطدام بشخص أو بشيء.
ثانياً، الخطأ: هو الركن المميز لجرائم الخطأ على العموم: فإذا انعدم الخطأ فلا عقاب، ويعتبر الخطأ موجوداً كلما ترتب على فعل أو ترك نتائج لم يردها الجاني بطريق مباشر أو غير مباشر، سواء كان الجاني أراد الفعل أو الترك أم لم يرده ولكنه وقع في الحالين نتيجة لعدم تحرزه أو لمخالفته أوامر السلطات العامة ونصوص الشريعة.
ثالثاً، أن يكون بين الخطأ والموت رابطة السببية: يشترط ليكون الجاني مسؤولاً أن تكون الجناية قد وقعت نتيجة لخطئه: بحيث يكون الخطأ هو العلة للموت، وبحيث يكون بين الخطأ والموت علاقة السبب بالمسبب فإذا انعدمت السببية فلا مسؤولية على الجاني.
وإذا اشترك المجني عليه مع الجاني فى الخطأ، تخفف العقوبة بقدر نصيب المجني عليه؛ لأنه اشترك في الفعل، فأعان على نفسه، فمثلاً إذا اشترك أربعة في حفر بئر فوقعت عليهم فمات أحدهم فعلى كل من الثلاثة الباقين ربع دية فقط، ولكن الفقهاء يختلفون في حالة المصادمة فيرى بعضهم عقاب كل متصادم عقوبة كاملة عن فعله، ويرى البعض الآخر أن الموت حدث من فعلين فنصف العقوبة، والرأي الثاني: يتفق مع ما تأخذ به المحاكم فى مصر وفرنسا، فإن اشترك المجني عليه في الخطأ لا يخليه من المسؤولية الجنائية ولكنه يؤثر على التعويض ويدعو إلى تخفيف العقوبة.
وتعتبر رابطة السببية قائمة سواء كان الموت نتيجة مباشرة لفعل الجاني أو كان نتيجة مباشرة لفعل غيره من إنسان أو حيوان ما دام الجاني هو المتسبب في الفعل، فمن يعبث ببندقيته فتنطلق منه خطأ فتصيب المجي عليه فهو مسؤول عن القتل إذا مات، ومن يكلف أجيراً بحفر بئر فى طريق فسقط فيها أحد فمات من سقطته فالقاتل هو المالك ما دام الأجير لا يعلم أنها في ملك الآخر.
د. عبدالعزيز بن بدر القطان