لا شك بأن إزهاق الروح من أخطر الأمور التي من الممكن أن يمارسها إنسان، لذلك حرصت التشريعات الإسلامية والقوانين الوضعية على معاقبة كل من تسوّل له نفسه ارتكاب هذه الجريمة، فلولا أن وجدت الضوابط الشرعية والقانونية، لتحولت المجتمعات إلى تطبيق شريعة الغاب، وأصبح كل شخص يثأر لنفسه ولما انتهى القتل يوماً.
للقتل العمد في الشريعة أكثر من عقوبة: منها ما هو أصلي، ومنها ما هو تبعي. والعقوبات الأصلية هي: القصاص، الدية، التعزير والكفارة على رأي، واما العقوبات التبعية فهي: الحرمان من الميراث، والحرمان من الوصية.
القصاص: تجب عقوبة القصاص بارتكاب جريمة القتل العمد فى الشريعة. ومعنى القصاص المماثلة؛ أي مجازاة الجاني بمثل فعله وهو القتل. ويستوى لتوقيع هذه العقوبة أن يكون القتل مسبوقاً بإصرار أو ترصد أو غير مسبوق بشيء من ذلك، كما يستوي أن يصحب القتل جريمة أخرى أو لا يصحبه شيء فالعقوبة على القتل العمد هي القصاص في كل حال؛ إلا في حالة الحرابة، أي عندما يقترن القتل بسرقة فالعقوبة في هذه الحالة هي القتل والصلب، ولكن العقوبة لا تقع على الجاني باعتباره قاتلاً متعمداً بل باعتباره محارباً أي قاطع طريق.
وعقوبتا الدية والتعزير كلاهما بدل من عقوبة القصاص: فإذا امتنع القصاص لسبب من الأسباب الشرعية التي تمنع القصاص حلت محله عقوبة الدية مضافاً إليها التعزير إن رأت ذلك الهيئة التشريعية وإذا امتنعت عقوبة الدية لسبب من الأسباب الشرعية حلت محلها عقوبة التعزير، فالفرق بينهما أن عقوبة التعزير تكون أحياناً بدلاً من القصاص وتكون أحياناً بدلاً من بدل القصاص أي بدلاً من عقوبة الدية التي هي في الأصل بدل من عقوبة القصاص، أما عقوبة الدية فهي بدل من القصاص فقط، ويترتب على اعتبار الدية بدلاً من القصاص نتيجتان: أولهما: أنه لا يجوز للقاضي أن يجمع بين العقوبتين جزاء عن فعل واحد، ولكن الجمع يجوز إذا تعددت الأفعال، فيجمع بينهما باعتبار القصاص عقوبة عن بعض الأفعال والدية عقوبة عن البعض الآخر، فمن قتل شخصاً عمداً لا يصح أن يعاقب إلا بعقوبة القصاص، فإذا امتنع القصاص فالعقوبة الدية والتعزير أو الدية فقط، فإن امتنعت الدية فالعقوبة التعزير، ومن قتل شخصين جاز أن يعاقب على قتل أحدهما بالقصاص وعلى قتل ثانيهما بالدية والتعزير إذا امتنع القصاص، وبالتعزير فقط إذا امتنع القصاص والدية، فتكون نتيجة الحكم عليه أنه امتنع القصاص وبالتعزير فقط إذا امتنع القصاص والدية فتكون نتيجة الحكم عليه أنه عوقب بالقصاص والدية والتعزير.
بالتالي، لا يجوز الجمع بين عقوبة أصلية وعقوبة بدلية إذا كانت الأخيرة مقررة بدلاً من الأولى، أو بمعنى آخر: لا يجوز الجمع بين العقوبة الأصلية وبدلها، ولكن يجوز الجمع بين بدلين، كما يجوز الجمع بين عقوبتين أصليتين، فمثلاً يجوز الجمع بين الدية والتعزير وكلاهما بدل من عقوبة القصاص، ويجوز الجمع بين القصاص والكفارة وكلاهما عقوبة أصلية، ولا جدال في أنه يجوز الجمع بين العقوبات الأصلية والعقوبات التبعية حيث لا يوجد ما يمنع من ذلك عقلاً وشرعاً.
ويترتب على أن القصاص أصل والدية والتعزير بدل أنه لا يجوز للقاضي أن يحكم بالعقوبة البدلية إلا إذا امتنع الحكم بالعقوبة الأصلية ولسبب من الأسباب الشرعية التي تمنع القصاص، فإذا لم يكن هناك مانع وجب الحكم بالعقوبة الأصلية.
موانع القصاص: العقوبة الأصلية الأولى للقتل العمد هي القصاص فيحكم بهذه العقوبة على الجاني كلما توفرت أركان الجريمة، إلا إذا كان هناك سبب يمنع من الحكم بالقصاص. والأسباب التى تمنع الحكم بالقصاص ليس فيها سبب واحد متفق عليه فكلها مختلف فيه ولكن بعضها أخذ به معظم الفقهاء والبعض أخذ به أقلهم.
على سبيل المثال، ان يكون القتيل جزءاً من القاتل، يرى أبو حنيفة والشافعي وأحمد أنه إذا كان القتيل جزءاً من القاتل امتنع الحكم بالقصاص ويكون القتيل جزءاً من القاتل إذا كان ولده فإذا قتل الأب ولده عمداً فلا يعاقب على قتله بالقصاص، ويخالف مالك الفقهاء الثلاثة، ويرى قتل الوالد بولده كلما انتفت الشبهة في أنه أراد تأديبه أو كلما ثبت ثبوتاً قاطعاً أنه أراد قتله، ويجوز الجمع بين العقوبة البدلية والعقوبة الأصلية مع بقاء القاعدة سليمة وذلك إذا تعددت الأفعال ولم تكن العقوبة البدلية المحكوم بها بدلاً عن عقوبة أصلية محكوم بها، كمن قتل ثلاثة أشخاص فحكم عليه بالقصاص لقتل أحدهم، وبالدية لقتل الثاني لوجود مانع عن الحكم بالقصاص كأن كان القتيل ولد القاتل، وبالتعزير لقتل الثالث لامتناع الحكم بالقصاص والدية كأن عفا ولي القتيل عن القاتل عفواً مطلقاً، ففي هذه الحالة اجتمع القصاص مع الدية والتعزير والأول عقوبة أصلية وكل من الثاني والثالث عقوبة بدلية وقد جاز الجمع لأن العقوبات المحكوم بها ليس فيها عقوبة بدلاً من أخرى وإنما العقوبة البدلية تمثل عقوبة لم يحكم بها.
تعدد القتلى: وتظهر أهمية التفرقة بين هذين الرأيين المختلفين فى حالة تعدد القتلى إذا كان القاتل واحداً. فمالك وأبو حنيفة يريان أن الواحد إذا قتل جماعة قتل بهم قصاصاً ولا يجب مع القتل شيء من المال، سواء كان الجاني قتلهم مرة واحدة أو قتلهم على التعاقب، وسواء كان الأولياء قد طلبوا كلهم قتله أو طلب بعضهم قتله وطلب بعضهم الدية، وإن بادر أحد الأولياء فقتل الجاني قبل إبداء الآخرين رأيهم فقد سقط حق الباقين فى القصاص ولا دية لهم، وهذا تطبيق دقيق للقول بأن القصاص يجب عيناً، لأن حق الجميع تعلق بالقصاص فإذا قتل الجاني فقد استوفوا حقهم كاملاً وليس لأحدهم أن يطالب بالدية، لأن تنازله عن القصاص لا قيمة له ما دام أحد الأولياء يريد القصاص، وإنما تجب الدية بدلاً من القصاص إذا امتنع القصاص، وهنا لا يمكن امتناعه ما دام أحد الأولياء يطلبه، لأن محل القصاص واحد بالنسبة للجميع، أما الشافعي فيرى أن حقوق الأولياء لا تتداخل، فإن قتل الجاني واحداً بعد واحد اقتص منه للأول لأن له مزية بالسبق، وإن سقط حق الأول بالعفو اقتص للثاني، وإن سقط حق الثاني اقتص للثالث، وهكذا.
وأساس الاختلاف فى هذا كله هو اختلافهم في العقوبة الواجبة بالقتل العمد، فأبو حنيفة ومالك يريان أن الواجب هو القصاص عيناً وأن عفو ولي القتيل لا يلزم الجاني بالدية إلا إذا رضي الجاني بذلك، والشافعي وأحمد يريان أن الواجب بالقتل العمد أحد شيئين: القصاص أو الدية، ولولي القتيل أن يختار أي العقوبتين شاء دون حاجة لموافقة الجاني.
د. عبدالعزيز بن بدر القطان