/ عبدالله الفارسي ..
…
غالبا ما نتهم الحياة بأنها هي من حرمتنا من البوح لبعضنا .. ولم تمنحنا فرصة التعبير عن أمتناننا لأبنائنا
نتهمها زورا وبهتانا بانها منعتنا من ان نقول لهم عبارة جميلة في ليلة هادئة … أو كلمة رشيقة في يوم بارد .. ساكن .
نتصادف معهم في أرجاء البيت وجنباته .. ونتصادم بهم على مداخله ومخارجه دون أن نقول لبعضنا ” مرحبا أيها العزيز “
نمارس مشاعرنا بصمت .. ونزرع عواطفنا بفتور .. ونسقيها بوجل .. وحياء ..
إنها مشاعر مكبوتة في صناديق رقيقة من الدم والأحشاء ..
تترجرج في صدورنا .. وترقص في أعماقنا حتى الموت
البارحة شعرت برغبة عارمة لكتابة رسالة إلى أبني البكر ..
رسالة حب .. رسالة عشق .. رسالة امتنان .. رسالة اعتذار رسالة شكر .. رسالة عناق
إنها رسالة تجمع في داخلها كل مشاعري نحوه ..
مشاعري المتزاحمة في صدري ..
إنها رسالة امتنان وشكر لأبني البكر الذي أشعل الأبوة في صدري .. وأيقظ الحياة في داخلي .
لديّ قلمٌ جميل ..
وأوراق كُثر
وعاطفة أبوية لا مثيل لها
لذلك .. سأكتب له شيئا لم يقرأه من قبل .
ابني العزيز يزيد ..
اعذرني كثيرا على تقصيري العظيم .. فلم يسعني العمر الماضي والذي ذهب هباء وأنسلّ من بين يديّ ومن خلفي دون أن أدركه ..
لم يسعني ان أقول لك هذا الكلام في وقته المناسب .. وزمنه الصحيح .. فنحن للأسف لم نتربى على التعبير عن مشاعرنا ..
ولم نحصل على تصريح البوح بما في قلوبنا ..
إننا مجتمعات تعيش على الكتمان .. وتستعذب الكبت والحرمان .
ولكن .. لا أقول بأنه قد فات الأوان .. وإنما دائما هناك فرصة أخيرة تهديها لنا الحياة للتصحيح .. والتوبة .. والغفران …
دائما هناك فرصة أخيرة للتطهر .. والتوبة والإغتسال
دائما هناك فرصة أخيرة للبوح .. والإعتراف بالحب وإثبات العرفان .
يجب ألأ نغادر الحياة وفي قلوبنا كلمة جميلة لم نقلها لمن يستحقها ..
جريمة كبيرة أن تغادر الحياة وفي أعماقك بوح رقيق لم يسمعه صاحبه ..
أبني العزيز ..
حين رأيتك في ساعاتك الأولى من دخولك لهذا العالم كنت أنا في مثل عمرك تماما .. كنت في أخطو خطواتي الأولى في الخامسة والعشرين ..
كنت شابا مليئا بالحياة .. معبأ بالقوة .. مكتنزا بالأمل ومرتديا الطموح .. متوشحا الجمال .. ومرتديا الرجولة .
فجئت أنت .. لتملأ عالمي بهجة ورغبة .. ونشوة وصخبا .. ومغامرة .
أتذكر كل لحظاتك الأولى في سريرك الصغير وأنت ترفرف بذراعيك كفرخٍ أنيقٍ يعانق الهواء ..
ويضاحك النسمات .
كبرت أمام عيني دقيقة دقيقة .. ويوما بعد يوم ولا أذكر بأنني فوت يوما من طفولتك الأولى دون عناق .. أو ضمة .. او قبلات حرّى .
كنت بجانبك… أشحن الحياة في داخلك ..
وكنت في داخلي تغرس الأبوة والحنان في فؤادي ..
كنت بالنسبة لي ليس مجرد الأبن الأول الذي يحمل أسمي ويؤكد أحقيتي في البقاء والإستمرار .
وإنما كنت بمثابة روحا نادرة دخلت روحي .. ترفرف داخلي .. حبلى بالحياة .. فتملأ عمري أغاريد .. وأغاني .. وضحكات .
أبني العزيز ..
أعترف لك .. بأنك كنت أبنا عجيبا … أبنا رائعا
كنت ساكنا .. هادئا كنهرٍ جميلٍ متصالح مع السماء .. متناغم مع الأرض .. متآلف مع الكائنات .
لا تعصف به الريح .. ولا تحرك مياهه الأمطار والهزات
أبني العزيز ..
من عجائبك أنك لم تشعرني أبدا بهمّ الأبناء .. ولا بثقل مسؤولية الأباء ..
لقد حملت عني عبء الطريق .. وقلق المصير .. ومؤونة الرفيق .
فربيت نفسك بنفسك .. وصنعت نفسك من تلقاء نفسك .
لم تحتج إلى جهود مضنية لتكبر ..
ولم تكلفني أموال طائلة لتعلو وتنضج ..
ولدت رجلا قبل أوانك .. وأضحيت شيخا قبل قرارك .
فكان حريّ بي ان افتخر برجاحة عقلك ..
وكان لزاما عليّ أن أفتخر بدماثة خُلقك .
لم تكلفني تربيتك سوى عاطفة جياشة .. وحبٌ
صادقُ .. أصيل
أبني العزيز ..
أنت شهادتي التي كنت ألهث خلفها عبر السنين ..
وأنت مرتبتي التي سعيت وراءها طوال الطريق .
ربما تكون أنت الشيء الوحيد الجميل في حياتي …
رغم وجود انواع أخرى من جماليات الدنيا ..
ولكن بحق أنت أجملها .
بل لعلك أنت الدفقة الوحيدة التي تمنح الروح نشوتها .. ونشاطها .. وحياتها
بل أؤكد بأنك الشريان الوحيد السالك .. بين الأوردة المتعطلة .. والشرايين المغلقة .
أبني العزيز ..
سامحني مسامحة الصالحين لأنني لم أقل لك هذا الكلام في وقته المناسب .. ولم أسكبه عليك في زمنه المفترض ..
فكما قلت لك .. تربيتنا تربية غريبة .. وتعاملنا مع بعضنا له قوانينه العجيبة ..
وكما قال الشاعرالجاهلي :
وينشأ ناشئ الفتيان منّا
على ما كان عودهُ أبوه ..!!
وهكذ كنت معك .. قلبي ممتلئ بالحب .. ولساني عاجز عن البوح والتعبير ..!!
كنت أتمنى لو قضيت معك كل لحظة من حياتي ..
واستمتعت بقربك بكل دقيقة من عمري ..
كنت أتمنى لو قضينا ساعات عديدة أعلمك التجويد .. وتعلمني الترتيل وحسن التلاوة ..
كنت أتمنى لو شاركتني كل ورقة قرأتها من أوراق فكتور هيجو .. وغوته .. ودستوفسكي ..
كنت أتمنى لو مشيت معي في جمهورية إفلاطون .. ومدينة الفارابي .. ومنهج الغزالي .. وطرقات المشائين والسفسطائيين ..
كنت أتمنى لو دخلت معي عالم دستوفسكي.. وتولستوي .. وابن الفارض .
كنت أتمنى لو جلست معي نحلل كل قصة كتبها تشيخوف .. وكل عبارة قالها لمبارت .. وهيجل .. وطه حسين
كنت اتمنى لو ناقشتني في كل قصيدة خطها المتنبي .. ورسمها محمود درويش .. ونقشها نزار قباني ..
كنت أتمنى لو عارضتني فيما كتبه ماركس .. وما كتبه جون لوك .. وما صرح به فرويد .
كنت أتمنى لو جادلتني فيما قاله عبدالرحمن منيف .. وغسان كنفاني .. ونصر الله إبراهيم .. ومحمود شكري.
كنت اتمنى لو سهرنا ليالي طويلة نقرأ أحلام مستغانمي .. وأسطورة إيزبيلا الليندي .. ونتجول في ثلاثية نجيب محفوظ وخفافيشه الغريبة ..
ولكن للأسف .. فالحياة لا توافق على إلتصاق العلاقات وثباتها ….
إنها تعترض على تماسك القلوب .. وربط المشاعر ..
فمن شيم الحياة أن تفكك .. وتعطل .. وتفرق ..
ولكن من شيم الإنسان أن يُحب .. ويعشق .. ويغرم .. ويبوح .. ويرسم عواطفه بألوان زاهية في الصدور ..
وينحتها في الأرواح درجة الخلود ..
فحبي لك خالدٌ … وعشقي لك باقٍ ما بقت الأرواح ..
حفظك الله أيها الأبن البار ..
وسدد خطاك ..
ومتعك الرحمن بكل ما تُحب وتعشق .. وتتمنى .
والدك المحُب ..
عبدالله الفارسي