توفي أبي في العام 97
.. مات قبل أن يبلغ الشيخوخة .. ورحل قبل أن يستمتع بالحياة معنا .. وقبل أن أستمتع بالحياة معه .. أو اتلذذ بمرافقته في هرمه و شيخوخته ..
مات قبل أن أسدد له جزء يسيرا من دينه علي .. وقبل أن أمنحه وفاء وحبا .. وبرا واجبا علي .
مات قبل أن أدفع له شيئا بسيطا من فاتورته الباهظة التي دفعها لأجلي .. وحرقها في رعايتي .. وتربيتي .
…
حين أتذكر هذه الحادثة أشتاق أبي .. يجرفني حنان إليه .. تعصرني لهفة وتوق نحوه .
أشتاق إلى عصاه .. أتوق إلى حبله .. أحن إلى قبضة يده .. أشتهي ضرباته وقسوته وعنفه..
لقد أدبني أبي فأحسن تأديبي .
…
كان جارنا يسكن على مقربة منا ..
رجلا كبيرا في السن ..
أعزب .. لم يتزوج .. ولا يحب الحديث عن الزواج .. ويكره الكلام مع النساء أو الحديث عنهن .. فعاش حياته بعيدا عنهن .. ومات سعيدا بدونهن ..!
رأيته مرة يحمل (مذياعا) راديو جديدة صغيرة .. كانت تصدح بصوتها الجميل .. وتبرق بأضواءها الجاذبة .. وأنغامها الصادحة .
كان صديقي شيطانا صغيرا لكنه أكثر مني عفرتة وخبثا ..
كنا شياطين الحارة وعفاريتها الصغار .
فخطط صديقي لسرقة راديو جارنا المسكين .. ورغب في الحصول عليها والإستمتاع بصوتها .. وأغانيها ..
كنت رافضا الفكرة .. فأنا رغم أنني شيطانا صغيرا إلإ أنني لا أمارس السرقات بكافة أنواعها … ولكن كما يقولون ” الصاحب ساحب” .. لقد دهاني ذلك الإبليس الصغير .. وسحبني معه .. وأقنعني بأنها ليست سرقة وإنما مجرد تسلية .. سنأخذها لبضعة أيام ثم سنعيدها إلى مكانها .
خططنا لعملية السطو ..
وكانت عملية سهلة..
لم تتطلب منا أجهزة ولا أدوات ولا أسلحة ..
فالرجل كان ييبع السمك في فترة الصباح .. فهو مصدر رزقه الوحيد ..
فيكون بيته مشاعا مباحا للصوص الصغار .. وللقطط الكبار ..
قفز صديقي من فوق باب البيت الخشبي القصير .. وسقط في داخل البيت .. والذي كان من سعف النخيل الصلب .
وأنتظرت أنا مراقبا … حارسا المكان .. حتى أنبهه في حالة مرور أحدهم أو أقترابه من البيت ..
صدفة مر أحد الرجال فرآني واقفا .. متأهبا ..
فهم مباشرة أن هذه الوقفة .. وذلك الإستعداد ليس أمرا طبيعيا ..
فقال في نفسه : حتما هذا العفريت الصغير يخطط لعمل شرير ..!!
وذهب في طريقه بعد أن سجل صورتي في رأسه .. وعرف هويتي .. وعرف أبي .. وعرف من هي فصيلتي وقبليتي ..
قفز صديقي حاملا الراديو في يده ..
وسقط على الأرض كقط رشيق ..
هربنا إلى مكان آمن .. وأخذنا نعبث بالمسروقة الجميلة .. وأستمتعنا بها أيما استمتاع .. وبعد أن شبعنا ومللنا منها وضعناها في كيس ودفناها تحت التراب .. ووضعنا على التراب علامة وشاهد .
لنعود إليها في اليوم التالي .
..
أكتشف الرجل بأن هناك من سرق الراديو .. فأخبر الجميع .. ونشر الخبر في الهواء .. وعلى الأثير .. وسار الخبر في الحارة … وفي الفريج .
فظهر الشاهد الوحيد الذي رآني .. وخزن صورتي في رأسه .. ولم تختفي ملامحي عن عينه ..
فقال : لقد رأيت العفريت الصغير ابن فلان .. واقفا متربصا أمام الباب ..!!!
وصل الخبر إلى مسامع أبي .. وحاولت أمي أن تصور له الخبر كأنه إشاعة .. ونفت الواقعة .. وسترت عني الجريمة .. واجتهدت لتدفن الفضيحة .
كان ذلك مساء ..
فتركتي أبي أنام تلك الليلة .. وأستمتع بليلتي وأهنى في لحافي .
وفي الصباح نهضت كعادتي.. قاصدا الخروج مع رفقتي.
فوجدت أبي ينتظرني أمام الباب وفي يديه خيزرانة ناعمة يهزها في الهواء .. ويلاعب بها السماء ..
وبجانب الجدار .. كان هناك عمود خشبي مغروس في الأرض .. وبجانبه حبل غليظ .. لم يسبق لي أن رأيتهما من قبل ..
فهمت القصة .. وتوقعت النتيجة .. وأستسلمت لقدري .
العمود الخشبي كان من أجلي ..
والحبل و العصا كانت ليدي و ظهري .
وبدأت عملية العقاب ..
ربطني أبي على العمود .. واحكم رباطي.
وبدأت الخيزران تلعب في ظهري .. وتلعلع في يداي .. وفي كتفي .
حاولت أمي حمايتي .. ولكنها لم تتمكن .. فحين يغضب أبي يتحول إلى وحش ضار .. كاسر من الصعب الإقتراب منه .. أو ردعه .
فذهبت تركض إلى بيت جيراننا .. تطلب النجدة لإنقاذي من براثن أبي وأسنانه.. وحبله.. وعصاه ..
فجاء بعض الرجال ليوقفوا أبي عن ضربي ..
ويحجزوه عن قتلي ..
ولكنهم لم يتمكنوا من إيقافه ..
فتوقف بنفسه حين تعبت يده .. و شبعت العصى من ظهري .. وأكتفت الخيزران من لحمي ..
حتى أنتزع مني أعترافا .. بما حدث .. وذكرت له اسم السارق .. ومكان المسروق .
لم يفك أبي قيدي إلا بعد ثلاثة أيام كاملة ..
كانت أمي تطعمني وتسقيني .. وتراقبني وتحميني .
كنت أقضي حاجتي في مكاني .. وأنام واقفا في عمودي مقيدا بحبلي .
كانت أمي وبعد أن يغط أبي في نومه .. كانت تسحب فراشها إلى خارج غرفتها .. لتنام تحت قدمي .. فتواسيني وتحميني..
يالله .. ما أعظم الأم ..
إنها أعظم مخلوق في هذا الكون .
..
كانت تجربة لا أنساها أبدا ..
تجربة سلوكية .. تأديبية لم .. ولن أنساها ما حييت .
مازلت حتى اللحظة.. أعشق أبي عشقا عظيما .
حين أتذكر قسوته وغيرته وغضبه ..
حين أتذكر عنفه وضربات عصاه .. أدرك حبه لي .. وأتيقن من حرصه وخوفه علي ..
فأذرف دمعات و شوق ..
وأصدح بشهقات وحب عرفانا لأجله ..
إنه أبي الذي أدبني فأحسن تأديبي .
رحمك الله يا أبي العظيم .. وأسكنك الجنة والنعيم.
عبدالله الفارسي