عبد العزيز بدر القطان*
يخلق الله تعالى أشخاصاً يميزهم عن غيرهم، ويجعل منهم منارة تشع في حياتهم وحتى بعد أن يتوفاهم الله، إن كان بقوة الحفظ أو روعة الصوت والأداء، أو التجويد أو أي علمٍ من علوم الدنيا الواسعة خاصة الإسلامية منها.
إن القرآن الكريم ومنذ نزوله وحتى الآن كان ولا يزال محط أنظار العلماء، وموضع عنايتهم قديماً وحديثاً، فطائفة منهم اعتنت بلغته، وأخرى ببلاغته وأسرارها، وانواع فصاحته ووجوه محاسنها وبديعها، وبعضهم اعتنى بألفاظه وتفسير تراكيبه وجمله وبيان عِبره وعظاته، ومعانيه وأحكامه ومقاصده، وغير ذلك، من خلال توارث العلم متصل الأسانيد، ومن بين هؤلاء يطيب لي أن أخصص هذه السطور عن دور الشيخ محمود خليل الحصري، الذي نذر نفسه وحياته خدمةً لكتاب الله تعالى.
لقد حبا الله تعالى الشيخ الحصري بالصوت الحسن ودقة الأداء وروعة التنغيم، تأسر كل مستمعيه، ممن يتذوق القرآن الكريم حق التذوق، مجيد لتلاوته وقواعد تجويده، والمتأمل لحياة الشيخ الحصري يجد أنها حياة عاشها ليكون فيها من خدّام القرآن الكريم، قراءةً وتجويداً وتلاوةً وتسجيلاً ودعوةً وتأليفاً، ليكون المقرئ الحاذق ذي العلم الرائق، والصوت الفائق، شيخ عموم المقارئ المصرية في زمنه، الذي تربى ونشأ بالمدارس الطنطاوية، والمعاهد الأزهرية، التي كانت ولا تزال منارات للعلم، ومقراً للعلماء.
عرف الشيخ رحمه االله واشتهر في الأوساط العامة والخاصةبـ (الحصري) المولود عام (1917)، نشأ في كنف والده فكان الوالد الصالح خليل، قد نذر ابنه لحفظ القرآن وخدمته، فسعى في إعداده لذلك الخطب الجلل منذ نعومة أظفاره، فكان يقرأ القرآن ويجوده منذ طفولته بصوته العذب الرائق البريء، فأعجب به سامعوه واستحسنوا أداءه، أخذ علم القراءات السبع والعشر الصغرى عن شيخه إبراهيم بن أحمد سلامالمالكي، وذاع صيته عندما عيّن مقرئاً في الإذاعة المصرية على مدى أكثر من عشر سنوات، رحلة خالدة، تلك التي عاشها الشيخ رحمه االله، مع التسجيل الصوتي للقرآن الكريم، كان رحمه االله محيطاً لا يغيض، وبحراً في العلوم، كتب في كل ما له صلة بالقرآن الكريم.
أخذ الشيخ الحصري القراءات بالسند المتصل، عمن تقدم ذكرهم من الأئمة، بأسانيدهم المتصلة إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، يعتبر الشيخ محمود خليل الحصري رحمه االله، من أكثر قراء القرآن الكريم علما وخبرة، في فنون القراءةومن أكثرهم وعياً، مستفيض بعلوم التفسير والحديث، ومختلف علوم القرآن وفنونه العامة، والخاصة بالقراءات والتجويد، والوقف والابتداء، وأسانيد الروايات والأوجه والتحريرات، وغيرها، كان رحمه االله ذو رسالة علمية نبيلة، بل هي أفضل رسالة في دنيا العلوم والمعارف، رسالة حفظ الكتاب الكريم، والقرآن العظيم، من كل تشويه وتحريف، وهو الذي سجل القرآن الكريم، لأول مرة في التاريخ الإسلامي، ضمن مشروع الجمع الصوتي للقرآن الكريم، الذي اختير للتسجيل فيه أعلم علماء القراءات في مصر.
يتميز المقرئ الحصري من بين المقرئين المصريين بأن الله سبحانه وتعالى حباه بصوت عذب مميز يمتلك من الجماليات الفنية كعُرب وأوتار يستطيع التحكم بها والتي هي نعمة من نعم الله سبحانه وتعالى عليه، استثمرها أيما استثمار في التجويد والترتيل والقرآن لما يتمتع به من دقة عالية قل نظيرها، وعند ذكر هذا المقرئ الكبير رحمه الله، مباشرةً يقول من يسمعه (سبحان الله أن سخر الله هذا الإنسان للقرآن)، في الكويت أذكر ومن مراحل التعليم الأولى أي من رياض الأطفال، أذكر أننا تعلمنا مذاك الوقت القرآن الكريم بصوت الشيخ الحصري، ولا يذكر الطفل هكذا تفاصيل لولا انها محفورة بالذاكرة، لكن أين هذا الإيداع الآن، ولماذا لا يعيد الزمان نفسه مع الأطفال ليس فقط في الكويت بل في كل المدارس العربية والإسلامية؟
الشيخ الحصري أعطى للحرف العربي حقه، وعن تجويده ماذا أقول عن التنوين أو الإدغام أو القلقلة أو الإخفاء وغيرهم من أحكام التجويد التي نعرف، حتى أني أذكر أن عميد الأدب العربي، الدكتور طه حسين في آواخر أيامه وعودته إلى القرآن والاستماع إليه بصوت الشيخ الحصري الذي كان يمتّعه ويطربه خاصة وأن الشيخ الحصري لم يكن يبالغ في قضية التنغيم بل يجود بدقة متناهية لا يخرج عنها، خاصة وأن للدكتور طه حسين باع طويل مع اللغة العربية وإن مدح فهو إنما يمدح مديح المتمكن والعارف في حقله، وهذا نجده عند كل مهتم بعلم اللسانيات تجده مقبل على الاستماع للقرآن الكريم بصوت محمود خليل الحصري، هذا طبيعي لأنه وإلى الآن لا يزال أعجوبة حقيقية، ولولا أن عجائب الدنيا سبعة لقلت عنه إنه الأعجوبة الثامنة، وإمام فنه.
أدرك الشيخ الحصري منذ وقت مبكر أهمية تجويد القرآن في فهم القرآن وتوصيل رسالته، فالقراءة عنده علم وأصول؛ فهو يرى أن ترتيل القرآن يجسد المفردات القرآنية تجسيداً حياً، ومن ثَمَّ يجسد مدلولها التي ترمي إليها تلك المفردات، كما أن ترتيل القرآن يضع القارئ في مواجهة عقلانية مع النص القرآني، تُشعر القارئ له بالمسؤولية الملقاة على عاتقه، فقد امتاز الشيخ الحصري بقراءته المتقنة للقرآن الكريم، تجلَّى ذلك في رزانة صوته، وحسن أدائه لمخارج الحروف وصفاتها، ناهيك عن مراعاته التامة لأحكام الغُنَّات، ومراتب التفخيم والترقيق، وغير ذلك من أحكام التجويد التي أتقنها غاية الإتقان، فهو أحد أهم قراء مصر والعالم في العصر الحديث، وشيخ عموم المقارئ المصرية الأسبق، وكما ذكرنا آنفاً تميز الشيخ رحمه الله بجودة الحفظ، وإحكام الأحكام، وروعة الصوت والأداء، وتمكن من قراءات وعلوم القرآن الكريم، وكانت له بصمة صوتية قرآنية خاصة لم يشابهه فيها أحد، ترك تراثاً صوتياً ضخماً من تسجيلات القرآن الكريم في إذاعات العالم، كما ترك تراثاً مقروءاً في علوم القرآن والقراءات؛ فلم يكن الشيخ قارئاً للقرآن فحسب بل كان عالماً به ومتقناً لمعارفه، ومن إرثه: أحكام قراءة القرآن الكريم، القراءات العشر من الشاطبية والدرة، الفتح الكبير في الاستعاذة والتكبير، مع القرآن الكريم، رحلاتي في الإسلام، النهج الجديد في علم التجويد، كما أنه لم يتقاضَ أية أجور على تسجيلاته الصوتية لكتاب الله تعالى، فقد كتب في مظروف الإذاعة المخصص لكتابة الأجر: “لا أتقاضى أي مال على تسجيل كتاب الله”.
وإلى الآن يجوب صوت الشيخ الحصري العالم أجمع، يُعلّم الأجيال، ويثلج الصدور بقراءته العذبة المتقنة، حتى بعد رحيله الذي يُصادف اليوم 24 نوفمبر/ تشرين الثاني (1980)، وهو الذي أوصى قبل وفاته بأن تخصص ثلث تركته للإنفاق على مشروعات البر والخير بعد أن شيد مسجدين ومعهد أزهري.
*كاتب ومفكر – الكويت.