شاء الله أن يفقد الإعلام الديني العماني في أسبوع واحد، اثنين من أبرز نجومه ومؤسسيه، الأول مخرج البرامج الدينية في التلفزيون العماني حمد بن محمد المحروقي، الذي وافاه الأجل يوم الأربعاء 13 أبريل، والثاني الدكتور صالح بن أحمد الصوافي، أحد مؤسسي البرامج الدينية في الإذاعة، الذي رحل يوم الجمعة 15 أبريل، والمصادفةُ أنّ الإثنين من أبناء سناو بولاية المضيبي.
عرفتُ المخرج حمد المحروقي في بدايات السبعينيات من القرن الماضي، عندما كنّا جيرانًا في روي، قبل أن نتزامل في العمل؛ فكانت تجمعنا تلك السهرات التي تطول أحيانًا إلى قرب الفجر ويدور الحديث فيها عن أمور شتى من المشرق والمغرب، وممّا أذكر من تلك السهرات أنّ أخي ثاني كان كثيرًا ما يتساءل من أين لحمد هذه الطاقة، أن يسهر إلى قرب الفجر ثم يصبح مداومًا؟ وعندما تعيّنتُ في الإذاعة تأكدَت لي تلك الطاقة، حيث كان حمد شعلة نشاط في ملاحقته للأنشطة الدينية التي تقام في السلطنة، فقد رحل وترك في مكتبة التلفزيون رصيدًا كبيرًا من دروس ومحاضرات المشايخ، وعلى رأسهم سماحة الشيخ أحمد بن حمد الخليلي؛ ويُحسب له أنه سجّل الحلقات الأولى من تفسير سماحته للقرآن الكريم “أنوارٌ من بيان التنزيل” في جامع السلطان قابوس في روي بجهد شخصي، وواصل تسجيل حلقات التفسير حتى توقف الشيخ. لقد استمرت الزمالة بيننا فترة طويلة حتى تقاعد حمد عن العمل، وكثيرًا ما نقلتُ شعائر صلوات العيد على الهواء وكان هو المخرج، وفي ذهني صلاة العيد في كلّ من البريمي وأدم.
وإذا كان حمد المحروقي أحد أعمدة البرامج الدينية في التليفزيون فإنّ الشيخ صالح بن أحمد الصوافي هو أحد الذين أثروا البرامج الدينية في الإذاعة ببرامجهم المتنوعة. في بداية عملي في الإذاعة، كان الشيخ الصوافي هو رئيس قسم البرامج الدينية، وكان له أحاديث كثيرة في المكتبة الإذاعية، وكانت الإذاعة – رغم أنّ ساعات الإرسال أقلَّ من الآن بكثير – تخصص وقتًا لا بأس به للبرامج الدينية والتلاوات القرآنية. فكان الصوافي – كما قال عنه الشيخ حمود السيابي – أول صوت واعظ يدخل البيوت عبر الراديو بحكم ترؤسه لقسم البرامج الدينية في الإذاعة.
لم يُتَح لي أن أزامل الشيخ الصوافي كثيرًا، إذ أنه ترك العمل في الإذاعة وانتقل إلى ديوان البلاط السلطاني بعد فترة قصيرة من توظفي ثم انتقل إلى أكثر من جهة، إلا أننا كنا نلتقي في روي، حيث كان يخطب الجمعة في مسجد “طوي السيد”، وهو أول مسجد تَنقل الإذاعةُ منه صلاةَ الجمعة قبل أن يجري النقل من جامع السلطان قابوس في روي. وقد استمرت العلاقةُ بيننا، إذ أنه واصل عطاءه البرامجي في الإذاعة والتلفزيون وقدّم الكثير من البرامج، وكثيرًا ما كان يشارك في حوارات برنامج “البث المباشر” فترة الثمانينيات، كما أنّ علاقة طيبة ربطته بأبي رحمهما الله.
في مشواره الإذاعي أجرى الشيخ صالح الصوافي لقاءات كثيرة مع أبرز علماء وقراء الوطن العربي، إذ كان يذهب إلى مصر والسعودية سنويًا ويعود من هناك بحصيلة كبيرة من اللقاءات، وما يؤسف له أنّ تلك اللقاءات ليست موجودة الآن في مكتبة الإذاعة؛ وكان أبرز من التقاهم من مصر هم الشيخ عبد الحليم محمود شيخ الأزهر الشريف الذي تولى المشيخة من عام 1973 حتى 1978، وكذلك خلفه في المنصب الشيخ محمد عبد الرحمن البيصار، وكذلك التقى بأشهر القراء هناك وهم: الشيخ عبد الباسط محمد عبد الصمد، والشيخ محمود خليل الحصري، والشيخ محمود علي البنا، والشيخ مصطفى إسماعيل؛ أما من السعودية فقد التقى بالشيخ محمد عبد الله سبيِّل والشيخ عبد الله خياط، والشيخ ناصر الراشد وغيرهم كثيرون. وللشيخ الراحل صداقات كثيرة مع مختلف الأطياف الدينية في الوطن الإسلامي استمرت حتى آخر حياته.
ولعل أهم برنامج ديني تميّزت به الإذاعة في فترة السبعينيات، عندما كان الشيخ الصوافي رئيسًا لقسم البرامج الإذاعية، هو برنامج “فتاوى وأحكام” الذي كان يعدِّه ويقدِّمه الشيخ علي بن ناصر المحروقي، ( المكرم في مجلس الدولة حاليًا )، وكذلك د. محمد بن ناصر المنذري، إذ كان للبرنامج مستمعوه، لأنه كان يستضيف عددًا من المشايخ للرد على أسئلة المستمعين؛ فلم تكن في تلك الفترة قد انتشرت برامج كهذه، إلا أنّ وجود قامة كبيرة مثل الشيخ سالم بن حمود السيابي في البرنامج أعطاه قيمة، إضافةً إلى أنه كان سريع البديهة في الرد، كان يتميّز أيضًا بروح الفكاهة، وبإجاباتٍ قويةٍ تكون أحيانًا صادمة. وأذكر أنّ البرنامج استضاف عددًا كبيرًا من المشايخ، منهم: سماحة الشيخ أحمد بن حمد الخليلي، وكذلك المشايخ هاشم بن عيسى الطائي، ومحمد بن راشد بن عزيّز الخصيبي، وسعيد بن محمد الكندي، وسعيد بن خلف الخروصي، وحمود بن حميد الصوافي، وكان معظم هؤلاء قضاة شرعيين في مناطق خارج مسقط، إلا أنّ البرنامج كان يذهب إليهم ويسجل معهم، فكان محمد المنذري يذهب إلى المناطق البعيدة، وعلي المحروقي يسجل في مسقط.
وضع الشيخ صالح الصوافي اللبنات الأولى لقسم البرامج الإذاعية، وضم القسم أسماء لامعة قدّمت الكثير من البرامج الدينية طوال السنوات الماضية، مثل محمد بن ناصر المنذري وعلي بن ناصر المحروقي والشيخ عبد الغفار الباز، خلاف الأسماء اللامعة الأخرى التي تعاملت مع الإذاعة مثل الراحلين الدكتور إبراهيم بن أحمد الكندي والشيخ عبد الرحمن البدري وغيرهم.
من المواقف التي لا أنساها أنّه في عام 2011، اعترض بعض الشباب حفلا فنيّا موسيقيًا في حصن الفليج في بركاء، ممّا أدى إلى إلغائه. فكتب بعض الشباب عريضة اعتراض وكنتُ أحد الموقّعين عليها. اتصل بي الشيخ الصوافي وسألني بلطف: هل وقّعتَ على بيان ما؟ قلت له نعم وشرحتُ له موقفي. قال هل قرأتَ البيان؟ قلت له لا. قال إنّ البيان استخدم ألفاظًا صعبة، ووصف المعترضين بالظلاميين والمتخلفين وما شابه تلك الكلمات، وكان من رأيه أنّ هذا الأسلوب يعقّد المسألة بدلا من أن يحلها. وفعلا تعلمتُ درسًا هو أن أقرأ البيان قبل التوقيع عليه، فلا يكفي الحماس أو الثقة فيمن يطلب منا التوقيع على أيّ بيان.
وإذا كنتُ أحمل ذكريات عن خطب الجمعة للشيخ صالح الصوافي في مسجد “طوي السيد” في روي، وكذلك ذكريات عقد قراني في المسجد نفسه، فإنّ هناك مفارقة أخرى هي أنّ المسجد تمّ افتتاحه من جديد قبل شهر رمضان الحالي بيومين فقط، بعد أن تكفّل أحد التجار بإعادة بنائه من جديد؛ ولكن المؤلم أنّ تلك الكوكبة من الشيّاب التي لازمت المسجد منذ بنائه لأول مرة – ومنهم أبي رحمه الله الذي صلى معظم صلوات عمره في هذا المسجد – لم يعودوا موجودين، ومن بقي من الشباب فقد انتقلوا من روي. ولا يمكن لي أن أزور المسجد ولا أشم رائحة تلك الكوكبة من الطيبين، مثل العم خميس بن تميم الوهيبي شفاه الله وعافاه، الذي أشرف على المسجد أكثر من 40 عامًا، وبذل كلّ جهده وماله للمسجد، ولا يمكن أن أنسى الإمام سالم الريامي وطالب السيابي وسعود الوهيبي ومحمد بن يزيد العبري وغيرهم، قبل أن يلتحق الشباب في الإمامة مثل محمود بن عبد الله بن خلفان الوهيبي وسعيد بن محمد الوائلي والأخوين خالد وماجد ابني محمد الوهيبي.
والحديث عن مسجد “طوي السيد” يجرنا إلى بعض الذكريات حيث أنّ مدرّسًا أردنيًا من الرعيل الأول اسمه علي عقاب، كان يعلمنا التربية الدينية في مدرسة الوليد بن عبد الملك المجاورة للمسجد – وله فضل علينا – قال لنا مرة إنّ هذا المسجد من أفضل مساجد العالم ببساطته وعدم وجود الزخارف فيه، وحينها لم أستوعب كلامه، ولكني بعد سنوات طوال تفهمتُ رأيه تمامًا. والمسجد الحالي فخم وضخم، ولكن غياب تلك الوجوه الطيبة عن المسجد، والإهمال الذي رافق المسجد سنوات طويلة مؤلمان.
رحل الشيخ صالح الصوافي عن دنيانا حاملا ذكريات عن مسجد “طوي السيد” الذي خطب فيه الجمعة في السبعينيات، وكذلك ذكريات عن أهالي المسجد، وأكيد أنه كان يتمنى أن يصلي فيه من جديد بعد إعادة بنائه قبل رحيله.
• زاهر المحروقي كاتب عماني مهتم بالشأن العرب.
جريدة عمان. عدد الإثنين 18 إبريل 2022م: