عرّفنا القتل في الموضوع السابق بأنه فعل من العباد تزول به الحياة، أي أنه إزهاق روح أدمي بفعل أدمي آخر، وهو ذات التعريف في الشريعة الإسلامية والقوانين الوضعية.
التقسيم الثلاثي هو أشهر التقاسيم، لأنه يتفق مع التقسيم الذي سار عليه قانون العقوبات المصري وغيره من القوانين الوضعية، فقد قسم قانون العقوبات المصري القتل إلى عمد، وخطأ، وضرب أفضى إلى موت، أي القتل شبه العمد.
القتل العمد
القتل العمد هو ما اقترن فيه الفعل المزهق للروح بنية قتل المجنى عليه: أي أن تعمد الفعل المزهق لا يكفي لاعتبار الجاني قاتلاً متعمداً بل لابد من توفر قصد القتل لدى الجاني، فإذا لم يقصد الجاني القتل وإنما تعمد فقط مجرد الاعتداء فالفعل ليس قتلاً عمداً ولو أدى لموت المجنى عليه، وإنما هو قتل شبه عمد كما يعبر عنه فقهاء الشريعة، وضرب أفضى إلى موت في لغة شراح القوانين الوضعية، ويعتبر القتل العمد في الشريعة من أكبر الكبائر وأعظم الجرائم: وقد جاء القرآن والسنة بتحريمه وتعظيم شأنه وتحديد عقوبته.
تحريم القتل في القرآن الكريم، كما في قوله تعالى: (ولا تقتلوا النفس التي حرّم الله قتلها إلا بالحق)، وأما عقوبة القتل في القرآن فهي كما في قوله تعالى: (وكتبنا عليهم فيها النفس بالنفس والعين بالعين والأنف بالأنف والأذن بالأذن والسن بالسن والجروح قصاص).
أركان جريمة القتل العمد
الركن الأول: القتيل آدمي حي: تقع جريمة القتل على النفس فهي بطبيعتها اعتداء على آدمي حي: ولذلك سماها الفقهاء بالجناية على النفس، فلتحقق وقوع الجريمة يجب أن يكون المجني عليه آدمياً وأن يكون على قيد الحياة وقت ارتكاب جريمة القتل، فمن أطلق مقذوفاً نارياً على حيوان حي فقتله فإنه لا يعتبر قاتلاً عمداً وإن كان يعتبر متلفاً لحيوان، ومن شق بطن إنسان ميت أو فصل رأسه من جسمه بقصد قتله وهو لا يعلم أنه ميت فإنه لا يعد قاتلاً له لأن الموت لم ينشأ عن فعله ولأن الفعل كان بعد أن فارق الميت الحياة فاستحال قتله، أو بتعبير آخر: لا يعاقب الجاني على جريمة القتل العمد لاستحالة وقوعها ولكنه يعاقب لأنه استحل حرمة ميت، ومن المتفق عليه أن الميت هو من خرج فعلاً عن الحياة: فإذا قتل شخص مريضاً في حالة النزع فهو قاتل له عمداً؛ لأنه أخرجه بفعله عن الحياة، وإذا جنى شخصان على ثالث وكان فعل الأول يفضي إلى الموت لا محالة إلا أنه لا يخرج به من حكم الحياة وتبقى معه الحياة المستقرة مثل شق البطن ومَزْق الأمعاء فإذا قطع الثاني رقبته فالقاتل هو الثاني لأنه فوَّت حياة مستقرة أو ما هو في حكم الحياة.
الجنين في بطن أمه لا يعتبر آدميّاً حيّاً من كل وجه: ويعبر عنه في الشريعة بأنه نفس من وجه، دون وجه فمن يعدم الجنين لا يعتبر قاتلاً له عمداً، وإنما يعتبر مرتكباً لجريمة قتل من نوع خاص، ويعاقب على فعله بعقوبة خاصة.
ويتفق القانون المصري مع الشريعة في هذا الاتجاه فمن يعدم جنيناً في بطن أمه لا يعاقب على فعله بالعقوبة المقررة لقتل العمد في المادة 1/234 عقوبات، وإنما يعاقب بالمادة 260 عقوبات، وليس لجنسية المجني عليه أو دينه أو لونه أو سنه أو نوعه أو ضعفه أو صحته أي أثر على اعتباره مقتولاً عمداً، فيستوي أن يكون القتيل أجنبياً أو من رعايا دولة الجاني، ويستوي أن يكون متديناً أو غير متدين يعتنق دين القاتل أو ديناً آخر، ويستوي أن يكون أبيض أو أسود، عربياً أو أعجمياً، صغيراً أو كبيراً، ذكراً أو أنثى، ضعيفاً أو قويّاً، مريضاً أو صحيحاً، ويستوي أن يكون مرضه بسيطاً أو عضالاً يتوقع له الموت أو يرجى له الشفاء، فمن يقتل إنساناً أيّاً كان فهو قاتل متعمد ولو كان طبيباً قصد أن يخلص القتيل من آلام مرضه المستعصي، ووجود جثة القتيل ليس شرطاً لاعتبار جريمة القتل واقعة، وليس شرطاً لقيام الدعوى ما دامت الأدلة قائمة على حدوث واقعة القتل.
والأصل في الشريعة الإسلامية أن من ارتكب جريمة حوكم عليها فإن ثبتت عليه حكم عليه بالعقوبة المقررة للجريمة وإن لم تثبت حكم ببراءته مما نسب إليه، وإذا حكم عليه بالعقوبة تولى تنفيذها ولى الأمر أو نائبه، ومن المتفق عليه بين الفقهاء أنه لا يجوز أن يقيم الحد – أي العقوبات المقررة لجرائم الحدود – إلا الإمام أو نائبه؛ لأن الحد حق الله تعالى أي حق الجماعة وجب تفويضه الى نائب الجماعة، ولأن الحد مفتقر إلى الاجتهاد ولا يؤمن في استيفائه من الحيف والزيادة على الواجب فوجب تركه لولى الأمر يقيمه إن شاء بنفسه أو بواسطة نائبه، وإذا كانت القاعدة العامة إقامة الحد للإمام أو نائبه إلا أنه لو اقامه غيره من الافراد فإن مقيمه لا يسأل عن إقامته اذا كان الحد متلفاً للنفس أو للطرف؛ أي إذا كان الحد قتلاً أو قطعاً وإنما يسأل باعتباره مفتاتاً على السلطات العامة، أما إذا كان الحد غير متلف كالجلد في الزنا والقذف فإن مقيمه يسأل عن إقامته أي أنه يسأل عن الضرب والجرح وما يخلف عنهما. والفرق بين الحالين أن الحد المتلف للنفس أو الطرف يزيل عصمة النفس وعصمة الطرف، وزوال العصمة عن النفس يبيح القتل وزوال العصمة عن الطرف يبيح القطع، فيصير قتل النفس أو قطع العضو مباحاً ولا جريمة فيما هو مباح. أما الحد غير المتلف فلا يزيل عصمة النفس ولا عصمة الطرف فيبقى معصوماً ومن يرتكب جريمة عقوبتها حد غير متلف، وتعتبر إقامة الحد عليه جريمة ما لم تكن الإقامة ممن يملك تنفيذ العقوبة.
أيضاً، الحربي، هو من ينتمي لدولة محاربة، والإجماع على أنه مهدر الدم فلا يعاقب قاتله باعتباره قاتلاً عمداً وإنما يعاقب لأنه أحل نفسه محل السلطة التنفيذية وافتات عليها بإتيانه عملاً مما اختصت نفسها به، ولا عقاب على قتل الحربي إطلاقاً إن قتل في ميدان الحرب أو قتل دفاعاً عن النفس في غير ميدان الحرب، وفي هذا يتفق حكم الشريعة الإسلامية مع القوانين الوضعية، أما إذا قتل الحربي في ميدان الحرب لغير مقتضٍ كأن ضبط في أرض الوطن أو استؤسر فقتله من ضبطه أو أسره أو قتله غيرهما فلا يؤاخذ القاتل طبقاً، للشريعة باعتباره قاتلاً؛ لأن الحربي مباح الدم أصلاً لحرابته فضبطه أو أسره لا يعصمه ولا يغير من صفته كحربي ومن ثم يبقى دمه مباحاً بعد الضبط أو الأسر، فمن قتله فقد قتل مباح الدم ولا مسؤولية عن قتل مباح باعتبار فعل القتل، وإنما المسؤولية تأتي من كون القاتل اعتدى على السلطة العامة التي يوكل إليها أمر من يضبط أو يؤسر من الحربيين، فمن هذه الوجهة يسأل القاتل ويعاقب لافتياته على السلطة العامة.
هذا هو حكم الشريعة الإسلامية في هذه الحالة، وهو يخالف حكم القوانين الوضعية التي تعتبر الفعل قتلاً عمداً ويعاقب عليه على هذا الاعتبار، ولكن الذي يحدث عملاً أن المحاكم تقدر ظروف الجاني والمجني عليه وتقضي على الجاني بعقوبة مخففة بقدر الإمكان، فالنتيجة العملية أن الشريعة تتفق مع القوانين الوضعية من وجهة تقرير عقوبة على فعل الجاني وأن الخلاف واقع في تصوير الجريمة تصويراً قانونياً، فالقوانين تعطى للقضاة حق تحفيف العقوبة لظروف الجاني والجناية فإن الشريعة تجيز لولي الأمر أن يرتفع بعقوبة التعزير إلى القتل، وجريمة الاعتداء على السلطة العامة من جرائم التعازير فيستطيع أولياء الأمور إن شاءوا أن يشددوا عقوبتها في بعض الحالات دون البعض الآخر.
د. عبدالعزيز بن بدر القطان