استوقفتني هذه المقدمة التي تعبّر عن حالة بلاغية قواعدية تعبيرية قلّ نظيرها، حول أن كلام الله تبارك تعالى عمدة القواعد المثلى، وآية النظم البلاغي الفريد، لكل دارس وناظم وأديب، فدلالاته تمتد عبر الأفق لا تكاد يدرك منتهاها، وإيقاعاته تتجلى في أبهى حلل تعبُر إلى الأسماع، وجمالياته تتوزع بينهما؛ فتتأثر النفس أيما تأثر ببيانه، ويبتهج الخاطر أيما ابتهاج بنظمه، وفي سورة الضحى تجلياتٌ مبهرة، وأسرارٌ مشوقة، تنثرها آيات السورة لآلئ يتحد فيها طرفا العقد فيرتبط الإيقاع بالمعنى؛ محدثين جمالاً يمتع القارئ المأخوذ بأشكال الإيقاع الجميل، فمرة يحلق به إلى التناسب الدلالي مع الصوتي، ثم يدور مع جمال الفواصل، وتآلف الأصوات وتكراراتها، والغنة والتنغيم، والحركات القصيرة والطويلة، وما يلحق ذلك من ظواهر إيقاعية لها دلالاتها، وما يشع من جماليات، ومن هذه الآيات سورة الضحى، وما تحمله من حكم ومواعظ، تتقاطع منذ زمن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم إلى يومنا هذا مع اليتيم والسائل والضعيف.
وجدنا أن الإسلام عُني باليتيم وكفله ونصر المستضعفين وأوصى بهم، وقلة من لا تعرف هذا الأمر، فكلما زادت رعايتهم ثقل ميزان الحسنات لمن يشتري الآخرة بدل الدنيا، رغم أن المحسن يلقى في دنياه وآخرته كل الخير جزاء ما يقوم به وهذا ما أوصانا به رسولنا الكريم محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
يقول الله سبحانه وتعالى في كتابه العزيز: (والضحى والليل إذا سجى ما ودعك ربك وما قلى وللآخرة خير لك من الأولى ولسوف يعطيك ربك فترضى ألم يجدك يتيماً فآوى ووجدك ضالاً فهدى ووجدك عائلاً فأغنى فأما اليتيم فلا تقهر وأما السائل فلا تنهر وأما بنعمة ربك فحدث).
إن المراد من الضحى هو النهار كله في مقابل الليل، وأمما الليل إذا سجى أي إذا سكن واستقر فيه كل موجود، ما ودعك ربك وما قلى، هنا يقسم سبحانه وتعالى بالتقابل بين النهار والليل، وهو ما يسمّى تقابل الأضداد بأنه لم يترك رسول الله منذ ولادته من غير ميعاد، وما كرهه أو أبغضه لحظةً ما، والقسم هنا بالأمرين المتقابلين ليوضح أن رعاية الله تبارك وتعالى للرسول عليه السلام منذ صغره وعدم كرهه في وقت ما، هذه الحالة تشبه في حالة عدم إنكارها التقابل بين النهار والليل، إذ أن هذا أمر لا ينكره إلا من يفرق بين الضوء والظلام.
ولا الآخرة خير لك من الأولى، هنا إذا كان الله تبارك وتعالى لم يترك رسوله صلى الله عليه وآله وسلم، في دنياه من غير رعاية، فإن ما أعّد له في الآخرة من جزاء خير من ذلك الذي حصل عليه من ربه في حياته الدنيوية.
ولسوف يعطيك ربك فترضى، هنا تقول الآية الكريمة، إن الله تبارك وتعالى سيزيد من عطائه للرسول عليه السلام، في الدنيا وفي الآخرة معاً، وإن اختياره للرسالة ووعده بالنصر في دعوته، فسيكون خير المكرمين إلى مولاه جلّ جلاله، في نعيم الآخرة.
ألم يجدك يتيماً فآوى، هنا تأخذ السورة في عرض صنوف الرعاية التي أحاط بها الله تبارك وتعالى رسوله الكريم، فتذكر أن الرسول كان يتيماً من غير أبٍ وأم، ومع ذلك جعل له مأوىً وكفالةً عند أقربائه.
في الآية الكريمة، ووجدك ضالاً فهدى، تذكر هذه الآية، أن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، وجد في عهدٍ جاهلي، وهو عهد قائم على الضلالة والفساد، ومع ذلك صانه ربه من عادات الجاهليين ومن عقائدهم، وهداه بفطرته السليمة إلى البعد عن الانحراف وتجنب الجرائم والآفات التي كان يمارسها المشركون في مكة المكرمة.
ووجدك عائلاً فأغنى، وبالإضافة إلى المنّتين السابقتين، تذكر السورة أنه صلى الله عليه وآله وسلم، كان صاحب حاجة فلم يتركه ربه إلى مذلة السؤال، وإنما وجهه إلى العمل والكسب عن طريقه، فعمل عند السيدة خديجة بنت خويلد رضي الله عنها، وغطى بعمله لديها حاجته، فأصبح غنياً عن السؤال، بجانب غنائه النفسي، لأن الغنى النفسي هو داعمة الإنسان في حفظ كرامته الإنسانية.
فأما اليتيم فلا نقهر، وإذا كان الله تبارك وتعالى قد وقف إلى جانب رسوله صلى الله عليه وآله وسلم، عندما كان يتيماً، فالرسول في دعوته، وفي قدوته يجب أن يحرص على رعايته لليتيم فيجنبه الحرج في توجيهه وفي ماله، ولا يكرهه على قبول ما ليس هو في صالحه.
وفي الآية الكريمة، وأما السائل فلا تنهر، هنا السائل ليس أقل من اليتيم في وجوب تلقيه الرعاية، فكلاهما ضعيف وفي حاجة إلى مساندة، ورعاية السائل قد لا تكون في العطاء فقط، وإنما قبل العطاء تكون في رعاية إحسانه وإشعاره بالكرامة الإنسانية، ومن هنا إذا رد من غير عطاء فيجب أن يكون رده غير جارحٍ له وغير خارج عن الدائرة الإنسانية.
وأما بنعمة ربك فحدث، هنا الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، إذا كان مطالباً منه بعدم إحراج اليتيم، وبعدم إهانة السائل، فإنه مطالب منه من قبل ربه كذلك، بأن يقدر نعمة الله تبارك وتعالى عليه في دنياه والشكر لله عز وجل على هذه النعمة، في التحمل وفي الصبر في سبيل الدعوة إلى الله تبارك وتعالى، وبالترحاب والتقدير دائماً في وقت الشدائد، والأزمات.
وهكذا تؤكد السورة في القسم بالليل والنهار على رعاية الله عز وجل للرسول صلى الله عليه وآله وسلم، منذ نشأته وتؤسس على رعاية الله عز وجل له الطلب منه صلى الله عليه وآله وسلم بأن يرعى الضعفاء كما رعاه الله وهو ضعيف بيتمه.
وهذه السورة والسورة التي تليها، وهي سورة الشرح، تتضمنان وعد الله تبارك وتعالى للرسول صلى الله عليه وآله وسلم، بمساندته في مهمته بعد الرسالة، كما سانده جلّ جلاله في تنشئته وإعداده للدعوة إلى سبيل الله عز وجل.
عبدالعزيز بن بدر القطان/ كاتب ومفكر – الكويت.