ينطلق طرحنا للموضوع من مبدأ أنَّ الوظيفة العامَّة تكليف لا تشريف، ومسؤوليَّة لا استجمام، وعمل وإخلاص، وليس تصريحات وظواهر صوتيَّة، خدمة للمواطن ورعاية لمصالح الوطن وليس الحصول على المكاسب الذَّاتيَّة وتحقيق أغراض شخصيَّة. هذا المنطلق عِندما يتأسَّس في ذات الموظف فإنَّه ينتقل إلى عُمق الضمير، ويجري في الشعور مجرى الدَّم في العروق، تصدقه المعطيات والممارسات وتعكسه المواقف والتجارب التي تعبِّر عن مدى وجود حسِّ الإنسان في قِيَم هذا المسؤول أو ذاك، في التزامه عقليَّة الوفرة، وفتح الفرص للمواطنين للتنعُّم بخيرات هذا الوطن، وفاء لصنيعهم، وحفاظًا على حقوقهم مع المحافظة على استدامتها للأجيال القادمة، الأمْرُ الذي يواجه فيه عقليَّة الندرة وإغلاق الأبواب وتضييق الفرص التي باتت تسيء لموارد الوطن وتستهلك ثرواته وتحجِّم إمكاناته؛ فإنَّ إسقاط هذه الصورة على واقعنا اليوم يؤكِّد الحاجة إلى إعادة إنتاج مسار صناعة القيادات في منظومة الجهاز الإداري للدَّولة، تلك التي تصنع للوطن قوَّة، وللمواطن حضورًا وصِيتًا، فيما تسطِّره من روائع الإنجاز، وتترجمه من معاني العطاء والعمل والإنتاجيَّة، وهو الذي يُمكِن استخلاصه من رؤية عُمان 2040 في محور «القيادة والإدارة الاقتصاديَّة»؛ والهدف «إدارات عُليا مُتجدِّدة قائمة على كفاءات تناسب ديناميكيَّة السُّوق والتوقُّعات المستقبليَّة والتغيُّرات المتسارعة»؛ فإنَّ تجسيد هذه الصورة في واقع عمل المؤسَّسات يتطلب مراجعات دقيقة، وتوجُّهات أعمق في بناء قدرات القيادات، وخلق الاستعداد والدافع لدَيْها لإنجاز مهمَّاتها وتأطير مستوى عملها في ظلِّ تنافسيَّة راقية، وتميُّز نوعي، واختيار دقيق مرتكز على التجربة والمهارة والكفاءة والاستعداد؛ قيادات متفاعلة مع الحدث، متضامنة مع المبدأ، مدركة لقِيمة الحوار، قادرة على اتِّخاذ القرار السريع والجريء؛ في ظلِّ رؤية عمليَّة متوازنة بَيْنَ المنجز الفعلي للمؤسَّسات والتسويق الإعلامي للأفكار والشعارات ومستوى ملامستها لواقع التطبيق، واعتمادها على الدراسات التقييميَّة المشتركة، وتوظيف البحث العلمي في القرار المؤسَّسي، وقدرتها على معالجة مستوى التدخل المُجتمعي في قرارات المؤسَّسة، بما يُعزِّز من فرص الارتقاء بعملها في ظلِّ ما تمتلكه من قدرات واستعدادات ومهارات وفكر ورؤية مُتجدِّدة واقعيَّة بعيدة المدى في قراءتها للمشهد الوطني بتجلِّياته المختلفة، والتكيُّف مع هذا التحوُّل وفق ما أنتجته مؤشِّرات القياس ومعايير التقييم المستخدمة. وعَلَيْه، فإنَّ ما يحصل من تراكمات إداريَّة وانتظار غير محدود المدَّة للأدوار أو عدم استجابة لمطالب ومظلمة موظف أو مواطن تمَّ رفعها إلى المسؤول الحكومي، الأمْرُ الذي نتج عَنْه غياب روح التواصل وزيادة فجوة التباين، وجفاف منابع الثقة، واهتزاز مسار الشعور بالمصداقيَّة، على أنَّ ردود الأفعال السلبيَّة ووجهات النظر التشاؤميَّة في منصَّات التواصل الاجتماعي وغيرها عِندما تطرح مؤسَّسات الجهاز الإداري للدَّولة وبشكلٍ خاصٍّ الخدميَّة مِنْها مشاريعها وجهودها التطويريَّة في حساباتها الإلكترونيَّة، يعكس الصورة القاتمة في التعامل مع ملفات المواطن في الجهد المؤسَّسي، رغم وضوح التوجيهات السَّامية لمولانا حضرة صاحب الجلالة السُّلطان هيثم بن طارق المُعظَّم ـ حفظه الله رعاه ـ بدعوة الجهاز الإداري للدَّولة نَحْوَ تبسيط الإجراءات، وتأكيده على أهمِّية تلمُّس احتياجات المواطنين؛ فإنَّ الصورة السلبيَّة التي تسقطها ممارسات مكاتب المسؤولين الحكوميِّين باتت تنعكس سلبًا على ثقة المواطن في المسؤول الحكومي، في مشهد يتحدث عَنْه تعقُّد الإجراءات وتكدُّس المعاملات، وغياب مبدأ الشفافيَّات، وضياع حقوق النَّاس. وفي ظلِّ هذه التراكمات يأتي التساؤل: مَن المسؤول عن هذا التأزُّم الحاصل في العلاقة بَيْنَ المواطن والمؤسَّسات؟ هل المسؤول الحكومي أم مكتب المسؤول الحكومي؟ في حقيقة باتت حاضرة في المشهد الوطني أنَّ تغيير المسؤولين الحكوميِّين قَدْ لا يغيِّر الممارسة، وهناك شواهد كثيرة على ألسنة المواطنين أنفُسِهم بأنَّ التغيير يجِبُ أن يبدأَ من فرض مبدأ الرقابة والمتابعة والتقييم والشفافيَّة وصولًا إلى ترسيخ معايير النزاهة في الأداء الحكومي والذي يُمكِن أن تُشكِّلَ فيه مكاتب المسؤولين الحكوميِّين نموذجًا للتطبيق، وأن تكُونَ إعادة هيكلة الجهاز الإداري للدَّولة محطَّة اختبار وتحوُّل لتغيير المشهد الإداري وإعادة إنتاجه وفق متطلبات المرحلة ومعطيات الحالة العُمانيَّة المُتجدِّدة، للحدِّ من ظواهر الفساد في المشهد الإداري في ظلِّ غياب الشفافيَّات والمساءلة والنزاهة لدى البعض، وعدم وضوح الردود أو وجود خيوط اتصال واضحة وجسور تواصل ممتدَّة، بما يؤكِّد في الوقت نَفْسِه على أهمِّية أن تجدَ الخطَّة الوطنيَّة لتعزيز النزاهة التي يتبنَّاها جهاز الرقابة الماليَّة والإداريَّة للدَّولة طريقها في تطبيق أفضل النماذج في تطبيق النزاهة ومكافحة الفساد، والتي تضع مكاتب قيادات الجهاز الإداري للدَّولة في واجهة الإصلاح وموجة التغيير القادمة. لقَدْ عايشنا مسؤولين حكوميِّين كثرًا وتعايشنا معهم، جمعتنا بهم المهنة والوظيفة والفعاليَّات والحوارات واللقاءات والمناسبات الاجتماعيَّة وغيرها، يحملون روح الإنسان، وحسَّ المواطن، إيجابيِّين لأبعد الحدود، طيبين ذوَّاقين راقين، لدَيْهم العِلم والْفَهْم والذَّكاء، والقدرة على القيادة، يمتلكون إنسانيَّة كبيرة في المواقف، يُحبُّون الوطن كما يُحبُّون المواطن، غير أنَّ الصورة التي تركتها مكاتبهم عَنْهم والهالة التي أُحيطت بهم في منع الدخول أو السَّلام عليهم أو اللقاء بهم…إلخ، أو أنَّ خروجهم يجِبُ أن يكُونَ محاطًا بهذه الفئة التي باتت تفرض واقعًا جديدًا ملزمًا في حياة المؤسَّسات، لِيمنعَ حتَّى السَّلام عَلَيْه أو مدَّ يدِ المصافحة له، ورغم أنَّ الحصانة لرجالات الدَّولة والمسؤولين لا تعني بأيِّ حالٍ من الأحوال تقصير المسؤول الحكومي في عمله أو عدم التقائه بالنَّاس أو امتناعه عَنْهم أو عدم إنجاز معاملاتهم أو عدم الخروج من مكتبه أو غيرها من الممارسات التي باتت تبرز حقيقة أخرى أنَّنا بمِثل هذه التصرفات والممارسات قَدْ لا نصل إلى تحقيق مستهدفات رؤية عُمان في حوكمة الأداء وتمهين القرار، فعِندما يُحاط المسؤول الحكومي بمِثل هكذا شكليَّات فإنَّ المتوقع أن تظلَّ أفكاره حبيسة في أدراج مكتبه، إذًا كيف يعرف الموظف الآخر ما يريده المسؤول الحكومي ويفكِّر فيه ويطمح إليه، وقَدْ عشنا أمثلة كثيرة فعِندما لا يضع المسؤول الحكومي لنَفْسِه هالة تُميِّزه عن مُجتمع المؤسَّسة، فهو جزء مِنْهم يشاركهم ويقف على إبداعاتهم ويطمئن على استقرارهم، ويتابع أخبارهم، ولا يضع لنَفْسِه أيَّ بروتوكولات صارمة تمنعه عن المواطن؛ ويلتزم سياسة الباب المفتوح بتواصله مع الموظفين والمواطنين، فإنَّ المؤسَّسة تعمل في وفاق، الأمْرُ الذي ينعكس على إنجازات المؤسَّسات وثقة العاملين والموظفين وانتمائهم لها وإنتاجيَّتهم بكُلِّ شغَفٍ، في ظلِّ ما يمنَحُه لهم من فرص التفكير والإبداع، وإبداء الرأي والمشاركة والعمل والعطا، وعكس ذلك تصبح المؤسَّسة في حالة من الصراع وعدم الوضوح في المسارات، وغياب المصداقيَّة والهدر والتملُّق الذي يفقد خلاله الموظف انتمائه للمؤسَّسة واحترامه لها وتقديره لِمَا تقوم به، ندرك حقيقة أنَّ ما يقوم به مكتب المسؤول الحكومي من مسؤوليَّات وواجبات، أمانة أخلاقيَّة ووطنيَّة وإنسانيَّة، فهو المُعبِّر عن المسؤول الحكومي وهو صوت المسؤول الحكومي للشارع، وهو حلقة اتِّصال المواطن مع المسؤول الحكومي، لذا يجِبُ أن يكُونَ القائمون عَلَيْها على مستوى من الأمانة والمصداقيَّة والثِّقة والرغبة الصادقة في مدِّ جسور التواصل مع المواطن والموظف الآخر في المؤسَّسة.
وعَلَيْه، فإنَّ معطيات الواقع الإداري وحجم التراكمات فيه، تؤكِّد الحاجة إلى إعادة هيكلة البنية الأدائيَّة والتواصليَّة والفنيَّة والمهنيَّة والقِيَميَّة لمكتب المسؤول الحكومي، وأنَّ موجة الإصلاح الإداري التي تتَّجه إليها منظومة الجهاز الإداري للدَّولة يجِبُ أن تبدأَ من مكتب المسؤول الحكومي، وأنَّ تحقيق مفاهيم وأبجديَّات رؤية «عُمان 2040» المرتكزة على الشفافيَّة والحوكمة والكفاءة والنزاهة والإنتاجيَّة والمصداقيَّة والإيمان بروح المبادئ والإخلاص والاحتواء وامتلاك روح التغيير والتعاون والاحترام وغيره؛ إنَّما يجِبُ أن تبدأَ من مكاتب المسؤولين الحكوميِّين ومَن في حكمهم، بحيث يرتسمون نهج القدوة والنموذج في العمل الجادِّ المُخلِص والأداء الكفؤ الراقي، والخِطاب المُعزَّز بالمصداقيَّة والشفافيَّة والوضوح، وحسِّ الذوق، وعِندها سنجزم بأنَّ كُلَّ شيء في المؤسَّسة يجري إلى استقرار ووفق المخطَّط له، وعِندها تغيب الأثَرة والأنانيَّة والأيديولوجيَّات والازدواجيَّة في العمل، والتعقيدات وتأخير المعاملات، وتصبح المؤسَّسات كقلْبِ رجلٍ واحد، المسؤول الحكومي شعلتها وأمامها وطريقها الذي يصنع مِنْها قوَّة ويبني لأجْلها نموذجًا، ستنعكس نواتجه على الواقع العملي، فإنَّ التحدِّي الذي نعتقد أنَّ على مجلس الوزراء الموقَّر أن يعملَ عَلَيْه في إطار تنفيذ مستهدفات رؤية «عُمان 2040» هو إعادة هيكلة وبناء وإنتاج القيادات التي تَقُودُ مكاتب المسؤولين الحكوميِّين في الجهاز الإداري للدَّولة والمؤسَّسات ذات الشخصيَّة الاعتباريَّة والرؤساء التنفيذيِّين في الشركات، فإنَّ قدرة هذه المكاتب على ترك بصمة لها في الواقع يظهر في صِدق تعاملها مع النَّاس وإيمانها بمبدأ أولويَّة الحقوق، وإدراكها أنَّ المسؤول الحكومي موظف في الدَّولة مكلَّف بمسؤوليَّة وأنَّ له الحقَّ وعَلَيْهم الواجب في أن تصلَ إليه هذه الأمور ممَّا صغر مِنْها أو كبر، ممَّا قلَّ مِنْها أو كثر كتابًا مفروضًا، ومبدأ يجِبُ عَلَيْهم أن يكُونُوا عونًا على تحقيقه. أخيرًا، يجِبُ أن ندركَ بأنَّ المسؤول الحكومي بَشَر، وقَدْ يحصل أن تَغِيبَ عَلَيْه بعض الأمور أو أن يصدرَ قرارات فيها غمط في الحقوق، فإنَّ دَوْر مكتب المسؤول الحكومي تبصيره وتوضيح الصورة له ومساعدته في إحقاق الحقِّ. ولأنَّ القانون منَحَه الصلاحيَّات الكافية والاستثناءات التي يُمكِن أن يصنعَ من خلالها قوَّة واحترام المُجتمع، خصوصًا في القضايا العامَّة التي تهمُّ مصالح النَّاس انطلاقًا من مبدأ «الرحمة فوق القانون» و»الراحمون يرحمهم الله تبارك وتعالى، ارحموا مَن في الأرض يرحمكم من في السماء». إنَّ المسؤول الحكومي بذَل، رجُل المهمَّات الصعبة أقْسَم أمام السُّلطان وبشهادة أبناء الوطن بأنْ يحافظَ على النظام الأساسي للدَّولة ويرعى مصالح الوطن والمواطنين، لذلك فهو مسؤول أمام الله والوطن والسُّلطان في أن يكُونَ أُمَّة لوطنِه، يلتمس فيه الوطن طريق القوَّة نَحْوَ النهوض بمؤسَّسته أو قِطاعه، ويلتمس فيه المواطن النزاهة والإخلاص والتفاني والخيريَّة في تحقيق مصالحهم ورعاية شؤونهم.
د.رجب بن علي العويسي