دخل العدوان الصهيوني الغاشم، على قطاع غزة، يومه الـ 69 تواليا، بمواصلة الحرب الدامية وتكثيف الغارات الجوية والقصف المدفعي، واقتراف مجازر لم يسبق لها مثيل، مع ارتكاب فظائع ضد المدنيين في مناطق التوغل بما في ذلك إعدامات ميدانية واعتقالات جماعية، في إطار جريمة الإبادة الجماعية وعمليات التطهير العرقي، وسط وضع إنساني كارثي.
في ظلّ هذه التطورات وفي ضوء عجز دولي رسّخه حقّ النقض الفيتو الذي إستخدمته أمريكا بما يخالف إرادة المجتمع الدولي لوقف الجرائم بحق الشعب الفلسطيني، انكشفَ على مدار هذين الشهرين للعالم أجمع حجمُ التناقض “إن لم نقل الزيف” الذي يعتري القيم الإنسانية الغربية المخاتلة؛ ذلك أن الناظر لما تمت مراكمته في مدونة حقوق الإنسان وفلسفة الحريات والمساواة والعدالة مع نموذج الديمقراطية الليبرالية في أميركا وأوروبا، انهار تماما على مستوى التجليات في الواقع العملي، حيث تسود المصلحة الخالية من القيمة، والقوة العارية من الأخلاق، ليس في رؤية الشعوب العربية والإسلامية وحسب- والتي لها تجارب مريرة مع أشكال القوة والاستعمار والخراب باسم تلك الشعارات نفسها – وإنما لدى لفيف عريض من الرأي العام الغربي نفسه.
ميدانياً، أظهرت التطورات عجز صهيوني كبير في تحقيق إنتصارات ميدانية مقابل القسام، فيما تستمر الأخيرة في توجيه ضربات قاصمة لجيش العدو الصهيوني داخل متاهات غزة الدموية، في الإطار أجرى موقع “نكاه نو” حواراً مع الباحث السوري المتخصص بالجيوبولتيك والدراسات الاستراتيجية الدكتور “حسن أحمد حسن” حول آخر المستجدات الماثلة في فلسطين المحتلة.
فيما يلي نصّ الحوار:
– ذكرت صحيفة “يديعوت أحرونوت” الإسرائيلية أن تل أبيب أبلغت دولا عربية نيتها إنشاء منطقة عازلة على الجانب الفلسطيني من حدود قطاع غزة منعا لوقوع هجمات في المستقبل”، ما هي مآلات وتبعات تنفيذ مثل هذه الخطة؟ وهل هي قابلة للتحقق؟
القراءة المتأنية لمضمون ما ذكرته الصحيفة الإسرائيلية تفرز عدة عناوين تستحق التوقف عندها:
ـــ العلاقة الحميمية بين بعض الدول العربية وكيان الاحتلال، وهي علاقة تابع ومتبوع.. صاحب قرار، ومسوق وحامل للقرار…جانب يخطط ويشن حرب نفسية ومعنوية، وجانب يمثل الذراع المساعدة لتحقيق الأهداف المعنوية والمادية المأمولة.
ـــ موضوع النوايا الإسرائيلية هي أبعد بكثير من التفكير بإنشاء منطقة عازلة على الجانب الفلسطيني، ولو كان باستطاعة كيان الاحتلال البقاء محتلاً لقطاع غزة لما انسحب منه هرباً من التكلفة التي تفوق طاقته وقدرته على التحمل، وجميع الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة منذ بن غوريون حتى اليوم محكومة بالعمل لتنفيذ الشعار التوراتي المنقوش على جدار الكنيست: (حدودك يا “إسرائيل” من الفرات إلى النيل)، وبالتالي النية الإسرائيلية تتضمن ذلك وأكثر.
ـــ منع وقوع هجمات في المستقبل يبقى أقرب إلى اوهم والخيال والأمنيات، فالمقاومون الفلسطينيون في عملية طوفان الأقصى اقتحموا العمق المسيطر عليه من قوات الاحتلال الإسرائيلية والجيش حتى مسافة بلغت أربعين كم، وهو ما تبلغ مساحته أضعاف مساحة قطاع غزة كاملاً، وبالتالي، منع وقوع هجمات مستقبلاً غير ممكن حتى لو تمكنوا من إعادة احتلال القطاع كاملاً، بدليل انسحابهم منه بعد احتلاله لسنوات، وأي حديث عن قواعد اشتباك جديدة مرهون بخواتيم عملية طوفان الأقصى وتفاعلاتها التي ما تزال مفتوحة على الاحتمالات كافة.
ـــ النقطة الأخيرة التي يمكن الإشارة إليها في هذا السياق تتعلق بمحاولات الظهور بمظهر المنتصر الذي يفرض شروطه، وهذه رسالة للداخل الإسرائيلي المأزوم تحت وطأة تداعيات ما حدث في السابع من تشرين الأول، وما خلفه من شروخ بنيوية أصابت التجمع الاستيطاني في العمق، وبالتالي هي رسالة لطمأنة المستوطنين الذين تم تهجيرهم بأنهم موضع اهتمام حكومة نتنياهو المصممة على كسر إرادة الفلسطينيين وهيهات لها بلوغ ذلك.
– اقترحت إيران وماتزال تقترح اجراء استفتاء في فلسطين المحتلة بمشاركة جميع الاطياف بشأن اقامة دولة فلسطينية وإنهاء ما يسمى اسرائيل وبرعاية الأمم المتحدة، ما رأيكم بمثل هذا المقترح؟
الاقتراح الإيراني موضوعي وممكن التطبيق لو كان هناك احتكام إلى منطق القانون الدولي وأعراف المجتمع الإنساني وقيمه المرعية، لكن الوجود الإسرائيلي بكليته قائم بالقوة وبدعم أمريكي وأطلسي مطلق، لأن “إسرائيل” أكبر قاعدة للغرب الاستعماري في منطقة الشرق الأوسط، وقد تم إنشاؤها لتكون رأس حربة وحامية لمصالح ذاك الغرب المتوحش الذي لا يقيم وزنا لجميع القوانين الدولية، ولا لميثاق هيئة الأمم المتحدة، وهذا يفسر الحضور المباشر للأصيل الناتوي ببوارجه وأساطيله ومدمراته وحاملات طائراته عندما تبين أن الوكيل عاجز عن حماية نفسه، ولا شك أن زرع الكيان بالقوة واستمراره بالوجود الفعلي على امتداد عقود أمرٌ واقع لا يمكن تجاهله، وهذا يجعل الصراع مع الصهيونية وداعميها مزمناً وأكثر تعقيداً، وحكام تل أبيب يدركون أنهم إلى زوال عاجلاً أم آجلاً، سلماً أو حرباً، فالسلام الحقيقي العادل يعني بداية نهاية “إسرائيل” ديموغرافياً ليس فقط بسبب التفاوت في نسبة المواليد مقارنة بالعرب الفلسطينيين، بل لأن غالبية المستوطنين لديهم جوازات سفرهم وجنسيتهم الثانية التي تمكنهم من العودة إلى أوطانهم التي تركوها بتحفيز من الحركة الصهيونية تحت عنوان العودة إلى أرض الميعاد والوطن الأم، وفي حال تسوية الصراع بأية طريقة فذاك الوطن وكل ما يتعلق به يصبح سراباً لا يمكن القبض عليه، ولا إرواء الظمأ بمائه المتخيل.
بالعودة إلى مضمون السؤال فالحديث عن إجراء انتخابات تشمل سكان فلسطين الحقيقيين يعني زوال الكيان، وهذا ما لا يمكن أن تسمح بحدوثه أمريكا وكل من يدور في فلكها الآسن.
-في رأيكم هل حقق او سيحقق العدو الصهيوني اهدافه في غزة؟
ما يتعلق بالأهداف الكبرى التي تم الإعلان عنها رسمياً، والمتمثلة باستعادة الأسرى بالقوة والقضاء على حماس وفاعليتها العملية فهذا لم يتحقق، ولا يبدو في الأفق أية بوادر أو قرائن دالة تشير إلى إمكانية تحقيقه، أما ما يتعلق بالقتل والتدمير والانتقام من الفلسطينيين فقد استطاعت آلة القتل الصهيونية فعل الكثير، وإذا توقفت الأعمال القتالية اليوم، فاستعادة دوران عجلة الحياة كما كانت عليه يتطلب الكثير من الوقت والجهد والإمكانيات، وهذا ما لا يبدو أنه ممكن، فالدول التي تدعي حرصها على الغزاويين واستعدادها لإعادة بناء ما هدمته آلة القتل والإبادة لن تقدم دولاراً واحداً لإعادة البناء إلا بموافقة تل أبيب ورضاها، ووفق الأجندة العدوانية التي يتوصل إليها الخبث الصهيوني الذي لا يؤمن جانبه، ولا أحد يستطيع التنبؤ بما قد تتفتق عنه عقلية القتل والإجرام من مخططات عدوانية مشبوهة وخطيرة.
د. حسن أحمد حسن / خبير استراتيجي