اكتسبت سلطنة عُمان بفعل تعاقب الأعاصير والأنواء المناخيَّة والأخاديد الجوِّيَّة والغطاء السحابي الماطر منذ إعصار جونو 2007؛ خبرة في إدارتها للحالات الطَّارئة، استطاعت خلال هذه العقود أن تُعِيدَ تقييم وتطوير منظومة إدارة الحالات الطَّارئة، وأن تتخذَ إجراءات ثابتة وآليَّات واضحة وخطوات عمليَّة استباقيَّة، عزَّزت من قدرتها على إدارة منظومة الحالات الطَّارئة، وأعطت العمل الجمعي الوطني في إطار اللجنة الوطنيَّة لإدارة الحالات الطَّارئة مساحة قوَّة في التَّعامل الواعي مع نتائج هذه الأعاصير أو الحالات الطَّارئة، وعَبْرَ الجاهزيَّة المؤسَّسيَّة والتَّكامل في الجهود، والتناغم في الأُطر، وتعظيم المكاسب الوطنيَّة المتحقِّقة من هذه الحالات في إطار استنطاق القِيَم والأخلاق المبادئ والهُوِيَّة الوطنيَّة، واستنهاض الروح الإيجابيَّة والإرادة الذَّاتيَّة والشَّراكة المؤسَّسيَّة والفرديَّة في بناء قدرات وطنيَّة فاعلة في إدارة الحالة الطَّارئة والوقاية مِنْها في مختلف المراحل، سواء ما قَبل الحالة الطَّارئة، أو في أثناء عبور عَيْن الحالة أو الإعصار أو ما بعد الحالة الطَّارئة والسيناريوهات المعتمَدة في إعادة الأمور إلى ما كانت عَلَيْه قَبل الحالة. لذلك عزَّزت هذه المكاسب من السَّعي نَحْوَ بناء سياسات وطنيَّة ناضجة، وتطوير التَّشريعات النَّافذة في ذلك، وترسيخ بناء فِقْه إدارة الأزمات والتَّعامل الواعي مع الحالات الطَّارئة وتفعيل قِطاعات العمل الوطنيَّة في إدارة الحالات الطَّارئة، سواء من خلال الرسالة الإعلاميَّة أو نُظُم التدريب، أو مناهج التعليم وبرامجه، حيث عزَّزت جهود سلطنة عُمان في إدارة الحالات الطَّارئة من تأسيس بنية مؤسَّسيَّة وهياكل تنظيميَّة وإداريَّة مَرِنة تحقِّق الاستجابة السَّريعة، وترفع من مستويات التَّنسيق والتَّكامل عالية الأثر، عظيمة التأثير، بالإضافة إلى التطوير في التَّشريعات والقوانين والأنظمة الَّتي تعمل فيها، وقَدِ اتَّخذت عمليَّات التطوير التحديث منهجيَّة التدرج القائمة على تشخيص الحالة الوطنيَّة وتقييم نتائج العمل ومستويات الاستجابة، وما تطلَّبه الأمْرُ من التوسُّع في لا مركزيَّة العمل بالمحافظات ومنحها الصَّلاحيَّات المناسبة في اتِّخاذ القرارات ذات الصِّلة.
وشكَّل إنشاء اللجنة الوطنيَّة لإدارة الحالات الطَّارئة محطَّة تحوُّل كبرى في منظومة إدارة الحالات الطَّارئة بسلطنة عُمان، والَّتي جاءت نتاج لعمليَّات التَّقييم والرَّصد والمتابعة والتَّشخيص المستمرِّ للحالة العُمانيَّة والتَّعامل مع الحالات الطَّارئة الَّتي تعرضت لها سلطنة عُمان في فترات سابقة، واكتسبت خلالها القوَّة والتمكين والاستباقيَّة وجاهزيَّة قِطاعات العمل في اللجان الفرعيَّة لإدارة الحالات الطَّارئة بالمحافظات والَّتي شملت: قِطاع الإغاثة والإيواء، وقِطاع البحث والإنقاذ، وقِطاع الإعلام والتوعية العامَّة، وقِطاع الاستجابة الطبيَّة والصحَّة العامَّة، ورفع درجة التَّنسيق والتَّكامل في الجهود الوطنيَّة في التَّعامل مع الحالات الطَّارئة بَيْنَ الجهات المختصة، وتعزيز التَّعاون والتَّكامل بَيْنَ مختلف الأجهزة الحكوميَّة العسكريَّة والأمنيَّة والمَدَنيَّة، والقِطاع الخاصّ والأهلي؛ وبِدَوْره شكَّل صدور القرار(98/2023) بتحديد اختصاصات المركز الوطني لإدارة الحالات الطَّارئة والَّذي يهدف إلى تحقيق الاستعداد لِمواجهةِ ما قَدْ تتعرض له البلاد من الكوارث العامَّة والحالات الطَّارئة الاستثنائيَّة، حيث يعمل المركز على متابعة وتنفيذ سياسات واستراتيجيَّات وخطط اللجنة الوطنيَّة لإدارة الحالات الطَّارئة وغيرها من الخطط الَّتي يتمُّ إعدادها بالتَّنسيق مع الجهات المعنيَّة؛ لِتُشكِّلَ جميعها مع منظومات الدَّولة المعنيَّة «هيئة الطيران المَدَني» والمركز الوطني للإنذار المبكِّر من المخاطر المُتعدِّدة، محطَّة تحوُّل في رسم ملامح العمل الوطني في إدارة الحالات الطَّارئة، حتَّى أصبحت نموذجًا إقليميًّا في التَّعامل مع الحالات الطَّارئة على مستوى المنطقة، واستطاعت أن تبنيَ هُوِيَّة وطنيَّة لَها ثوابتها وخصوصيَّتها في التَّعامل مع هذه الحالات مؤصِّلة لمبدأ الحكمة والتَّوازن والتَّعامل بروح المسؤوليَّة، ممارسة أصيلة، واستراتيجيَّة أداء متقَنة، تحظى بمستوى عالٍ من التَّنسيق والتَّكامليَّة والمنهجيَّة والمهنيَّة والرّيادة والتَّنظيم، وفق سيناريوهات عمل واضحة المعالَم، تتفرَّد بمزيدٍ من الكفاءات والصَّلاحيَّات، والتزام معايير الأداء النَّاجح في آليَّات العمل، وأنتجت ثقافة أصيلة، ووعيًا مُجتمعيًّا، وعُمقًا في رصد مداها، وتتبُّع مستوى تقدُّمها، وتراجع تصنيفاتها، أو تغيُّر مسارها، واكتسبت المعرفة الواعية والمنهجيَّة السليمة المعزّزة بمرونة البيانات وكفاءة المعلومات وجاهزيَّتها في مختلف المراحل.
لقَدْ كان وجود هذه التقسيمات الإداريَّة والتنظيميَّة بالدَّولة في إدارة منظومة الحالات الطَّارئة مطلب المرحلة، وخيارًا استراتيجيًّا في تحقيق الاستعداد التَّام والجاهزيَّة الميدانيَّة لمواجهة ما قَدْ تتعرض له البلاد من الكوارث العامَّة والحالات الطَّارئة الاستثنائيَّة، مستفيدةً من نُظُم المعلومات الذَّكيَّة لضمانِ تفعيل نُظم الاستجابة الميدانيَّة وتأطير فرص أكبر لتعظيم التَّكامليَّة في الأداء والاحترافيَّة في سرعة استيعاب الأحداث، ويضعنا جميعا أمام مرحلة مهمة من الوعي الوطني لإدارة هذا البُعد في استراتيجيَّات التَّنمية، وبالتَّالي الضَّمانات الَّتي يُمكِن أن تقدِّمَها اللجنة الوطنيَّة لإدارة الحالات الطَّارئة والأجهزة العاملة معها، في ظلِّ مستويات التَّمكين والصَّلاحيَّات والاستقلاليَّة الَّتي تعمل في ظلِّه، ووضوح منهجيَّات العمل، وقوَّة القرار ونافذيَّة التَّشريعات الَّتي تمارسها، وقدرتها على توفير البيانات السَّريعة القادرة على الإجابة عن تساؤلات المواطن والمُقِيم في التَّعامل مع الأحداث والحالات الطَّارئة والأزمات، وجاهزيَّتها في إيجاد بدائل وسيناريوهات عمل مستدامة، وفق دلائل ومؤشِّرات تعكس فاعَلَيْه أنظمة الرَّصد والقياس الَّتي تستخدمها في صياغة واقع جديد يتعايش معه المواطن والمُقِيم في امتصاص حجْم الأزمة أو معالجة أثرها على حياة المواطن والمُقِيم على هذه الأرض الطيِّبة.
لذلك انتهجت مسارات العمل أُطُرًا واضحة قائمة على توظيف القراءات العدديَّة في تحليل مدى تطوُّر الحالة وتأثيراتها المحتملة، وقياس مستوى الإجراءات الاستباقيَّة الَّتي تقوم بها مختلف القِطاعات، وانتشار النقاط المتقدِّمة لقِطاع البحث والإنقاذ، والتَّأكيد على الجاهزيَّة واستدامة الخدمات العامَّة، بالإضافة إلى تهيئة مراكز الإيواء، وضمان توفير المواد التموينيَّة والطبيَّة، وتوفير الدَّعم والإسناد العمليَّاتي لعمليَّات الاستجابة الميدانيَّة بالموارد والقدرات الضروريَّة في الأماكن المتوقَّع تأثُّرها بالحالة الطَّارئة، ثمَّ السيناريوهات المطروحة لِمَا بعد الحالة الطَّارئة؛ فإنَّ هذا الجهد المؤسَّسي مع الثقة في قدرته على إحداث التحوُّل وصناعة الفارق، وهو أمْرٌ كان له حضوره في ميدان التجربة، وأثبتت جهود اللجنة الوطنيَّة لإدارة الحالات الطَّارئة كفاءة في فاعليَّة الدَّوْر وجاهزيَّة الممارسة؛ غير أنَّ تكامل هذه الجهود بحاجة إلى دَوْر آخر يمارسه المواطن والمُقِيم، حيث يُشكِّل وعي المواطن والمُقِيم الحلقة الأقوى في تأصيل فِقْه التَّعامل مع الأنواء المناخيَّة وإدارة الحالات الطَّارئة، وتعظيم فرص الاستجابة السَّريعة والآمنة، وحماية الأرواح والممتلكات، للقناعة بأنَّ كفاءة هذه البنى التنظيميَّة والمؤسَّسيَّة والتشريعيَّة والهيكليَّة والأدوات والآليَّات والتَّجهيزات وتفعيل قِطاعات الاستجابة في اللجان الفرعيَّة لإدارة الحالات الطَّارئة بالمحافظات يرتبط بحجم ما يتحقَّق على أرض الواقع، من وعي في التَّعامل مع هذه الحالات، وتدارك الأبعاد النَّفْسيَّة واستنهاض الروح الاجتماعيَّة والتطوُّعيَّة نَحْوَها، وهي مرتكزات تأتي في إطار قدرة المُجتمع بمختلف طوائفه على الحفاظ على درجة التَّوازنات في حصوله على المعلومة واتِّباع التَّعليمات الرَّسميَّة أوَّلًا بأوَّل، ومتابعة النَّشرات والتَّعليمات والإنذارات الصَّادرة من الجهات المختصَّة، والحصول على المعلومات من مصادرها الصحيحة بعيدًا عن الإشاعة والتَّخويف ونشْرِ الذُّعر بَيْنَ السكَّان.
وعَلَيْه، فإنَّ وعي المواطن والمُقِيم بمتطلبات الأمن والسَّلامة في التَّعامل مع الحالة الطَّارئة، رهان قوَّة تمكِّن المواطن والمُقِيم من بناء أدوات وآليَّات التَّعامل مع المعطيات والتحدِّيات المرتبطة بالحالة الطَّارئة بكُلِّ مهنيَّة ومسؤوليَّة، الأمْرُ الَّذي يكُونُ لَهُ أثَره الإيجابي في استيعاب التَّداعيات النَّفْسيَّة والفكريَّة النَّاتجة عَنْها، واتِّخاذ خطوات استباقيَّة على المستوى الشَّخصي والأُسري والعائلي، في ظلِّ ثقافة واضحة يمارسها الفرد مع ذاته وأُسرته ومُجتمعه؛ فإنَّ وعي المواطن والمُقِيم بمسؤوليَّاتهم الأخلاقيَّة والوطنيَّة والإنسانيَّة في التَّعامل مع الحالات الطَّارئة واتِّباع التَّعليمات الصَّادرة من جهات الاختصاص يعكس مرحلة بناء شعور إيجابي يتجاوز خلاله المواطن نشْرَ الإشاعات وحالة الخوف والقلق والانفعال وسوء التصرُّف والعشوائيَّة، وتضخيم الحالة، وكثرة الأخذ والردّ والقيل والقال، وعِنْدما يتجاوز المُجتمع هذه الحالة ويقف على مسبِّباتها، فإنَّه يصل إلى مرحلة استحقاق تتأكَّد فيها امتلاكه لثقافة إدارة الحالات الطَّارئة كما تنمو لدَيْه ثقافة الوقاية من المخاطر كثقافة مستديمة، لا تنتهي بمجرَّد انتهاء الحالة الطَّارئة، بل تستمرُّ معه كسلوك يومي ومنهج حياة، تُعزِّز فِيهم روح الإصرار والبناء والعمل بروح الفريق الواحد، تستنطق فيهم قِيَم التَّعاون والتَّآلف كما هي مبادئ دِينهم وأخلاقهم وسِيرتهم في الأوَّلِين والآخرين، وهُوِيَّتهم الَّتي عرفهم العالَم بها، وسجيَّتهم الَّتي التصقت بهم، لِتكُونَ شواهد اإثبات على حجم التَّغيير النَّوْعي الَّذي صنعَتْه هذه الأزمات والأحداث في الإنسان العُماني.
أخيرًا.. تبقى صفريَّة الخسائر في الأرواح الَّتي كانت نتاج هذا التَّكامل في إدارة الحالات الطَّارئة، وتعظيم فرص الاستجابة الميدانيَّة الآمنة؛ مرحلة فارقةً في مَسيرة منظومة إدارة الحالات الطَّارئة، حقَّ لَها أن تُكتبَ تفاصيلها وتُسجّلَ مفاخرها ومواقفها بماء الذَّهب، شاهدة على كفاءة الأجهزة الأمنيَّة والعسكريَّة والمَدَنيَّة في تعظيم إدارة الطوارئ ومفاهيم الأمن والسَّلامة العامَّة. فلَقَدْ ضمن اختبار الأزمات للهُوِيَّة العُمانيَّة، والثَّوابت الوطنيَّة الَّتي جسَّدتها منظومة العمل الوطني في تعاطيها مع تداعيات هذه الحالات الطَّارئة على الوضع الاجتماعي والنَّفْسي للمواطنين، مرحلة متقدِّمة من الوعي الجمعي، وملحمة مُجتمعيَّة أتْقن سرْد حكايتها والتَّعبير عن مدلولاتها أبناء عُمان جميعهم، والَّتي استلهمت من مبادئ الدِّين الإسلامي العظيم وقِيَمه الرَّفيعة وغاياته السَّامية والسَّمْت العُماني وجوهر القِيَم والأخلاق العُمانيَّة طريقها لِترسمَ في حياة الأُمَّة العُمانيَّة نهضة التَّجديد والعطاء، مرحلة جديرة بتخليد مآثِرها العظيمة ـ دروس حياة ممتدَّة للأجيال القادمة، عنوانها «عُمان عظيمة بشعبها».
د.رجب بن علي العويسي