تُشير إحصائيَّات المركز الوطني للإحصاء والمعلومات الإصدار الثاني سبتمبر 2024م إلى أنَّ إجمالي الحوادث المروريَّة في عام 2024 بلغ (ألفي حادث مروري) مرتفعًا بنَحْو (9%) مقارنةً بالعام 2023. وأنَّ (12.2) حادث لكُلِّ (10,000) مَركبة معدَّل الحوادث المروريَّة فــــي عــــام 2024 مقـارنةً بنَحْوِ (11.7) حادث لكُلِّ (10,000) مَركبة فـي العــام 2023، وأنَّ (49%) من إجمالي الحوادث المروريَّة في عام 2024م، سببُها السُّرعة؛ ومن حيث التَّوزيع النِّسبي للحوادث حسب نَوع الحادث لعام 2024 هي كالآتي: تصادم بَيْنَ المَركبات (42%)، دهس (21%)، اصطدام بجسم ثابت (19%)، تدهور (18%)، كما تُشير الإحصائيَّات إلى ارتفاع عدد الوفيات والإصابات حيث بلغت (2700) ضحيَّة في عام 2024، موزَّعةً على (2,129) إصابات و(595) وفيات، مرتفعًا بنَحْوِ (4%) مقارنةً بالعام 2023، وبشكلٍ عامٍّ تُشير الإحصائيَّات إلى ارتفاع الحوادث المروريَّة في الخمس سنوات الأخيرة بعد الانخفاض الَّذي حصل لها في عام 2020، والَّتي بلغت (36.7%) حيث سجَّلتْ (1341) حادثًا مروريًّا، كما بلغ عدد الإصابات النَّاجمة عن الحوادث المروريَّة خلال عام 2020، (1365) حادثًا مروريًّا.
إنّ عودة الحوادث المروريَّة إلى الارتفاع بعد فترة تراجع وانخفاض امتدَّتْ لسنواتٍ عدَّة، تمَّ عَبْرَ الاستراتيجيَّة الوطنيَّة للسَّلامة على الطَّريق، تَبنِّي سياسات مروريَّة أكثر شموليَّة واتِّساعًا وعُمقًا واستدامة واحتواء، واتَّجهت فيها منظومة السَّلامة المروريَّة إلى التَّوسُّع في البرامج والإجراءات التَّوعويَّة والتَّثقيفيَّة، ومِنْها اعتماد الثَّامن عشر من أكتوبر يومًا للسَّلامة المرويَّة، ثمَّ مسابقة السَّلامة المروريَّة، وصدور قانون المرور وغيرها من الجهد المروري المتكامل، إلَّا أنَّ ما شهدته السَّنوات الأخيرة بعد عام 2020 من ارتفاع في الحوادث عامَّة والمميتة خاصَّة، باتَ يطرح على الجهات المعنيَّة بسلطنة عُمان، وعلى رأسها شُرطة عُمان السُّلطانيَّة، الكثير من التَّساؤلات والنِّقاشات المُعمَّقة حَوْلَ الأبعاد المرتبطة بهذه الحوادث والأسباب الَّتي تقِفُ خَلْفَها وما إذا كان نهج التَّوعية المروريَّة بحاجةٍ إلى أن يبدأ فصلًا جديدًا آخر بعد فترة من التَّراجع والانخفاض الَّتي شهدها عام 2020، إذا ما استمرَّ مسلسل الحوادث بهذا الحجم من الخطورة، بحيث تتَّخذ سلسلة من الإجراءات الضَّبطيَّة والتَّنفيذيَّة والتَّوعويَّة والتَّثقيفيَّة عَبْرَ إعادة إنتاج الخِطاب المروري ومفهوم السَّلامة على الطَّريق في ثقافة المواطن والمُقِيم من جديد، وتضع المعنيِّين في الشَّأن المروري أمام حالة من المراجعة وإعادة ضبط وتوجيه الاهتمام بالبوصلة المروريَّة وترتيب أولويَّاتها، وإحداث تغيير ملموس في سيناريوهات العمل بما يحافظ على المكاسب الوطنيَّة المُتحقِّقة في انخفاض الحوادث المروريَّة بسلطنة عُمان.
عَلَيْه، فإنَّ السيناريو الَّذي نعتقد بأهميَّة طرحه اليوم في ظلِّ معطيات الارتفاع في الحوادث المروريَّة يكمن في البحث عن توَجُّهات أكثر ارتباطًا بالإنسان وعُمقًا في دراسة الحالة الإنسانيَّة المروريَّة، وتشخيص الممارسة المروريَّة بحيث يستجيب مستخدم الطَّريق لها بطريقةٍ ذاتيَّة؛ باعتبارها الخيار الَّذي يُعزِّز فيه روح المسؤوليَّة المروريَّة ويضبط سلوكه بضابط أخلاقيَّات المرور، إعادة هندسة السُّلوك المروري عَبْرَ تمكين معادلة المعرفة والثَّقافة والوعي من التَّناغم في تشكيل شخصيَّة المواطنة المروريَّة، وذلك عَبْرَ تعزيز دَوْر المواطنة المروريَّة وتأصيلها في المُجتمع؛ باعتبارها مدخلًا استراتيجيًّا في قراءة الوضع المروري في سلطنة عُمان، وإعادة إنتاجه بطريقة أكثر ارتباطًا بالمسؤوليَّة الشَّخصيَّة والمُجتمعيَّة في تحقيق متطلَّبات السَّلامة على الطَّريق والحدِّ من مخاطرها الاقتصاديَّة والبَشَريَّة والاجتماعيَّة والإنسانيَّة والصحيَّة، فهي بذلك استشعار ذاتي مسؤول من قِبل مستخدم الطَّريق وقائد في تحقيق التزام ذاتي بقانون المرور واللَّوائح التنفيذيَّة، واستنطاق للقِيَم والمبادئ الدِّينيَّة واستحضار لقواعد السَّلامة على الطَّريق والتزامه معاييرها، وإدراكه لحقوقه فيها وواجباته نَحْوَها، لِتَحقيقِ مستويات عالية من الانضباطيَّة والالتزام والروح المعنويَّة، وتمثّلها في واقع ممارساته المروريَّة وطريقة استخدامه للطَّريق والمحافظة على أدواته ومُكوِّناته.
على أنَّ ما يُشير إِلَيْه تقرير مُنظَّمة الصحَّة العالَميَّة لعام 2023، بأنَّ الإصابات النَّاجمة عن حوادث المرور هي السَّبب الرَّئيس للوفاة بَيْنَ الأطفال والشَّباب الَّذين تتراوح أعمارهم بَيْنَ (5) سنوات و(29) سنَة. وأنَّ ثُلثَي حوادث المرور المُميتة بَيْنَ الأشخاص في سنِّ العمل (18ـ59 عامًا). يؤكِّد على أهميَّة تأصيل المواطنة المروريَّة منطلقًا لتعظيمِ إنسانيَّة المرور، وأنَّ المحافظة على المورد البَشَري والكفاءة العُمانيَّة واجب وطني ومسؤوليَّة شخصيَّة تتحقق بتَبنِّي الأسباب ووضع القوانين والاشتراطات الدَّاعمة لهذا النَّهج، وما تُشكِّله الحوادث المروريَّة اليوم من مقلقات للرَّأسمال الاجتماعي البَشَري ومُهدِّدات للأمن الاجتماعي واستنزاف لاقتصاديَّات وموارد الدَّولة، البَشَريَّة والماديَّة والماليَّة، حيث يُشيرُ تقرير منظِّمة الصحَّة العالَميَّة إلى أنَّ حوادث السَّير تستنزف سنويًّا أكثر من (3%) من ميزانيَّات الدوَل، بما يعنيه ذلك من أهميَّة أن يرافقَ برامج المواطنة المروريَّة تَبنِّي سياسات وطنيَّة أكثر ابتكاريَّة واستدامة وتشاركيَّة ترتكز على أربعة موَجِّهات أساسيَّة هي: الحقوق والواجبات، وقواعد وأخلاقيَّات وقِيَم المرور، والمسؤوليَّة الاجتماعيَّة والشَّراكة المُجتمعيَّة المروريَّة، والتَّشريعات والقوانين وأنظمة العمل المروريَّة، بحيث يؤدِّي استحضارها في المنظومات الوطنيَّة الشُّرطيَّة والأمنيَّة والتَّعليميَّة والاقتصاديَّة والاجتماعيَّة والتَّشريعيَّة إلى رفع درجة الأثَر النَّاتج عَنْها.
إنَّ المواطنة المروريَّة بذلك، محصّلة لتكاتف الجهود وتفاعل الأُطُر وتقاسم المسؤوليَّات وتقاطُع المهام، ونتيجة عمليَّة شاملة لهذا التَّناغم والتَّكامل والتَّفاعل بَيْنَ المسارات التَّنظيميَّة والبنى التَّشريعيَّة والمؤسَّسيَّة والبرامج والمبادرات والتَّوعويَّة والتَّثقيفيَّة، وحضور فاعل لكُلِّ أطياف المُجتمع ومؤسَّسات المُجتمع الأهلي في بناء قواعد السُّلوك المهني والأخلاقي الَّتي تنعكس على شخصيَّة الفرد المستخدم واتِّزانه الفكري والانفعالي وحسّ المسؤوليَّة والذَّوق الَّذي يطبعه على ممارساته المروريَّة وفي كُلِّ المواقف المرتبطة باستخدام الطَّريق، ونقل الشُّعور المروري من حالة الأنانيَّة والفردانيَّة إلى استشعار مسؤوليَّته الاجتماعيَّة في استخدام الطَّريق والالتزام بقواعد السَّير وأنظمته، لِتجسِّدَ المواطنة المروريَّة هذه المعايير والاستحقاقات في جملة المبادئ والأخلاقيَّات والقِيَم والموَجِّهات والأُطر المروريَّة الَّتي يتميَّز فيها وينافس في التزامه بها، فتظهر على شخصيَّته في هدوئه والتزامه وحُبِّه للنِّظام وتعاطيه الواعي مع التَّعليمات والتَّوجيهات، واتِّزانه الفكري والانفعالي والعاطفي وحسِّ المسؤوليَّة والذَّوق الَّذي يطبعه على ممارساته المروريَّة؛ فإنَّ جملة الشّعارات التَّطبيقيَّة الَّتي أطلقتها شُرطة عُمان السُّلطانيَّة في فترات مختلفة مِثل: التزامكم نجاح، وكُلُّنا شُرطة وشكرا على تقيُّدكم بالسُّرعة، ولا تتَّصل حتَّى تصل، تأتي متناغمةً مع هدف المواطنة المروريَّة، باعثةً للأمل، راسمةً لروح التَّجديد، مُعبِّرةً عمَّا يحمله سائق المَركبة من إلهامٍ وقِيَم ومبادئ وأخلاقيَّات وفرص، عَلَيْه أن يستثمرَها لصالح تقوية المواطنة المروريَّة المسؤولة.
أخيرًا، رغم أنَّ المواطنة المروريَّة الحلّ العملي المناسب لمعالجة ارتفاع الحوادث المروريَّة، إلَّا أنَّها ليسَتِ العصا السحريَّة، فهي في كونها إطار عمل وطني شاملًا يتَّسع لمختلف المفاهيم والظُّروف والمعطيات الَّتي تُشكِّل الواقع المروري: هواجسه وطموحاته، وظروفه ومتغيِّراته ومواقفه وأحداثه، واستراتيجيَّاته وخططه؛ باعتبارها مسؤوليَّة وطنيَّة تتطلب تضافر الجهود الوطنيَّة ممثَّلة في المُواطنِين والمُقيمِين ومؤسَّسات المُجتمع الأهلي وغيرها، بحيث تصبح نهجًا وطنيًّا معزَّزًا بالتَّشريعات واللَّوائح، وسُلوكًا يتمُّ غرسُه في سُلوك وقناعة الطُّفولة منذُ نعومة أظافرهم؛ فإنَّ استمرارَ حالةِ التَّراخي وضعف الالتزام وعدم الجديَّة في تحقيق الواجبات، سوف ينعكس سلبًا على الوصول إلى استحقاقات الأمان والاطمئنان وانسيابيَّة الطَّريق، وعدم حصول تجاوزات تضع مستخدم الطَّريق في قفص الاتِّهام والمساءلة من قِبل رِجال المرور، وتبقى إيجابيَّة الصُّورة الذِّهنيَّة الَّتي يسقطها مستخدم الطَّريق في استحضاره للحقوق والممكنات، والواجبات والمسؤوليَّات الَّتي تؤصِّل فيه قِيمة الالتزام ويستشعر خلالها حجم الجهود المبذولة من قِبل جهات الاختصاص، مرحلة تحوُّل شامل ينتقل فيها من حالة انتظار التَّعليمات والرَّقابة الشُّرطيَّة إلى امتلاكه زمام المبادرة ووقوفه على موضع الخلل بذاته، فهو عَيْن على ذاته، رقيب على ممارساته، يصحِّح مسارات الانحراف والخَلَل لممارسة مروريَّة مُجيدة واستخدام آمِن للطَّريق.
د.رجب بن علي العويسي