في يوم واحد تناقضت الصور والرسائل والرموز ، وأخذ الصراع المحتدم على مستقبل القضية الفلسطينية حده الأقصى سياسياً وإنسانياً ووجودياً .
في مشاهد زحف مئات الآلاف من النازحين الفلسطينيين ، وهي تعود من جنوب غزة سيرا على الأقدام إلى أطلال بيوتها المهدمة بالشمال ، تلخصت التراجيديا الفلسطينية كلها من نكبة (1948) إلى حرب الإبادة لخمسة عشر شهراً متصلة .
تبدى الفشل ذريعاً لـ”خطة الجنرالات” ، التي استهدفت إخلاء الشمال من سكانه وتقسيم القطاع وفرض الحكم العسكري عليه .
وأكدت خبرة التاريخ الفلسطيني المرير دروسها ، التي استقرت في وجدان شعبها :
“لن نغادر أرضنا وسوف نعيش ونموت فوقها ”.
(80%) من سكان غزة ، نزحوا إليها أثناء حرب النكبة (1948)، وهم على غير استعداد ، أن يكرروا نزوحاً آخر خارجها بلا عودة !
بالتوقيت نفسه ، انطوت التصريحات ، التي أطلقها الرئيس الأمريكي “دونالد ترامب” عن “ تطهير غزة ” من الفلسطينيين ، بذريعة أنها لم تعد تصلح للحياة ، على نوع من الاستطراد بوسائل الضغط السياسي لحرب الإبادة والتجويع .
لم يُطرح مقترح تطهير غزة من الفلسطينيين فجأة ، ولا ورد على بال “ ترامب ” عفو الخاطر .
قبل أن يصعد إلى البيت الأبيض ، أخذ وقته مع فريقه الأكثر صهيونية قياساً على أية إدارة سابقة ، في بحث واستقصاء البدائل المتاحة لتهجير أهل غزة .
شمل البحث والاستقصاء دولاً ، مثل إندونيسيا كدولة محتملة لإيواء الفلسطينيين “ أثناء إعادة بناء قطاع غزة ” !
قيل على سبيل التدليس ، إنه إجراء مؤقت لتسويغه وتمريره ، دون أن تكون هناك أدنى نية لإعادتهم مرة أخرى إلى وطنهم .
أجرى فريق “ ترامب” اتصالا آخر مع ألبانيا ، لاستقبال ما يصل إلى مائة ألف فلسطيني ، تسرب الخبر ، فاضطر رئيس وزرائها ، أن ينفي القصة برمتها :
“لم يتصل بنا أحد ، ولا يمكن أن نفعل ذلك ”.
لم تكن هناك دولة واحدة في العالم مستعدة ، أن تتحمل عواقب التورط في جريمة حرب متكاملة الأركان .
هكذا جرت العودة إلى التوجه الأصلي ، مصر والأردن ، استثماراً استراتيجياً في أوضاعهما الاقتصادية الحرجة .
بكلام صريح وواضح أشار “ ترامب” إلى الرئيس المصري
قائلا : “ نحن نساعدهم كثيراً ، وأنا متأكد ، أنه يستطيع مساعدتنا ”.
الاقتصاد المصري الصعب والمتدهور ، لا يتحمل أية ضغوط إضافية عليه ، واعتبارات الأمن القومي تستدعي الرفض بحسم ، وإلا تقوضت شرعية النظام كله .
إنها معضلة حقيقية ، تتحمل مسئوليتها الأولى السياسات المتبعة منذ توقيع معاهدة السلام المصرية الإسرائيلية عام (1979)، حيث بدأت تتآكل مقومات استقلال القرار الوطني ، حتى وصلت إلى حد تصور “ ترامب” ، أن ما يقترحه أوامر تطاع وقدراً مكتوباً !
بشخصية “المطور العقاري” تبدت أمامه فرص استثمارية في غزة ، ببحرها الساحر وشواطئه الممتدة وطقسها المعتدل ، كما قال حرفياً .
لم ير شعبها المعذب ولا أعار حقه في تقرير مصيره بنفسه أي اهتمام وتعاطف .
“ إنها خطة غير عملية ”.
كان ذلك توصيفاً ، أطلقه حليفه السيناتور الجمهوري المتشدد “ ليندسي جراهام”، مدركاً أنها لن تمر .
“ إنها جريمة حرب ”.
هكذا وصفها معارضه السيناتور الديمقراطي اليساري “ بيرني ساندرز ” .
هو رئيس يفتقر بفداحة إلى أي تصور لليوم التالي ، يستجيب لأكثر الرؤى الصهيونية تطرفاً ؟ ، دون إدراك مدى خطورتها على المصالح الاستراتيجية الأمريكية والإضرار الفادح بنظامين عربيين حليفين !
مقترح التهجير القسري ، أو الطوعي ، من طبيعة نشأة الدولة العبرية ، التي أعرب مؤسسها “ ديفيد بن جوريون” عن ندمه لعدم إخلاء القطاع من سكانه العرب في أجواء نكبة (1948) .
كانت تلك شهادة لافتة لعالم اللغويات الأمريكي اليساري اليهودي “ نعوم تشومسكي ” ، مستنداً إلى أرشيف مجلس الوزراء الإسرائيلي في ذلك الوقت .
بتعبير وزير المالية المتطرف “بتسلئيل سيموتريش”،
فإن مقترح “ ترامب” تفكير “ خارج الصندوق ” لحل أزمة غزة المستحكمة .
مقترح “ ترامب” هو نفسه ، بذرائعه وأهدافه وصياغته ، نفس “ الحل الإنساني” الذي يدعو إليه غلاة اليمين الصهيوني ، تطهير غزة من أهلها !
حسب منطقه ، فإن حرب الإبادة في قطاع غزة ، التي أيدها وتعهد في قراراته الأولى بحماية إسرائيل من أية قرارات ، تصدر بإدانتها من محكمتي “ العدل الدولية” و” الجنائية الدولية” ، أصبحت غير صالحة للحياة وأن نقل سكانها إلى أماكن أخرى ، أكثر أمناً وأقل خطراً هو عمل إنساني !
الوجه الآخر للتهجير القسري ، أو الطوعي ، هو حرب الإبادة والتطهير العرقي .
إنه مشروع واحد ، يستهدف هوية غزة ومستقبلها والقضية الفلسطينية كلها .
إذا ما نجح التهجير من غزة ، فإن تهجيراً آخر سوف يلحقه من الضفة الغربية إلى الأردن .
بتعبير لـ” نتنياهو” واضح وصريح وسط القصف المتواصل للبشر والحجر : “ مشكلتنا هي الدول التي ترغب في استيعابهم ، ونحن نعمل على هذا الأمر ”.
“ تلقيت اتصالات من دول في أمريكا اللاتينية وإفريقيا باستعدادها لاستيعاب اللاجئين من قطاع غزة ، وهذا سيسهل الأمر على من يبقون فيه ، فضلاً عن جهود إعادة بنائه ”.
هكذا زعم “داني دانون” مندوب إسرائيل السابق في الأمم المتحدة وعضو الكنيست .
ثم وصلت حمى التهجير القسري ، أو الطوعي ، ذروتها ، بما أذاعته القناة (12) الإسرائيلية من تكليف رئيس الوزراء البريطاني الأسبق “ توني بلير” بمتابعة ملف الهجرة الطوعية مع دول أخرى في العالم ، بعد محادثات أجريت في تل أبيب مع “ نتنياهو” وعضو مجلس الحرب وقتها “ بيني جانتس ”.
فور إذاعة الخبر تلقى “بلير” سيلاً من الانتقادات والإهانات من كافة أرجاء العالم ، مذكرة بسجله المخزي في الحرب على العراق .
تحت الضغط اضطر إلى نفي ذلك الخبر : “ لم يجر حديث من هذا القبيل.. الفكرة خاطئة من حيث المبدأ.. إنها جريمة حرب.. يجب أن يكون سكان غزة قادرين على الحياة والعيش ”.
في بداية الحرب على غزة ، لم يمانع وزير الخارجية الأمريكي السابق “ أنتوني بلينكن” في مشروع التهجير القسري ، لكنه عندما بدا أن الولايات المتحدة قد تدخل في أزمة كبرى مع حليفتيها الإقليميتين مصر والأردن ، تراجعت إلى الخلف قبل أن تناهض المشروع علنا ، عندما بدا أن عياره أفلت .
كل ذلك حدث قبل صعود “ ترامب” بزوابعه إلى البيت الأبيض .
باليقين ، فإن هناك عاملين رئيسيين أجهضا الموجة الأولى من مشروع التهجير القسري ، أولهما ، الموقف المصري الصارم مدعوما أردنياً وفلسطينياً ؛ خشية تهجير مماثل من الضفة الغربية إلى الضفة الأخرى وطناً بديلاً وتقويض القضية كلها .
الحاجة أكبر الآن لمواجهة الضغوط الأمريكية المحتملة على أعصاب النظام المصري .
هذه مسألة تستدعي توافقاً وطنياً حقيقياً وانفراجاً سياسياً جدياً في ملف الحريات العامة وحقوق الإنسان ومراجعة جادة لطبيعة الأزمة الاقتصادية وأسباب تفاقمها .
وثانيهما ، تعثر العمليات العسكرية الإسرائيلية في الحرب البرية بفضل المقاومة الفلسطينية والصمود الأسطوري لأهل غزة ، الذين لم يرفعوا راية واحدة بيضاء .
بتعبير الأستاذ “ محمد حسنين هيكل ” : “إسرائيل تستهدف مصر دائماً ، بمناسبة أو بغير مناسبة ، لأنها الدولة الوحيدة التي إذا نهضت ، فإن معادلات المنطقة كلها تتغير ”.
من زاوية الأمن القومي المصري ، فإن حرب الإبادة استهدفت إخلاء غزة من سكانها الفلسطينيين والعودة إلى المستوطنات اليهودية التي أخليت عام (2005)، وتمكين الدولة العبرية من السيطرة على حقول الغاز الواعدة وبناء قناة جديدة ، تحمل اسم مؤسسها “ بن جوريون” لمنافسة قناة السويس .
استهداف سيناء وقناة السويس جوهر الصراع على مصر .
هذه حقيقة جيو استراتيجية .
كان بيان الخارجية المصرية ، بصياغته المتقنة ورسالته الواضحة ، خطوة صحيحة ، لكنها لا تكفي وحدها لبناء موقف مصري متماسك وقادر على المواجهة .
رفض المساس بالحقوق الفلسطينية بالاستيطان أو بضم الأراضي بعد إخلائها من سكانها ركيزة موقف ، لكنها تفتقد القدرة على التأثير في مجريات الحوادث ، إذا لم تصحبها حركة دبلوماسية مستعدة ، أن تتحمل مسئولية التحدي ، أيا كانت عواقبه .
بتعبير الأكاديمية الفلسطينية “ حنان عشراوي” ، فإن مقترح “ ترامب ” : “ وصفة حرب ”.
هذا توقع في محله ، إذا لم نجهض ما يدعو إليه في مهده .
عبد الله السناوي
المصدر : مصر 360