فاجأ الرئيس الأمريكى دونالد ترامب العالم بطرح «أجندة إمبريالية» بعد أن انقضى العهد الإمبريالى بانكسار وهزيمة موجات الاستعمار الغربية على النصف الجنوبى من العالم بفضل ثورات التحرر التى تفجرت فى دول إفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية ضد الاستعمار الغربى . كانت آخر هذه الهزائم فى دولة جنوب إفريقيا بالقضاء على الاستعمار الاستيطانى فى تلك الدولة الإفريقية التى أضحت واحدة من أهم قلاع مناهضة العنصرية فى العالم. أجندة دونالد ترامب التى فاجأت العالم جاءت «كاسحة» لا تميز بين نصف العالم الجنوبى الفقير أو نصفه الشمالى الغنى، لأن مرجعيتها الأساسية هى دعوة ترامب وشعاره الانتخابى الذى جاء يحكم به الولايات المتحدة «جعل أمريكا عظيمة مرة أخرى» ورفعه شعار «أمريكا أولاً» بما يعنيه من انحياز مطلق للولايات المتحدة على كل ما عداها من دول العالم سواء كانوا من الأعداء أم من الحلفاء، من الشمال أو من الجنوب .
ففى تماثل مع «عقيدة التوسع التى سادت القرن التاسع عشر طرح ترامب «أجندة إمبريالية» قوامها الاستيلاء على «قناة بنما» التابعة لجمهورية بنما فى أمريكا الوسطى وهى القناة التى تربط المحيط الأطلسى بالمحيط الهادى، والاستيلاء على جزيرة «جرينلاند» التابعة لمملكة الدنمارك فى الشمال بالقرب من المحيط المتجمد الشمالى والمحيط الأطلسى، شرق أرخبيل القطب الشمالى الكندى، وأقرب دولتين من هذه الجزيرة هما كندا وأيسلندا.
إن دوافعه للاستيلاء على جزيرة جرينلاند تأتى ضمن المراهنة على ذوبان فى المحيط المتجمد الشمالى واحتمالات انفتاح ممرات بحرية ملاحية جديدة فى هذه المنطقة، والحيلولة دون وصول روسيا والصين إلى هذه الممرات المحتملة، فضلاً عن ثرواتها المعدنية الهائلة لذلك يعتقد ترامب أن الاستيلاء والسيطرة على المنطقة القطبية الشمالية يشكل «ضرورة مطلقة» للولايات المتحدة، وذهب إلى القول إنه «لن يستبعد استخدام القوة العسكرية لتحقيق هذا الهدف».
ترامب لم يكتف بذلك بل سارع إلى تغيير اسم «خليج المكسيك» إلى «الخليج الأمريكي»، هكذا منفرداً ودون اعتبار لأى قوانين، لكن الأخطر أنه انقلب على «الحليف الكندي» وطالب بضم كندا إلى الولايات المتحدة لتصبح الولاية الحادية والخمسين. وإذا كان البعض اعتقد، للوهلة الأولى، أن كلام ترامب عن ضم كندا هو مجرد نوع من الترهيب هدفه اقتصادى فقط فإن جاستنترودو رئيس الوزراء الكندى (المستقيل) أكد أن مقترح ترامب لجعل بلاده الولاية الأمريكية الحادية والخمسين يمثل تهديداً يجب أن يؤخذ على محمل الجد، وقال فى مؤتمر اقتصادى فى تورنتو: «يريد (ترامب) ضم بلدنا، وهذا واقع (…)، إدارة ترامب تعرف مقدار المعادن المهمة التى نمتلكها ، لا بل هذا هو سبب استمراره فى الحديث عن ضمنا.. إنهم يدركون تماماً حجم مواردنا (الطبيعية) وما لدينا، ويريدون حقاً أن يتمكنوا من الاستفادة منها».
هذا التوجه الإمبريالى الأمريكى الجديد وصل إلى ذروته فى تحول موقف ترامب من المطالبة بـ «تطهير» قطاع غزة وترحيل السكان إلى مصر والأردن، بكل ما يعنيه من تبنٍ فاضح للأيديولوجية الصهيونية التوراتية المتطرفة واستعلائها على كل من هم ليسوا يهوداً وبالذات العرب، إلى المطالبة بالاستيلاء على غزة وتحويلها إلى «ريفيرا الشرق الأوسط». فبعد أن دعا إلى إعادة توطين (التهجير القسرى) فلسطينيى غزة فى دول مجاورة خاصة مصر والأردن فى خطوة تتماشى مع رغبات اليمين المتطرف فى كيان الاحتلال الإسرائيلى، الأمر الذى اعتبره البعض استباقاً أمريكياً للأحداث بالنسبة لمضمون المرحلة الثالثة من اتفاق وقف القتال وتبادل الأسرى بين كيان الاحتلال وحركة «حماس» التى تتحدث عن إعادة إعمار غزة، وقال البعض إن هذه الدعوة هى رؤية أمريكية لما يسمونه «اليوم التالي» لإنهاء الحرب فى غزة، بأن يكون الحل هو طرد الشعب الفلسطينى من القطاع إلى الخارج وإعادة توطينه فى دول أخرى ضمن سباق التخلص نهائياً من وجود ما يسمى «القضية الفلسطينية» أو «الحقوق الفلسطينية» وفرض السيطرة الإسرائيلية على القطاع كخطوة أولى ضمن أطماع ضمه إلى ما يسمونه «أرض إسرائيل»، لكن دعوة ترامب، عقب لقائه فى واشنطن مع بنيامين نيتانياهو رئيس حكومة كيان الاحتلال (الأربعاء 5 فبراير الحالى) كشف ما هو أخطر، وهو أن ترامب لا يدعم بالمطلق دعوة الصهيونية بالقضاء نهائياً على الشعب الفلسطينى.
هناك اجتهادات أخرى حريصة على نفى الصفة «الإمبريالية» عن الولايات المتحدة فى عهد هذا الرئيس، منها من يعتبرها محاولة لتفريغ القضية الفلسطينية من مضمونها وترويض العقل العربى على سهولة تقديم التنازلات، على نحو ما يقال إنه إذا كان ترامب يطرح هذا المخطط الإمبريالى فإنه يريد العقل العربى على تقبل تصفية القضية الفلسطينية ، والانتهاء نهائياً من المطالبة بدولة فلسطينية، والقبول بخروج حركة «حماس» من قطاع غزة بدلاً من الاضطرار إلى خروج شعب غزة كله، أى أن الهدف هو إعداد العقل العربى، والفلسطينى خاصة، لقبول مقترحات أمريكية – إسرائيلية تتعلق بمستقبل غزة ومعالم اليوم التالى لوقف الحرب.
هناك من يرى أن دعوة ترامب هذه ما هى إلا محاولات لإشغال الرأى العام الأمريكى فى الداخل بما يقوم به ترامب وحليفه «إيلون ماسك» من تدمير لمؤسسات الدولة الأمريكية .
أما نحن ، العرب، فعلينا أن نرى الأمور كما هى وهى أنها مسعى أمريكى لاختطاف قطاع غزة وضرب عصفورين بحجر واحد: طرد الشعب الفلسطينى للخارج وتهيئة كل الظروف لتوسيع الاستيطان وتفريغ القطاع ومن بعده الضفة الغربية من الشعب الفلسطينى، أما العصفور الثانى فهو اختطاف غزة وتحويلها إلى «مقاطعة أمريكية» وإنهاء أى طموح عربى بدولة فلسطينية.
والحل:
الحل هو «لا» عربية صريحة لتصفية القضية الفلسطينية ومقترحات ترامب ونيتانياهو وتأسيس حاضنة عربية لدعم الصمود الفلسطينى.
د. محمد السعيد إدريس