منذ عقود، شكل الجنوب اللبناني نقطة صراع مستمر بين المقاومة اللبنانية والاحتلال الصهيوني، حيث لم تقتصر المواجهات على العمليات العسكرية المباشرة، بل امتدت إلى أبعاد سياسية ودبلوماسية إقليمية ودولية. ومع استمرار الانتهاكات الصهيونية للسيادة اللبنانية، ورفض الاحتلال الانسحاب الكامل من بعض المناطق الاستراتيجية، تتزايد التساؤلات حول الأهداف الحقيقية للكيان الصهيوني من إبقاء وجوده العسكري في خمسة مواقع لبنانية، رغم الاتفاقات الدولية التي تلزمه بالانسحاب الكامل.
وبعد أكثر من عام من القصف المتبادل بين الكيان الصهيوني ولبنان، دخل وقف إطلاق النار حيز التنفيذ في 24 نوفمبر 2024، مانحًا الاحتلال مهلة 60 يومًا لسحب قواته من جنوب لبنان. ورغم أن الاتفاق نص على انسحاب تدريجي يتزامن مع انتشار الجيش اللبناني في المناطق المحررة، إلا أن العراقيل التي يضعها الاحتلال تثير الشكوك حول مدى التزامه بالاتفاق، خاصة مع وضعه شروطًا صارمة مثل نزع سلاح حزب الله كشرط أساسي لتنفيذ الانسحاب.
وفي ظل هذه الظروف، يجد لبنان نفسه أمام تحدٍ مزدوج: فمن جهة، يتوجب عليه التعامل مع المناورات السياسية والدبلوماسية للكيان الصهيوني الذي يسعى لكسب مزيد من الوقت وإبقاء نفوذه العسكري في مناطق محددة. ومن جهة أخرى، فإن المقاومة اللبنانية التي ترى في أي بقاء عسكري للاحتلال تهديدًا مباشرًا لسيادة البلاد، ترفض أي تسوية من شأنها الإضرار بمصالح لبنان الاستراتيجية.
هذا المشهد المعقد جعل المفاوضات بين الأطراف المعنية، بما في ذلك لبنان، الولايات المتحدة، فرنسا، وقوات حفظ السلام (اليونيفيل)، تدور في دائرة من الترقب والحذر، خاصة بعد إعلان الاحتلال عن نيته إبقاء قواته في مواقع استراتيجية مثل جبل بلاط واللبونة والعزية والعويضة والخماميس، وهو ما يثير تساؤلات جدية حول نواياه الفعلية وما إذا كان يسعى لترسيخ احتلال دائم لهذه المناطق.
إن القضية اليوم تتجاوز مجرد بقاء قوات الاحتلال في هذه المواقع، بل تعكس أبعادًا أوسع ترتبط بمستقبل التوازنات العسكرية والسياسية في المنطقة، وتطرح تساؤلات حول مدى قدرة لبنان على فرض سيادته الكاملة في ظل الضغوط الدولية والإقليمية، ومدى استعداد الاحتلال للالتزام بتعهداته دون فرض شروط تعجيزية.
وقد يؤجل الكيان الصهيوني انسحاب قواته من لبنان إذا فشلت بيروت في الوفاء بالتزاماتها بموجب الاتفاق، وفق زعمه، لأن اتفاق وقف إطلاق النار ينص على انسحاب الجيش الصهيوني فقط بشرط ألا يشكل حزب الله تهديدًا للمستوطنين الصهاينة. هذا التأجيل المحتمل للانسحاب يطرح العديد من التساؤلات حول النوايا الصهيونية في جنوب لبنان والأهداف الاستراتيجية التي يسعى لتحقيقها من خلال بقائه في هذه المواقع.
السياق التاريخي والتطورات الأخيرة
في 24 نوفمبر 2024، وبعد أكثر من عام من القصف المتبادل بين الكيان الصهيوني ولبنان، دخل وقف إطلاق النار حيز التنفيذ، حيث أعطي الكيان الصهيوني مهلة 60 يومًا لسحب قواته من جنوب لبنان. وجاء هذا الاتفاق بعد تصاعد التوترات في المنطقة، حيث استمرت الاعتداءات الصهيونية على الأراضي اللبنانية، وردت المقاومة اللبنانية بقصف المستوطنات في شمال فلسطين المحتلة.
وفي 27 يناير، أصبح معلومًا أن الجانب اللبناني وافق على تمديد وقف إطلاق النار حتى 18 فبراير/شباط، وبموجب الاتفاقات، فإن انسحاب القوات الصهيونية يجب أن يتم على مراحل، وبالتزامن مع انتشار الجيش اللبناني في المناطق الجنوبية، لكن هذه العملية تعتمد على تحقيق عدد من الشروط، أهمها نزع سلاح حزب الله. وهنا يكمن التحدي الرئيسي، حيث ترى المقاومة اللبنانية أن سلاحها هو الضمانة الحقيقية لحماية لبنان من الاعتداءات الصهيونية، بينما ترى تل أبيب أن بقاء حزب الله مسلحًا يشكل تهديدًا لأمنها القومي.
شروط الانسحاب والتحديات الميدانية
يتضمن اتفاق وقف إطلاق النار شروطًا واضحة، حيث لا تغادر قوات الاحتلال المناطق المحتلة إلا عندما يسيطر الجيش اللبناني على هذه الأراضي ويضبطها بشكل كامل. فالكيان الصهيوني يدعي أن لبنان كدولة ذات سيادة يجب أن يضمن عدم تمكن حزب الله من استخدام هذه المواقع مجددًا لمهاجمة المدنيين الصهاينة، لكن تنفيذ هذه الشروط لم يتم بنسبة 100% بعد، مما يمنح تل أبيب المبرر لعدم استكمال انسحابها.
كما أن تمديد وجود الجيش الصهيوني في لبنان حتى 18 فبراير/شباط تم الاتفاق عليه مع الجانب اللبناني، ويرجع ذلك إلى الوضع الحالي في المنطقة. إلا أنه إذا لم تتحقق الشروط التي يطالب بها الكيان الصهيوني، فقد يتم تأجيل الانسحاب لبعض الوقت. لكن التحدي الأبرز في هذا السياق هو أن الجيش اللبناني لا يستطيع دخول هذه المناطق إلا بعد انسحاب قوات الاحتلال منها، مما يخلق حالة من الجمود الميداني، حيث يظل الاحتلال يبرر وجوده بعدم جاهزية القوات اللبنانية للانتشار.
الأهداف الصهيونية من البقاء في جنوب لبنان
تحتل قوات الاحتلال الصهيوني حاليًا مناطق مهيمنة وتسيطر على محاور التقدم باتجاه أراضي فلسطين المحتلة في القطاعات الغربية والوسطى والشرقية. ويبدو أن الهدف الرئيسي من البقاء في هذه المواقع لا يقتصر فقط على مسألة الأمن، بل يتجاوز ذلك إلى أبعاد جيوسياسية واقتصادية.
ففي 13 فبراير، عقد لقاء بين رئيس مجلس النواب اللبناني نبيه بري، الذي يعترف به حزب الله كمفاوض رئيسي مع دول أخرى، واللواء الأميركي جاسبر جيفرز، الذي يشرف على لجنة مراقبة وقف إطلاق النار على الحدود اللبنانية “الإسرائيلية”. وقد أعلن جيفرز نية الكيان الصهيوني تأجيل انسحاب قواته من جنوب البلاد، وإبقاء قوات جيش الدفاع الصهيوني في خمسة مواقع استراتيجية: مرتفعات جبل بلاط، اللبونة، العزيه، العويضة، والخماميس. وهذه المواقع تمنح الاحتلال قدرة على مراقبة التحركات العسكرية لحزب الله، بالإضافة إلى السيطرة على ممرات استراتيجية قد تستخدمها المقاومة في أي صراع مستقبلي.
وتتولى اللجنة الخماسية، التي تضم الولايات المتحدة وفرنسا ولبنان و”إسرائيل” وقوات حفظ السلام (اليونيفيل)، مهمة مراقبة تنفيذ اتفاقات وقف إطلاق النار، وتترأسها الولايات المتحدة الأميركية. غير أن هذه اللجنة تواجه تحديات كبيرة، حيث تتضارب المصالح بين أعضائها، مما يجعل من الصعب تنفيذ القرارات بفعالية.
الموقف اللبناني وردود الفعل الدولية
يواصل لبنان اتصالاته الدبلوماسية لضمان انسحاب الكيان الصهيوني من الأراضي اللبنانية في 18 شباط/فبراير كما هو متفق عليه. وقال رئيس الجمهورية جوزف عون: “نحن نتفاوض مع عواصم أساسية، بما في ذلك واشنطن وباريس، للوصول إلى حل مقبول”. إلا أن الموقف الصهيوني المتصلب يشكل عائقًا كبيرًا أمام تحقيق هذا الهدف.
في الوقت نفسه، أبلغت الحكومة اللبنانية رسميًا الولايات المتحدة وفرنسا بعدم موافقتها على تمديد الموعد النهائي لانسحاب القوات الصهيونية، إذ تخشى بيروت أن يصبح هذا الأمر مشكلة دائمة للقيادة الجديدة في البلاد. كما من المتوقع عقد اجتماع طارئ لمجلس الوزراء خلال الأيام المقبلة لبحث الوضع الحالي، في ظل تزايد المخاوف من أن يؤدي التعنت الصهيوني إلى تصعيد جديد قد يصعب التكهن بعواقبه.
وبعد أكثر من ثلاثة أسابيع من المفاوضات المتوترة بين الأحزاب السياسية المتنافسة في لبنان، تم تحقيق تقدم في تشكيل الحكومة، حيث تم التوصل إلى تسوية سمحت لحركة أمل، حليفة حزب الله، باختيار أربعة وزراء، بينهم وزير المالية ياسين جابر. وأثارت هذه الخطوة اهتمامًا كبيرًا، خاصة في ضوء التحذيرات التي أطلقتها الولايات المتحدة من أن حزب الله لا ينبغي أن يشارك في الحكم.
مخاوف من تصعيد جديد
إن ما يجري في لبنان هو نتيجة العدوان الصهيوني ومحاولته إبقاء بعض النقاط في جنوب البلاد تحت احتلاله، وهو ما يرفضه الشعب والمقاومة. وطالما استمرت الانتهاكات الصهيونية المنهجية، يبدو أن المقاومة ستستمر في تصديها لهذا الاحتلال. فالتأخير في الانسحاب من شأنه أن يوفر “مبررًا رئيسيًا” لحزب الله ومجموعات المقاومة الأخرى للاحتفاظ بأسلحتها، خاصة إذا لم يضمن الجيش اللبناني انسحاب الجيش الصهيوني بشكل كامل. كما أن صدامًا جديدًا بين الجانبين في هذه الحالة قد يصبح محتملاً جدًا.
في المحصلة، فإن التعقيدات السياسية والعسكرية التي تحيط بملف انسحاب الكيان الصهيوني من جنوب لبنان تعكس حجم المصالح الإقليمية والدولية المتشابكة في هذه المنطقة. فلبنان يجد نفسه في موقف صعب بين الضغوط الدولية والداخلية، بينما يحاول الاحتلال فرض وقائع جديدة على الأرض تمنحه سيطرة استراتيجية على الحدود اللبنانية، وهو ما قد يؤدي إلى جولة جديدة من الصراع في حال استمرار المماطلة الصهيونية في تنفيذ بنود الاتفاق.
مع استمرار التعنت الصهيوني ورفضه الانسحاب الكامل من الأراضي اللبنانية وفق الجدول الزمني المحدد، يبقى المشهد مفتوحًا على احتمالات متعددة، تتراوح بين التصعيد العسكري، في حال استمرار الاحتلال في المماطلة، وبين الحلول الدبلوماسية التي تسعى بيروت، بدعم من حلفائها، إلى فرضها من خلال الضغط الدولي. ومع ذلك، فإن تجربة الصراع الطويلة بين لبنان والاحتلال الإسرائيلي أثبتت أن الأخير لا يلتزم بأي اتفاق إلا إذا واجه ضغطًا حقيقيًا، سواء عسكريًا أو سياسيًا.
إن إبقاء الاحتلال لبعض النقاط العسكرية في جنوب لبنان لا يمكن فصله عن سياسته التوسعية ونهجه القائم على فرض الأمر الواقع، حيث يسعى إلى استخدام هذه المواقع كورقة مساومة مستقبلية في أي مفاوضات إقليمية أو أمنية. وفي المقابل، فإن المقاومة اللبنانية ومعها مؤسسات الدولة، تدرك جيدًا أن أي تساهل في هذه القضية قد يؤدي إلى تثبيت احتلال دائم لهذه المناطق، مما يجعل المواجهة محتملة في حال استمرار المماطلة.
وفي ظل هذه المعادلة المعقدة، يبقى السؤال الأساسي: هل سينجح لبنان في فرض إرادته وسيادته على كامل أراضيه، أم أن الاحتلال الصهيوني سيواصل محاولاته لفرض واقع جديد يخدم مصالحه الاستراتيجية؟ الأكيد أن الأيام والأسابيع المقبلة ستكون حاسمة في تحديد ملامح المرحلة القادمة، سواء على مستوى المفاوضات أو على الأرض، حيث يبقى الجنوب اللبناني دائمًا في قلب المعركة من أجل الاستقلال والسيادة الكاملة.
عبد العزيز بدر عبد الله القطان / كاتب ومفكر – الكويت.