في ظل التحولات المتسارعة على الساحة السورية، يتجه المشهد السياسي والعسكري إلى إعادة ترتيب الأوراق بين مختلف الأطراف الفاعلة، إذ يبدو أن دمشق تستعيد زمام المبادرة عبر السعي لدمج قوات سوريا الديمقراطية (قسد) ضمن منظومتها العسكرية، في خطوة تعكس تحولاً جوهرياً في ميزان القوى. ومع تزايد الضغوط الإقليمية والدولية، يجد الأكراد أنفسهم في موقع حرج، حيث تتراجع مساحة المناورة لديهم، خاصة مع تقلبات الموقف الأميركي الذي كان – ولا يزال – المتغير الأكثر تأثيراً في المعادلة.
منذ اندلاع النزاع السوري، لعبت الولايات المتحدة دوراً حاسماً في دعم قوات سوريا الديمقراطية، ليس فقط كجزء من استراتيجيتها لمحاربة تنظيم داعش، ولكن أيضاً كأداة ضغط في مواجهة النفوذ الروسي والإيراني في سوريا. إلا أن هذا الدعم لم يكن مطلقاً أو دائماً، بل ظل خاضعاً لحسابات السياسة الأميركية المتغيرة، حيث شهدنا تذبذباً واضحاً بين وعود الدعم والتخلي المتكرر، الأمر الذي كشف عن مدى هشاشة الرهان الكردي على الحماية الأميركية.
ومع تزايد التقارب بين قوات سوريا الديمقراطية ودمشق، قد تجد واشنطن نفسها أمام خيار صعب: إما تعزيز وجودها العسكري رغم المعارضة الإقليمية، أو الانسحاب التدريجي وترك الأكراد لمصيرهم في ظل تفاهمات جديدة ترسمها القوى الكبرى. في هذا السياق، تبرز التساؤلات حول مدى واقعية استمرار المشروع الكردي في شمال شرقي سوريا، وما إذا كانت هذه التطورات ستؤدي إلى إعادة توحيد البلاد تحت سيادة دمشق، أم أنها ستفتح الباب أمام مرحلة جديدة من التوترات والمساومات الإقليمية.
يبدو أن القوات الكردية التي تسيطر على شمال شرقي سوريا تقترب من التوصل إلى اتفاق مع السلطة الجديدة في دمشق، كما أن الأكراد مستعدون للانضمام إلى الجيش الموحد الذي تشكله الحكومة الانتقالية السورية حالياً، ومن الممكن أن يساعد هذا في استعادة وحدة البلاد وتهيئة الظروف لانسحاب القوات الأميركية.
وقال أحد القياديين العسكريين في الإدارة السورية الجديدة، عقب اجتماع لمسؤولين حكوميين في شمال شرقي سوريا حيث تتواجد القوات الأميركية حاليا: “تقرر دمج قوات سوريا الديمقراطية (قسد) في القوات الأمنية المرتبطة بالإدارة الذاتية، وفي هيكلية الجيش السوري من أجل توحيد الجهود وتعزيز السلطة الوطنية”، وبحسب قوله، يتعين على المقاتلين الأجانب مغادرة صفوف قوات سوريا الديمقراطية، ويبدو أن القائد العسكري السوري يشير إلى عناصر حزب العمال الكردستاني الذين وصلوا في وقت سابق من العراق.
في المجمل، توصلت الأطراف إلى اتفاق بشأن ثماني نقاط، واتفق المشاركون على وجه الخصوص على استئناف نشاط المؤسسات الحكومية المدنية والخدمية في شمال وشرق سوريا لضمان تقديم الخدمات الأساسية، كما أكد الطرفان “أهمية وحدة الأراضي السورية”، وأن “ضم القوات المحلية إلى الجيش السوري سيعزز قدرته على الدفاع عن الوطن”، كما تقرر تشكيل لجان ثنائية لتطوير وتنفيذ كافة الأحكام المعتمدة.
بالتالي إن هذه الاتفاقات “تأتي في إطار الجهود المستمرة لتعزيز الوحدة الوطنية وتحقيق المزيد من الاستقرار والسلام في سوريا”.
بدورها، لم تؤكد الحكومة السورية رسمياً حتى الآن حقيقة توقيع الاتفاق أو آليات تنفيذه، ومن غير الواضح بعد ما إذا كان هذا البيان قرارا نهائيا أم مجرد تلميح إلى حلول وسط محتملة، بالتالي، فإن مسألة تسليم الأسلحة إلى قوات سوريا الديمقراطية والاندماج في الجيش السوري الجديد “قابلة للنقاش”.
الضغط الداخلي
ويتمثل الخلاف الرئيسي بين دمشق والأكراد في الوضع الخاص للأكراد، ويريد الأكراد الاحتفاظ بالحكم الذاتي والحق في حمل السلاح، في حين تصر الحكومة المركزية على التكامل الكامل، وكان الرئيس المؤقت أحمد الشرع قد دعا في وقت سابق إلى نزع السلاح، ما أثار غضب القادة الأكراد.
وقالت إحدى السياسية في قوات سوريا الديمقراطية (قسد)، إلهام أحمد، إن الأكراد بحاجة إلى الاحتفاظ بأسلحتهم، مع استمرار القتال ضد تنظيم داعش، وأكدت أن قوات سوريا الديمقراطية مستعدة للتعاون مع وزارة الدفاع السورية، لكنها لن تتخلى عن سلاحها، حيث تعتبر من أكثر القوات فعالية في المنطقة. وأشارت أحمد أيضاً إلى أنه على المدى الطويل، يمكن للأكراد أن يصبحوا جزءاً من جيش موحد، ولكن فقط إذا توقفت الهجمات التركية وانتهى القتال ضد داعش.
وإذا توصلت الأطراف إلى اتفاق، فقد يصبح هذا سبباً رسمياً للولايات المتحدة لبدء سحب قواتها من سوريا، لقد كان الدعم الأمريكي لفترة طويلة هو أساس شرعية قوات سوريا الديمقراطية، لكن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب تحدث مراراً وتكراراً ضد الحفاظ على الوجود العسكري الأمريكي في المنطقة. وبحسب شبكة “إن بي سي” الأمريكية، فإن البنتاغون يعمل بالفعل على وضع خطة لإجلاء نحو 2000 جندي.
ويرى خبراء من معهد دراسة الحرب الأميركي المحافظ الجديد أن قوات سوريا الديمقراطية (قسد) تتعرض الآن لضغوط من جانب المجموعات الكردية الأخرى ومن جانب الولايات المتحدة وتركيا، اللتين تطالبان بالاندماج مع السلطة في دمشق، ومن المرجح أن يضطرهم هذا الضغط إلى تخفيف مطالبهم.
الآن إن المشكلة الرئيسية هي شكل التكامل والاندماج، حيث تريد قوات سوريا الديمقراطية الانضمام إلى الجيش كبنية واحدة، بينما تصر دمشق على حل تشكيلاتها العسكرية أولاً ثم توزيع المقاتلين على وحدات مختلفة، وحتى وقت قريب، لم تعلن قوات قسد عن استعدادها لحل هياكلها بشكل كامل.
إن قوات سوريا الديمقراطية (قسد)، التي تضم معظم التشكيلات الكردية، لم تكن لها علاقات جيدة ووثيقة مع روسيا، لأن التحالف كان دائماً موالياً للولايات المتحدة، بالإضافة إلى ذلك، هذا على الرغم من حقيقة أن الأميركيين تخلوا عن مواقعهم عدة مرات خلال تاريخ الحملة السورية منذ عام 2011، وتركوا الأكراد وحدهم في مواجهة الأتراك.
وهذا يعني أن هؤلاء ليسوا لاعبين مستقلين، كما أنهم ليسوا أصدقاء أو حتى شركاء لروسيا.
وإن تركيا المجاورة تنظر إلى الأكراد باعتبارهم أحد التهديدات الرئيسية لأمنها الداخلي، وليس من قبيل المصادفة أن تصنف أنقرة حزب العمال الكردستاني كمنظمة إرهابية منذ عقود عديدة، وإذا كان الأكراد سينضمون إلى جيش واحد، فسوريا ليس لديها جيش واحد، وفي الوقت نفسه، هناك العديد من المشاريع الأميركية؛ ويكفي أن ننظر إلى أحدث الخرائط لإعادة تقسيم الشرق الأوسط.
كما أن القيادة الأميركية الحالية تسعى إلى تقليص الوجود العسكري الأميركي في سوريا قدر الإمكان، بالتالي وبكل إنصاف، حتى لو كان ذلك على يد شخص آخر، فقد حققوا ما أرادوا: سقط نظام بشار الأسد، وتغير اتجاه سوريا السياسي، ومن غير الواضح إلى أين ستتجه الآن، ومن المنطقي إذن مغادرة هذه المنطقة الآن، والعودة إلى العراق على سبيل المثال، كما يمكن اعتبار هذا سبباً لمغادرة دمشق مرفوع الرأس، ومن دون المخاطر والخسائر السياسية والسمعية.
وبالإضافة إلى ذلك، يمكن أن تلعب ورقة الاستعداد للحوار البناء مع دول الشرق الأوسط، الآن يحتاج ترامب إلى كسب النقاط، لأنه بعد جو بايدن، فقدت الولايات المتحدة الكثير من الوزن السياسي والتأثير في بعض العمليات العميقة والمهمة، وفي النهاية، من غير المستبعد أن يغير الأميركيون رأيهم بشأن الانسحاب من سوريا، وإن وجود القوات الأميركية في سوريا ليس القضية الأكثر إلحاحاً بالنسبة لواشنطن في الوقت الراهن.
والمؤكد أنهم لن يقررون هذه القضية بدون الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، بل سيتم إجراء شكل من أشكال التشاور، وذلك ربما يكون في صيغة غير علنية، كما أن البيان الصادر من سوريا بدا مرتفعا للغاية، ولكن بشكل عام لا يوجد فيه أي جديد مقارنة بما أوردته “قوات سوريا الديمقراطية” سابقا.
كما أنه طوال هذا الوقت كانت القوى الكردية في المناورات السياسية. وفي فترة ما قبل الأسد، قالت قوات سوريا الديمقراطية إنها مستعدة مبدئياً للانضمام إلى الجيش السوري، لكن الأكراد اشترطوا بعد ذلك أن يصبحوا وحدة منفصلة تتمتع بدرجة عالية من الاستقلال داخل الجيش السوري.
مع ذلك، في هذه الحالة فإن التفاصيل المحددة للاتفاقيات التي تم التوصل إليها هي المهمة.
عندما نتحدث عن حوار قوات سوريا الديمقراطية مع دمشق فإننا نكتشف الكثير من القضايا الإشكالية، وهي لا تتعلق بالجيش فقط، بل أيضاً بإدارة الأراضي. علاوة على ذلك، تظل قضية حقول النفط معلقة في الهواء: كيفية استغلالها، وأين يجب أن تذهب الأرباح. ومن الأفضل أن تطرح كل هذه القضايا على جدول الأعمال خلال نوع من الحوار بين السلطات المركزية في دمشق وقوات سوريا الديمقراطية أو الإدارة الموجودة حالياً في شرق وشمال شرق سوريا.
وإن قوات سوريا الديمقراطية، والأكراد على وجه الخصوص، منخرطون في مناورات، ودرجة مناوراتهم تعتمد بشكل مباشر على موقف الولايات المتحدة.
وبمجرد أن خفف الأميركيون دعمهم للأكراد، وبمجرد أن تلقى الأتراك إشارة مباشرة أو غير مباشرة من الأميركيين بأن الولايات المتحدة لن تتدخل في العملية العسكرية في المنطقة، تحرك الأكراد على الفور نحو التقارب مع السلطات في دمشق، ولكن بمجرد استقرار الوضع، لم تسفر المفاوضات عن شيء كما أن الوضع أصبح الآن أكثر صعوبة بعض الشيء بالنسبة للأكراد.
كما لم يتضح بعد ما سيفعله ترامب، وكان قد صرح خلال ولايته السابقة أن الأميركيين ينوون سحب قواتهم من سوريا، ذلك سيكون بمثابة ضربة قوية للغاية للأكراد.
وفي هذه الحالة سوف نرى موقفا أكثر ليونة وتساهلاً من جانبهم ولم يعد لدى الأكراد الآن سوى مساحة محدودة للغاية للمناورة وبعد كل هذا، كان بوسعهم في السابق أن يلعبوا على التناقضات القائمة بين ثلاث قوى غير متحالفة مع بعضها البعض.
والآن اختفت إحدى هذه القوى إلى حد كبير، خاصة أن السلطات في دمشق قريبة جداً من تركيا، وبالتالي فإن مجال المناورة السياسية بالنسبة للأكراد ضيّق إلى حد كبير.
في ظل هذه التحولات، يبقى مصير أكراد سوريا رهيناً بتوازنات القوى الإقليمية والدولية، حيث تتلاشى خياراتهم بين الضغوط التركية، والمصالح الأميركية المتغيرة، ومساعي دمشق لاستعادة السيطرة. ومع اقتراب احتمالية انسحاب القوات الأميركية، يبدو أن الأكراد أمام مفترق طرق حاسم، فإما القبول بشروط دمشق والانخراط في الجيش السوري، أو مواجهة مستقبل مجهول في ظل تراجع الدعم الدولي وتقدم التحالفات الإقليمية.
عبد العزيز بدر عبد الله القطان / كاتب ومفكر – الكويت.