ودّعت الأهل والأحبّاء في بحر من الدّموع تتدفّق مياهه، وتتلاطم جداوله السّاخنة، وأنا أحمل بيدي اليمنى حقيبة نَظّمتُ فيها ما يحتاجه طالب علم يغادر بلده تمثّلا بالحديث النّبويّ، الدّاعي إلى طلب العلم حتّى في الصّين.
ودعتهم والقلب يلتهب شوقا إليهم وإلى بلد ربّاني على حبّه منذ الصّغر، وبعد تفتيش وثائقي وتذكرة سفر تمكّنني من ركوب الطّائرة، وامتطاء الفضاء، قال لي شرطيّ الحدود: “حيّاك الله، أخي الكريم، سفرا سعيدا”، فردّدت التّحيّة وشكرته على الدّعاء.
خطوت خطوات فإذا بطائرة عملاقة تبرك في ساحة ممتدّة في أميال كنسر يتحيّن وصول قادم ليندفع نحو سماء اختلط بياضها بالزرقة. ركبت الطّائرة فإذا هي تشبه حافلة إلاّ أنّها أوسع من هذه الأخيرة عرضا وأبعد طولا. وما بقي عالقا بذهني هي تلك الدّروس التّي كانت مضيفات الطّائرة يقدّمنها للرّكاب حول أساليب النّجدة عند حدوث ما لا يُرجى من الحوادث، وحين لاحظن الطّمأنينة في وجوه الرّكاب انقطعن عن تقديم الدّروس، وبعد انسحابهنّ دعا مسؤول الطّاقم الرّكاب إلى ربط الحزام لأنّ الطائرة ستودع الأرض لمصافحة السّماء.
وبعد دقائق، أخذ المبنى الضّخم يتحرّك ويزمجر بصوت يشبه بكاء الأطفال حين يغمرهم الحنين إلى الرّضاعة. وفي الأخير أخذتْ تنعق نعاق الغراب الأسود فعرفت أنّ الظّعن وشيك، ومن ثمّ شرعتْ تهرول هرولة فرخ الطّائر أيام تعلّمه مبادئ الطّيران. وبعد هذا التّرويض القصير لو ترى بنياننا العملاق كيف تسرع خطاها على مسلك رأيتُه ضيّقا والحال أنّه ليس كذلك غير أنّ سرعتها الهائلة توهم بذلك. نظرت إلى النّافذة فإذا الطائرة تحلق في السماء، حيث السحب تحمل في جعبتها أطنانا من المياه والثلوج التي نشاهدها وهي أسفل الطائرة، مشهد رائع يا سبحان الخالق فيا لروعة الطبيعة وسحر جمالها، الذي أجبر قلمي وأصرّ على أن ينزف دموعه في تلك اللحظة الرائعة من على بعد ثلاثين ألف قدم. أكتب مقالتي ليقرأها من على بعد المسافة نفسها تقريبا.
رحلة بين الأرض والسماء تحلق تارة وتارة أخرى تنزل قليلا للتخلص من المطبّات الهوائية التي تربكني كثيرا وتربك ثلة من المسافرين على متن الخطوط الجويّة، حيث المضيف يؤدي عمله بإخلاص وتفان بتوزيع وجبة الإفطار على المسافرين، لأجد نفسي ارتعش وجلا من هول المطبات الهوائية التي أفقدتني توازني، لتجعلني أسير لحظة صمت لا أودّ فيها أكلا ولا شربا، وأقول في قرارة نفسي لقد تخلصنا من مطبات الأرض لنجد أنّ الجو يحمل مطبّات أكثر منها عنفا.
لحظة صمت يعقبها مشهد رائع ونحن نعتلي السحب ذات الهيبة والجمال ننظرها من نوافذ الطائرة المحدودة والمغلقة، وبين الركاب من يقرأ جريدة أو كتابا ومنهم النائم ولكنني كيف السبيل إلى النوم وأنا بين مطرقة الطائرة وسندان مطباتها ..!؟
ما أعنيه هنا ليس ذكر مساوئ الطائرة وعيوبها بل التطورات التكنولوجية التي أخذت في التسارع نحو التسابق لمواكبة التطورات العلمية الراهنة، هذه القوة المغمورة بمحركات متطورة وتقنية عالية الجودة. وهذا كلّه يدعو إلى التساؤل حول سرّ هذا الابتكار العجيب!! طائرة تحمل آلاف الأطنان ومئات الركاب لكنها تقلع بكل يسر وسهوله. ولا شكّ أنّ السرّ في ذلك هو العلم، الذّي منحه الله سبحانه وتعالى البشر و”هل يستوي الذّين يعلمون والذّين لا يعلمون”؟
استغرقت رحلتنا ساعات من المتعة والخوف، نتمتّع بما وهبنا الخالق من علم يحملنا على البرّ والبحر والفضاء، وبسلطانه نجوب أقطار السّماء وطبقات الهواء. ونخاف كلّما تنحني الطّائرة أو نرى جناحيها مائلتين كأنّها صقر يبحث عن فريسة. تناول الركاب في هذا الفندق الفضائيّ وجبات، وإن كان من المعتاد أن يتناولوها في وقتها فإنّ الفرق في أنّها تؤكل بين السّماء والأرض.
كنت بين اليقظة والنّوم حين دعانا مسؤول الطّاقم إلى ربط الحزام لأنّ نهاية الرّحلة في غضون دقائق، وبعد أن يتمّ كلامه سمعتُ ناقتنا الفضائيّة تئنّ كأنّها بقرة تبحث عن ولدها الضّائع في غابة تتشابك أشجارها مغطّية مياها تتصافح تياراتها آخذة لون الأشجار تارة، وألوان الجبال المحيطة بها تارة أخرى، ثمّ فرّقت بين قوائمها الثّلاث متّجهة نحو الأرض فكأنّها عُقاب ينقضّ على فريسة تجري في صحراء بلا شجر ولا مخبئ آخر. تتابعت هذا كلّه فإذا ببنياننا العملاق يعانق الأرض، فأسمع رئيس الطّاقم يهنّئ الرّكاب ويعلن عن نهاية الرّحلة. يا لها من رحلة! في غضون ساعات جبنا آلاف كيلومترات، وهذا من نعم الله على عباده، فليتأمّل المتأمّلون وليشكر الشّاكرون عسى أن يمنحننا الرّحمن مزيدا من النّعم!
بقلم: خلفان بن محمد المبسلي