مرحبا
نفتح لكم زاوية لقراءة مقالات عن الترجمة
ولتكن بدايتنا مع الخيانة
نفتح لكم زاوية لقراءة مقالات عن الترجمة
ولتكن بدايتنا مع الخيانة
(( 1 ))
الترجمة : الخيانة المُحببّة
بقلم : عبدالهادي سعدون
الترجمة : الخيانة المُحببّة
بقلم : عبدالهادي سعدون
عندما أخذ الأدباء المحدثون العرب فكرة الخيانة عند الحديث عن الترجمة ، إنما توصلوا بها عن طريق خاطئ ، وإن كان في المحصلة سيؤدي الغرض ذاته ، وهو الحديث عن ثنائية (الخيانة ـ الأمانة) في النص المترجم .
إذن هل هناك خيانة مختلفة؟ قطعاً سيكون الجواب : كلا . لكن هل الترجمة عملية أمينة تماماً ، بالطبع لا ، ولكن لماذا نورد هاتين المفردتين ما أن يتم الحديث عن الترجمة والنصوص المترجمة من لغة أجنبية إلى لغتنا العربية ، وبالمثل ما يفعله الآخرون بترجماتهم من لغات أخرى إلى لغاتهم الأم . عندما أصبحنا نتحدث ، خاصة في منشوراتنا المعاصرة ، عن تلك الجملة السحرية (المترجمة بدورها) : "الترجمة خيانة للنص الأصلي" ، فإننا في الواقع استخدمنا تعبيراً شائعاً في اللغات الأوربية ، دون إدراك مغزاه ، أقول هذا للذين لا يتقنون لغة أخرى غير العربية ، وأمثالهم كثر وقد كتبوا في المسألة مقالات عديدة دون العودة للحديث عن اللعبة اللغوية نفسها التي أدت لهذا الاشتقاق ، هذا دون الإخلال بمسألة البحث عن الأمانة من عدمها في الحديث عن النصوص المترجمة ، لأنها مسألة حيوية بقراءة النص الأصلي ومقارنته بالمترجم ، ولا أقول مسألة قطعية حاسمة ، لأننا في النهاية نترجم بأكبر قدرة من الوعي بالنص نفسه ـ مع أستثناءات تطرأ في نموذج وآخر ـ بغض النظر عن محصلة كون الترجمة رديئة أم متمكنة .
في تلك الجملة السحرية (هل الترجمة خيانة) للنص ، المنقولة لنا مترجمة بدورها عن لغة أجنبية ، تكمن اللعبة . إن من له معرفة بلغة أوربية ، أقصد (هندو-أوربية) ، ومنها الإسبانية التي أبني عليها تصوراتي عن الترجمة ونماذجها التي سأستشهد بها وأعرف بها ، يعلم بأن مفردتي ترجمة وخيانة لا تفرقان باللفظ الظاهر وإن أختلفتا بالزيادة أو النقصان بالحروف الوسطى . هذه الجملة التي أتت عن كاتب أو مترجم فرنسي أو إيطالي (لا أذكر تحديداً) هي مقاربة للفظ في الأسبانية وأحسبها كذلك بالإنكليزية ، اتخذت من المقارنة لعبة لغوية أرادت بها مدخلاً منبهاً وطريفاً بالوقت نفسه لمدى التقارب والابتعاد فيما بينهما . ومثلها يمكن القول عن المسافة الفاصلة بينهما ومدى إدراكها . الجملة بالإسبانية تذكر كالتالي :
( Es una Traduccion o una Traicion ) أي هل هي ترجمة أم خيانة . والكلمتان المسودتان تشيران إلى التشابه ما بين الكلمتين ، وإن جاء لفظاً ظاهرياً دون المعنى بالطبع . هذه الجملة فتحت المسوغات للكل بالإدلاء بدلوه وكأن المسألة محسومة قطعاً ، وقد قرأت كتباً ودراسات بهذا الشأن وكأن دراسة علم الترجمة لن تخطو خطوة دون جعل هذه الجملة السحرية ركيزة أساسية في البحث .
أعترف هنا بأنه ليس الترجمة وحسب هي خيانة مسبقة للنص ، بل أجدني أتحيز إلى أن أي نص مكتوب هو في حقيقته خيانة لنصوص سابقة مكتوبة ، دون الدخول في مسألة أصالة النص أو رداءته ، لأن الحالة تبقى في درجة التذوق والإدراك . ولكني أضيف هنا بأننا نكتب النصوص الإبداعية لرغبة وحاجة داخلية ولكنها تبقى رغبة محببة على صعوبتها ، من هنا يمكنني أن أضيف إلى أن الترجمة هي خيانة ولكنها خيانة محببة مرغوب بها وضروية وكلنا نلجأ لها ولا نستطيع الاستغناء عنها . بمعنى آخر : هي الخط الموصل بين محصلتنا المحلية ومعرفتنا بالآخر بمحصلته الأخرى . من هنا يكمن الفرق بين المعرفة المقننة والمعرفة المنفتحة ، أي ما بين التحصيل المنقطع عن التحصيل المتواصل ، أو كما قيل ذات مرة بأن الترجمة "هي في الجوهر خطابا آخر . إنها تقوم على الاستيعاب والتمثل وعلى إدراج الآخر في الذات" ، ولعلنا نتفق جميعاً بأنها إشارة ذكية للذات المبدعة بتمثلها الصحيح للآخر ، ولعل الترجمة أداة ناجعة ومدركة لها .
الإبداع والترجمة : آراء وشواهد .
أجدني مهتماً هنا بالترجمة بوصفها كتابة ثانية ، مثله اهتمامي بالكتابة بوصفها ترجمة ذاتية مغايرة . من هنا أحاول وضع تعريفات خاصة بي للمفردتين (الترجمة ـ التأليف) قد تجد القبول أو الرفض .
فالتأليف : ترجمة عن نص ضائع ، أو لا وجود له أصلاً قبل تدوينه ، مثل نص متخيل . بينما الترجمة : عملية إعادة تأليف أو كتابة عن مخطوط موجود أصلاً ، يحتاج فقط إعادة النظر به عند نقله من لغته الأم إلى لغة المترجم نفسه ، أي السعي لكتابة المخطوط الأصلي مرة أخرى ، بكلمات متشابهة وإن كانت بلغة مختلفة . وبالمثل يمكننا توصيف التأليف على كونه : حيازة قالب طيني بلا ملامح وعليك أن تصنع منه شكلاً مقنعاً بأية هيئة ترتضيها لطالما ستكون الصاحب والمسؤول عن هذا الشكل . بينما الترجمة تكمن في : امتلاكك القالب نفسه مع نماذج بارزة عليك تقليدها ، أي تشكيل قطع القالب بما يماثلها ، ولكن ليس بالضرورة أن تكون مطابقة لها تماماً . بالمسار نفسه أستذكر بورخيس عندما منح الكاتب ـ المؤلف صفة الصانع بقصته الشهيرة تلك ، أي الخالق لنصه ، واضعاً إياه بمرتبه الإله أو الفنان المتمكن من أدواته ، إن المترجم سيكون بمرتبة أخرى في الحيز نفسه مع إضفاء صفة الحرفي Artesano عليه ، ولعله أكثر قرباً من هذا التعريف لأنها لا تنفي قطعاً منحه صفة المبدع لنصه المترجم أيضاً . من هنا كذلك نرى أن العديد من المترجمين ، خاصة العرب ، يقعون في هذه الخانة من التعريف ، أي يمتلكون شرط الكتابة ـ الإبداع ويمتهنون في الوقت ذاته الترجمة كحرفة مساعدة أو تغاير ممكن في أدواته الإبداعية . بالطبع دون أن ننسى التذكير بأن مترجمين عرب يقفون بصفة مترجمين لا غير ، ومع ذلك لم يقعوا بعد في مأزق المهنية الجافة التي وصل لها المترجم الأوربي المحترف منذ سنين . وللدليل على هذا ما يزال العديد من المترجمين العرب يعتبر ترجماته بمثابة نتاج شخصي له لإدراكه أهمية ذلك في وسط عربي يقل فيه أمثاله ، بينما يكون المترجم الأوربي وغيره قد تخلصوا من هذه الحساسية منذ زمن طويل وأصبحت الترجمة لديهم بمثابة عمل وظيفي خالص .
من النماذج البارزة لدينا ، يقف الراحل جبرا أبراهيم جبرا في مرتبة المبدع ـ المترجم في آن واحد . ولعلنا جميعاً يعرف أثره في الرواية العربية وكذلك دراساته النقدية ، يضاف لها اهتماماته بالترجمة عن الإنكليزية لأعمال خالدة في الآداب العالمية كما عليه أعمال شكسبير و فولكنر ، ولكن في كلا الحقلين كشف عن توجه حقيقي وإبداع متمكن في الطرح والاختيار . ولعل التقارب ما بين الاثنين واندماجه فيهما ، وإن كان موضع نقد في أحيان كبيرة ، إلا أنه كان واعياً للعملية نفسها . ولعلي هنا أستذكر واقعة طريفة جرت بترجمته لخرافات أيسوب التي أشاد بها الكثير ، وفيها يندمج بتمام الوعي المبدع فيه مع المترجم ليضم نصاً خاصاً به بين نصوص الخرافات نفسها ، ليصبح نصاً أيسوبياً ، وإن أراد له أن يكون نصاً منتحلاً لإغواء لعبة التأليف واقترابها اللصيق بالترجمة . ولعل نموذج الراحل غائب طعمة فرمان شبيه تماماً بجبرا إبراهيم جبرا في غزارته التأليفية وريادته في الأدب العراقي المعاصر ، وكذا تراجمه عن الروسية إلى درجة أن أصدقاء له حاولوا تصنيف أوراقه غير المنشورة بعد موته فوجدوا صعوبة تامة بفصل كتاباته عن ترجماته التي اختلطت ببعضها ، لدرجة أظن بها مقصودة من قبل غائب ، و أراد لها ذلك عن نية مسبقة ، وظني هذا لمشاركة شخصية أن تكون النية كذلك وإن لم تكن ، وهذا لا يعدم في ظواهر أدبية عديدة .
ومن النماذج المقاربة لهدف الترجمة والكتابة المباشرة ، أذكر هنا في الإسبانية نموذجان بارزان أحدهما قديم والآخر معاصر . ففي رائعته (الدون كيخوته) يلجأ ثربانتس للعبة الترجمة كحل مقنع أمام قارئه لذكر مصادر مغامرات الفارس وتابعه سانشو . هذا الإنتحال المدهش ، لا سيما في الجزء الثاني من الرواية ، يجعل فيه مخطوطاً عربياً لشخص أسمه سيدي حامد بنجلي مصدر حكاياته المتعددة ، إلى درجة أنه يسرد وقائع العثور على الوريقات وبحثه عن موريسكي يتقن اللغتين لينقل له وقائع ما لم يجده في أي مصدر أسباني . هذا المفتاح (ترجمة المخطوط) الذي هو في الوقت نفسه لعبة أدبية بليغة وسابقة لعصرها ، جاءت لدواعي عديدة أهمها : الإيهام الذي جرى عليه في أغلب فصول رواياته ، وليمنح القارئ الحل ، وله شخصياً الاستمرار بكتابة الجزء الثاني بعد أن أعلن عن نهاية الرواية تقريباً في جزئها الأول . إذن مدخله كان البحث عن الفصول الأخرى وترجمتها ومن ثم نقلها لنا كقراء . هذه النباهة ودرجة وعي ثربانتس باللعبة الكتابية ، أدخلت العديد من الدارسين فيما بعد ، ومنهم باحثون معاصرون ، أدخلتهم في متاهة البحث الحقيقي عن مصدر (الدون كيخوته) العربي . ومثل لعبة ثربانتس ، ما أقدم عليه كاتب أسباني معاصر هو ماكس آوب ، عندما نشر أكثر من عمل في المجال نفسه ، لعل أكثرها تداخلاً في الترجمة هو كتابه : مختارات من شعر قتلى حرب الأيام الستة بين العرب وإسرائيل . وفيه ينقل ما عثر عليه من كتابات وأشعار لجنود من الطرفين ماتوا في الحرب ، وكلها قصائد تدعو للسلام ونبذ الحروب والتقاتل . ولعله شط كثيراً بافتتانه باللعبة الأدبية إلى درجة أن وضع أسمه مترجماً ووضع أسم سيدة أخرى ساعدته بإتمام الترجمات ، وفي الكتاب أيضاً يقدم شكره وأمتنانه لأسماء أخرى ساعدته بانجاز العمل . هذا التحايل الممكن واللعبة المنتحلة والتداخل بين الكتابة والترجمة نجد له نماذج أخرى في لغات عديدة حتماً . وهنا أشير إلى أنني مارست (لعبة الافتتان) هذه في غير موضع من ترجماتي عن الإسبانية ، والتي أجد ضرورة الإشارة لها فحسب دون ذكر نماذجها .
من الإشارات الطريفة التي أريد ذكرها ما جرى مع بعض المترجمين (أعيد التأكيد بأنني أتحدث عن الترجمات ما بين العربية والإسبانية فقط) ، وهي إشارت قد صنعت ما يشبه إرثاً في البنية السردية العربية ، حتى أصبح من مسلماتها . ففي أوائل الترجمات عن أدب الواقعية السحرية ، ويحضرني هنا مثال أول ترجمة لرواية (مائة عام من العزلة) لماركيز ـ وهي ترجمة رائعة حقاً ـ فعندما يصل المترجم إلى ترجمة نوع من النباتات أو أسماء الحيوانات أو أحد المظاهر الأميركية لاتينية ، فإنه يلجأ لفتح قوسين معرفاً بهذا الاسم أو تلك الدلالة وأحيانا يتركها بين شارحتين ، حتى غدت عند العديد من القراء والكتاب على حد سواء إلى كونها مسألة نهج كتابي جديد في النثر القصصي ، وأتذكر أن كتاباً عرباً قد قلدوا هذا المنحى في نماذجهم القصصية ، واتخذوا هذه البدعة كأنها شرط أو حاجة جديدة داخل النص ، بينما هي في حقيقتها لم تكن سوى إيضاحات من المترجم الذي لم يكن متاحاً له في وقتها ـ حسب اعتقادي ـ معالجتها بهامش في ذيل الورقة . وحالة أخرى ما جاء عليه مترجم نص لإيزابيل الليندي (أيفا لونا) والذي عند وصوله لجزء خاص بوصف مظاهر عرس عربي شرقي ، تلجأ الكاتبة لذكر أسماء بعض الأطباق والحلويات بأسمائها العربية الصريحة ، فما كان من المترجم إلا أن حذفها بترجمته العربية دون الإشارة لها سوى بنقاط متتالية ، ولعله قد فكر بأنها مسميات أميركية لاتينية غريبة وصعبة الترجمة . والحال ينطبق مع نموذج ترجمة كتاب قصصي لماركيز وهو بعنوانه الإسباني : Doce cuentos peregrinos ، التي تعني (12 قصة مدهشة) إذ حار أغلب مترجمو الكتاب بترجمة العنوان ـ هناك ثلاث ترجمات عربية للكتاب وقعت بيدي ـ والصعوبة تكمن في كلمة Peregrinos التي تعني حرفياً (حاج ، مهاجر، مسافر) ، فما كان من الثلاثة إلا أن ترجموا العنوان بما يتوافق مع معانيها السابقة أو حذفها للسهولة وابتكار عنوان آخر . المخرج البسيط ـ الصعب في آن واحد ـ هو في اللجوء إلى القاموس الخاص بأدب الواقعية السحرية والتي يعرف الكلمة بأنها تعني : مدهش أو ساحر . هذه هي كل المسألة .
من النماذج المقابلة والتي واجهتني شخصياً أثناء العمل على ترجمة منتخبات من قصص التراث العربي الإيروتيكية إلى اللغة الإسبانية . فالمعروف بأن قاموس مرادفات الأعضاء الجنسية والهيئات الإيروتيكية ووصفاتها العلاجية وتدابيرها الشعبية والخرافية ، هي من الوفرة والمرونة في القاموس اللفظي العربي ومحدوديتها في اللغة الإسبانية، وجمالية التوصيف في القصص هو ما يمنحها تجديديتها وطرافتها والبناء التخييلي على ضوئها . إن معضلة من هذا الشكل تضعك أمام حلين : إما البحث عن ابتكارات جديدة أو النحت وخلق التشابيه الممكنة ، وهذا ما حاولته في أغلب الأحيان للحفاظ على روح النص، أو أن تقتصر على المتداول ، وهو ما لجأت له في أضيق الحدود . كما لجأت بمساعدة مترجم كوبي للبحث عن مفردات الجنس والإيروتيكية الخفية في قاموس كوبا أو دول أميركا اللاتينية ، ومنها خرجنا بمحصلة نافعة . ولكن الكتاب على أية حال خرج وكأنه نص معاصر ، وهذه الحيلة التي اتخذتها في ترجمة النصوص المنتخبة إذ أوردت في المقدمة بأنها رؤية معاصرة لنصوص تراثية قديمة . الحال نفسه جرى معي في ترجمتي لكتاب الروائي الإسباني المعروف خوان غويتسولو المعنون (فضائل الطائر المتوحد) ، فالروائي في فصول الكتاب القصيرة يستخدم لغة المتصوفة المسلمين والنصارى ، ويبني المتن الحكائي بلغة أسبانية ترجع بنا لنصوص القرون الوسطى ، على الرغم من موضوعة الرواية المعاصرة . أمام هذا الوضع كان لا بد لي من اللجوء لترجمتها بعربية كلاسيكية تتخذ من متن كتب التراث العربي والنصوص السردية القديمة نموذجها المماثل ، وهذا على أقل تقدير يقرب القارئ العربي من فهم أدوات الكاتب اللغوية .
من جانب آخر عندما أقدمنا على ترجمة كتابي القصصي (انتحالات عائلة) مع صديق مستعرب واجهتنا بعض الارتباكات الجوهرية في النص ، منها على وجه الخصوص كيفية ترجمة قصة (ونين) التي تبني متنها السردي على التلاعب والنحت بهذه المفردة من لهجة العامة العراقية ، كما أن حذفها أو تشذيبها لا مكان له هنا لأن تمتد من العنوان حتى مفاصل التقدم الاستطرادي بمفهوم سياق القص . المترجم يعتقد أنه من الممكن إيجاد ما يخرجنا من متاهتها باللجوء لعامية أهل الأندلس الأسبان الذين يستخدمون ألفاظ مقطوعة أو محورة عن الفصحى الإسبانية بخصوصية لغوية متفردة ، مخرج مناسب ولا غنى عنه ، من هنا يصبح العثور على توصيفات خارجة على المألوف أمر يخدم الترجمة في أغلب الأحوال . والأمر نفسه حصل في ترجمة مقاطع من قصة (مصارعات ثيران) التي يمارس فيها البطل التلاعب بالحروف الثلاثة ( ح ر ب ) بالتقديم والتأخير وحذف حرف وإبقاء آخر ، ومنها تتكون كلمات مختلفة الواحدة عن الأخرى بغرض مقصود في القصة ، إذن كيف نعثر على كلمة تحلينا للقصد نفسه ، وهل نعثر عليها دائماً ، أي هل الحلول السحرية متوفرة دائماً . قطعاً الجواب سيكون : كلا ونعم . وكلاهما حاضر بشواهده .
بهذه النماذج وغيرها أريد أن أقول أن خيانات متعددة تجري على جسد النص المترجم ، ولكنها خيانات لا بد منها ، مثلما عليه الترجمة نفسها . هل يعني أن أغلب النصوص المترجمة ناقصة ولا تؤدي فعلها الكامل في النقل من لغة إلى أخرى ، الجواب : نعم . ولكن هل كل ترجمة هي ترجمة ، أيضاً : نعم . وهل كلها ضرورية وهل كلها لا بد منها وهل سنستمر فيها . بالطبع نعم . هذه الخيانات المحببة أصبحت جزءاً منا فأشبعتنا بما يذكرنا بأسماء ونصوص وكتب وقصائد وملاحم وفنطازيات ، ولا وجود لحيواتنا المعاصرة دونها .
إن نية ترجمة نص تكفي بحد ذاتها ، ولو كان النص متقن الترجمة سيكون نفعه أكثر التصاقا ومتعة ، ولكن بما أننا تعلمنا من ترجمات جيدة ، فقد تعلمنا أيضاً من ترجمات رديئة . الفعل الحقيقي أننا سنبقى نتذكر طيف الخيانة ، ولكننا سنبتسم بنصف ابتسامة في خلواتنا الشخصية إزاء أية خيانة جديدة معتبرة ونحن نمسد غلافها ونهم بتصفح وريقاتها .
الآن ، هل هناك من يجرؤ على رفع إصبعه ليعلن امتناعه عن اقتراف خيانات كهذه ؟
تعليق