تم تأجيل حفل التخرج في ذلك اليوم بسبب الجو الماطر والحمدلله ومضى يوم السبت ، نهاره وليله ، فأتى يوم الاحد ، وكان أيضا ماطرا ، وفي المساء حوالي الساعة التاسعة الا الربع قررت أن أذهب لأتوحد بالجامعة ، حيث الطالبات ستكون بالساكنات فوقتهن ينتهي عند التاسعة تقريبا ، وقراصنة الجامعة الليليين رجمهم المطر حتى أرجعهم الى مخابئهم.
استعرت سيارة أخي ، وانطلقت الى الجامعة يخالطني شعور غريب يملأني بالبكاء من قدمي الى رأسي ، ولكن لا دموع ، وصلت بوابة الجامعة والغريب ان شرطي البوابة أشار إلي بالدخول دون أن يوقفني ويسألني سؤاله المعهود " الى وين الطيب ؟" رغم أن الساعة قاربت التاسعة والمطر يتساقط فمجيئي يستحق السؤال ، ولكن ربما الجامعة أخبرته بأن حبيبا مودعا سيأتي ليشارك السماء البكاء.
انطلقت فدخلت الشارع الذي بين الهندسة ومركز اللغات ، ويشدني سحر الانارة المنعكس في أبنية الجامعة ، واصلت مسيري إلى دوار كلية العلوم ، وعندما وصلت الى الدوار نظرت في الممر ،الموصل للتربية ، فتزاحمت الاحداث في شريط الذاكرة ، وكأن ذاكرتي أصبحت ثقيلة تتساقط منها الاحداث بسرعة عالية كومضات فلاشية متتابعة انها ذاكرة سنوات وأحلام .
واصلت طريقي الى دوار الاداب نرجسة الجامعة ، والمطر يطقطق على زجاج السيارة الأمامي ، والموسيقى الناعمة تنساب الى اذني ، وأنا شارد الذهن ، ناظرا الى كل رقعة تمر ولي فيها موقف معين ، وكل جامعتي مواقف ، رجعت بعدها من الدوار الواقع بين التجارة والمبنى (اي) الى نفس الطريق واتجهت الى مواقف كلية التربية ، والشارع متلبس بصمت رهيب كصمت الكنيسة ، والليل يلف الجامعة برداء أسود ، زادته الغيوم عتمة ، ورغم الرياح ذات النسمات العليلة خيل إليّ أن الاشجار منتصبة ساكنة كسكون الجنازة الليلية .
توقفت في مواقف التربية على أقصى اليسار في الزاوية حيث المجلس النسوي المعتاد للطالبات تحت الاشجار ، حتى استشعر الحضور الانثوي ربما لأنني في تلك الساعة الصارخة بالحنين والفقد أحتاج الى قداسة انثوية ، فساعات اللقاء والفراق تحتاج لامرأة لتثبت أقدامك ، لتشعرك بالجاذبية ، لتشعرك بأنك على الارض ، فما بالك اذا اجتمعت الساعتان معا.
ترجلت من السيارة ساحبا مظلتي لتقيني زخات المطر الخفيفة حتى لا أشعر بالبرد ، وأحكمت اغلاق الباب ، فاستقبلتني الكراسي حاسرة الرؤوس ، بدون سيداتها الجميلات ، فقلت لا بأس إن لم تجد ما تريد يكفك أن تجد أثره لتسترجعه وتبعثه في ذهنك من جديد ، فاسترجعت الشريط النهاري المنتعش المتدفق بالحياة ، ومشيت قاصدا الممر الذي يربط التربية بدوار العلوم ، وقفت في أوله ونظرت الى اخره ، لم يكن ثمة أحد ، ابتسمت بقدر مساحة الشعور الذي يعتريني ، هل حقا كنت هنا ؟! وهل قضيت كل تلك السنوات هنا ؟! وكيف تم ذلك ؟ وكيف اني الان لا اشعر بها لا استطيع لمسها او شم هوائها ؟! ما هذه الحياة الغريبة ؟ الحياة الحلم ، فماضيها لا تستطيع ان تستشعره الا كطيف عابر الا كحلم ، أردت ساعتها أن أخر على ركبي من شدة الاعياء النفسي ، من ثقل ذاكرتي ، وأخذ يتردد بيت من الشعر في اذني دون ما رغبة مني :
ومضت تلك السنون وأهلها ** فكأنها وكأنهم أحلام
أدركت انني لا يجب أن أقف هنا ، فأعطيت الممر ظهري ، وفتحت مظلتي متجها إلى مقهى المستشفى ، رغم أنني لا أشعر بالجوع ، ولكن عندما .تأكل تشعر بالدفء فأردت ذلك ، لأن ملابسي كانت مبللة بسبب المطر الذي استقبلته ملابس وأنا في سوق الخوض.
اتجهت ماشيا اللى المستشفى ، وفي رأسي تتقلب الافكار ، في الزمن وكيف يمر ، وفي الانسان ، وفي الحياة والموت وجدواهما ، فغرقت في أفكاري عميقا ، لولا نسمة هواء كادت أن تقتلع المظلة من يدي فأيقظتني من ساعة الانخطاف تلك ، وصلت الى بوابة المستشفى وفوجئت بأنها مغلقة ، اتجهت الى مدخل الطوارئ فتسللت منه الى المقهى ، ولا أذكر ماذا أخذت بالضبط ، ولكني أتذكر كوب الحليب الدافئ الذي احتسيته بنكهة البرد.
بعد أن قضيت مأربي من المقهى اتجهت مرة اخرى الى منفذي السري باب الطوارئ ، ولكني توقفت في مدخل الطوارئ قليلا لأشاهد الاودية والامطار التي تُعرض على التلفاز في ذلك الحين ، وما كدت الا أن رأيت رجلا في الثلاثينات من عمره يصرخ لتُفسح له الطريق ، كان متوسط البنية ، طويل القامة ، ذا لحية سوداء طويلة شبه منسقة ، يحمل طفلة في حضنه ظننتها ميتة لولا حركة بعض اطرافها حركة غير ملحوظة ، جرى بها الى الداخل ، وعلامات الهلع والخوف قد عبثت بوجهه كثيرا ، تتبعه امرأة ذات صلابة أكثر منه وعزم قوي ، رغم وجهها الذائب عاطفة وحنوا على الطفلة ، فأيقنت أنها الام ، كانت متوسطة الطول تميل الى الامتلاء ، لافة نفسها بعباءة ساترة ، الا الوجه والكفين ، مرتخية الى اسفل قدميها ، عليها سيماء الايمان والتقوى والرضى والخشوع ، فدعوت الله لها في سري أن يحمي ابنتها ويصبرها .
أخذت أتأمل أحوال الناس وهم يدخلون الى هذا المكان الكئيب ، البعض مغمى عليه ، والبعض ينزف ، والبعض يبكي ، والبعض مسمر عينيه باتجاه مدخل الحالات الطارئة يترقب وينتظر الفرج ، وصياح الاطفال يملأ المكان ، ويقشع صمت الكبار ، خرجت لاستنشق هواء أمام البوابة ، ولكني لم أشأ الذهاب ، لأن تصرفات الناس وأحوالهم شدتني ، فهم يعانون ويتألمون ، فأحببت أن أشاركهم الالم ، وأن أقتطع لي القليل من وقت المعاناة والألم ، لأتعلم كيف أقدر نعمة الصحة فأشكر.
قطع تركيزي صوت ثلاث طالبات غاضبات من عدم توفير سيارة لنقلهن الى سكنهن ، بعد أن تلقين العلاج ، وفهمت من كلامهن مع رجل الامن ، أن زميله أخبرهن بأنه طلب السيارة باتصال ، وبعد ذلك قال لم يطلب ، ولكن سيتصل الان ، فأغضبهن كثرة الانتظار حسب كلامهن في البرد ، فوقعت ملاسنات خفيفه مع رجل الامن ، فقلت في نفسي شكرا لله ، وشكرا لجلالة السلطان وشكرا لحكومة السلطنة وشكرا لأدارة الجامعة ، فرغم تقارب السكنات في الجامعة والمستشفى الا أن أخواتنا في الجامعة مكرمات ، مدللات ، لا أبالغ أن قلت يُخدمن في الجامعة أكثر مما يُخدمن في منازلهن يتشرطن ، ويتوعدن ، ويهددن ، أستمتعي في ظل الأمن والأمان انتي في جامعة السلطان قابوس ، نفسي عن روحك ، المهم بعد حوالي ربع ساعة أتت سيارة عليها شعار الجامعة فتلاشت العباءات السوداء الثلاث في السيارة .
وتركن خلفهن شاب يدفع بفتاة في كرسي متحرك ، ربما في الثالثة أو الرابعة عشرة من عمرها ، كانت تكح فتنزف الدماء من فمها ، تسكبها سكبا في رقعة أنقلب لونها الابيض أحمرا من كثرة الدماء ، فقلت في تفسي سبحان الله كيف أن كل أنسان بأمره مشغول ، هذه تطلب الحياة ، وتلكم تطلب السيارة ، والحياة مستمرة لا تتوقف لحزن هذا ، ولا لفرح ذاك ، لا ترأف لفقر هذا فتعطيه ، ولا تعجب لغنى ذلك فترديه ، عالم من المتناقضات ، وخليط من التدافعات تجعلها مستمرة هكذا.
لم أستطع أن أميز شعوري في تلك اللحظة ، الا انني لا أخفيكم أنني شعرت بشيء من الخوف ، ففتحت مظلتي هاربا من ذلك المكان ، مشيت من المستشفى متجها إلى كلية التربية حيث أوقفت سيارتي ، مررت جنب استهلاكية الزراعة ، بخطوات شبه سريعة ، فرأيت أكواب الشاي الفارغة ، وعلب الشبس والبسكويت وأوراق السندويشات متناثرة تلعب بها نسمات الهواء الباردة حولي ، فقلت في نفسي عذرا جامعتي فطلابنا الاعزاء مشغولين بطلب العلم فليس لديهم من الوقت ما يكفي لتضييعه في رمي مخلفات ما يأكلون في سلات القمامة ففاخري بهم ولا تعتبي ، ولكن لا تعتقدين أن الطالبات لهن يد في ذلك ، فأنا اعرف جيدا انه لا يجلس هنا الا الطلبة فقط ، صدقيني فهن من الرقة واللطف ما يجعلهن لا يستطعن أن يأذين ساحتك وأروقتك النظيفة الجميلة بالفضلات ، واصلت طريقي حتى اذا ما وصلت الى مكان السيارة نظرت الى كراسي الفتيات تحت الاشجار لاسترجع حيوية المكان ، فهالني ما رأيت من الأكوام ، فما استطعت أن أقدم أي عذر اخر إلا أن دسيت وجهي بين يدي خجلا فركبت السيارة ومضيت .
انتهى
مسافر وزادي فتات
انتهى
مسافر وزادي فتات
تعليق