إعـــــــلان

تقليص
لا يوجد إعلان حتى الآن.

ما بين الربشة والركشة وأشياء أخرى

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • ما بين الربشة والركشة وأشياء أخرى

    (1)


    ما أروع السفر، وماأكثر فوائده، لكن السفر بحاجة إلى ترتيبات. تبدأ أولها بالفلوس، ثم تمر بتدبير تذاكر السفر، ثم التأشيرة لكثير من الدول التي تعاملنا بالمثل وفي أحيان كثيرة بأسوأ، هذا بخلاف ترتيبات أخرى مثل أماكن الزيارة. ولأن معظم أسفاري تتعلق بالعمل فإن البرنامج يشمل أيضا قضاء يوم أو قضاء أمسية أتعرف عليها على حضارات وأماكن وشعوب تشاركنا الإنسانية مثلما تشاركنا العولمة في اقتصادياتها وفي علومها وفنونها. وحيث أن مقصدي هذه المرة الهند، فإن ترتيباتي للسفر إليها لم تختلف كثيرا عن سفرات أخرى باستثناء إضافات جديدة جديرة بالذكر هنا، ولعل أهمها ثلاثة أمور؛ أولها، تم "خصخصة" خدمة التأشيرات "الفيزا" إلى الهند، بعدما كانت السفارة الهندية في الحي الدبلوماسي بالخوير تعج بمئات بل بآلاف الموطنين العمانيين والهنود وقليل من الجاليات الأخرى فقد اتجهت تلك السفارة إلى التعاقد مع شركة هندية تتولى إدارة تلك التأشيرات وبالتالي يقتصر دور السفارة على ختم الجوازات فقط. وهذه الخدمة المخصخصة قد سبقتها أيضا السفارة البريطانية التي تعاقدت مع شركة تتولى إدارة التأشيرات بشيء من الكفاءة والمهنية بعيدا عن بيروقراطية العمل الحكومي. لكن بالطبع لك شيء ثمنه. وهذا هو الأمر الثاني: ارتفعت سعر الخدمة بعدة ريالات، وتغير مقر إصدار التأشيرات، وكانت الخدمة المضافة للزبون هي وقت أقل للانتظار؛ تحصل على رسالة نصية باستلام المعاملة ورسالة نصية أخرى بأنها جاهزة للتسليم، وهذا النظام رائع في حد ذاته وإن كان أكثر تكلفة، فماذا لو طبقت الوزارات لدينا نظام إبلاغ المواطن بأن معاملته جاهزة عن طريق الرسائل النصية بدلا من التردد على الوزارات أو الاتصال بها ولا أحد يرد!!!


    أما الأمر الثالث فهو المتعلق بالأمن، وما أدراك ما الأمن، وحيث أن عملي هو في كثير من الأحيان يكون في داخل المطار (أو المجال الجوي كما نسميه)، يعني التفتيش على الطائرات وهي واقفة والصعود إليها فإن الأمر يعني أن أحصل على تصريح من سلطات المطار الأمنية لكي أتمكن من عبور البوابة الأمنية في ذلك المطار. والمعمول به في معظم مطارات العالم هو أن أرسل صورة من جواز سفري بالايميل إلى الجهة التي أتعامل معها وهي شركات الصيانة أو خطوط الطيران، وعندما أصل إلى تلك الدولة يكون "التصريح" لدخول الجانب الجوي للمطار جاهزا. في هذه المرة أبلغتني الشركة بأن الأمر سوف يستغرق أكثر من شهر للحصول على تصريح المطار، لكن الأغرب من ذلك فإن سلطات الأمن الهندية تطلب الحصول على تأشيرة قبل (45) يوما من موعد إصدار تصريح دخول المطار، ولذا فقد تطلب الأمر مني أن أتسلم التأشيرة التي تقدمت بطلب الحصول عليها في الأسبوع الأخير من شهر رمضان. كانت المفاجأة لي أن موعد استلام التأشيرة يقع بين الساعة السادسة والسابعة والنصف مساء فقط، وقد ذهبت في فترة النهار لاستلام التأشيرة لكنهم رفضوا وقيل لي بأنه يمكن أن أبعث أي شخص في تلك الفترة فردت عليهم بأن الكل سوف يكون في منزله يتناول الإفطار، وحيث أن تلك الفترة هي فترة الإفطار فقد اضطررت أن أخذ إفطاري معي في السيارة وانتظار آذان المغرب وتناوله وأنا في السيارة مستخدما الخط السريع في التوجه إلى مقر الشركة الكائن في الوادي الكبير في حين أقطن أنا في الموالح. قلت في نفسي: عملوها الهنود؛ خلوني أفطر في الشارع.


    يتبــــــــــــــع
    مدونتي الجديدة المستوحاة من غذاء العماني ماضيا وحاضرا

    http://www.tumoor.org/

    واتساب/هاتف: 99466953
    انستجرام: bindaris12
    كيك: bindaris
    تويتر: bindaris
    فيس بوك: https://www..com/ali.alzuwaidi.1

  • #2
    (2)


    يبدو أن مسألة الأمن أصبحت تقلق مضاجع الحكومة الهندية أيضا، ففي السابق كان الأمر يتطلب يوما واحدا فقط للحصول على تصريح لدخول المطار والتفتيش على الطائرات، أما في هذه المرة فقد قيل لي بأنه سوف يستغرق أكثر من شهر بل وربما (45) يوما. والمسألة الأمنية قد يكون لها مبرر في كثير من الدول خاصة مع تزايد الهجمات الإرهابية في بلادها، وخاصة مع أحداث الحادي عشر من سبتمبر منذ عشر سنوات في الولايات المتحدة، وخاصة ثالثا مع الأحداث الدامية التي يشهد لها العالم بشكل عام والهند بشكل خاص. وحتى بعدما وصلت إلى الهند فقد قيل لي بأن تصريحي لدخول المطار لم يكن جاهزا، لذلك اضطرت الشركة التي سأقوم بالتفتيش على مرافقها أن تستخدم طرقا أخرى لإقناع المسئولين عن أمن المطارات بمنحي تصريح لمدة يوم واحد فقط وبشق الأنفس. وقد قيل لي بأن التصريح يجب أن يتم الموافقة عليه من العاصمة نيودلهي قبل أن تستطيع السلطات في مومباي أن تمنحني ذلك التصريح مكتوبا، وعلمت أيضا أن الاستخبارات الهندية هي التي تعطي الضوء الأخضر لسلطات الأمن بالمطار في مومباي للموافقة، حيث يقومون بالبحث في قاعدة البيانات الخاصة للإرهابيين، وإذا وجدوا اسمي بينهم فالويل والويل لي، ولن أرى عمان مرة أخرى. وعندما نمى إلى علمي ذلك جلست أفكر لبرهة من الزمن: ماذا يوجد في قاعدة البيانات الاستخباراتية الهندية عني!! بالطبع لا شي، لذلك أتى الضوء الأخضر في اليوم الأخير.

    هذا الموقف الأمني المتشدد ذكرني بموقف آخر كان قد حصل لي، ولو لم أحسن التصرف آنذاك لكنت اليوم في جوانتنامو أواجه البطش الأمريكي بلا هوادة. وما حصل أنه بعد أسبوعين من هجمات الحادي والعشرين من سبتمبر فقد تقرر أن أكون من ضمن وفد يمثل الطيران المدني في منظمة الطيران المدني الدولي (الايكاو)، وهي إحدى الوكالات المتخصصة للأمم المتحدة مثل اليونسكو أو اليونسيف. وحيث أن مقرها في مدينة مونتريال بكندا فقد كان الموضوع مستعجلا واستطعنا إنهاء المعاملات من حيث الحصول على تأشيرة إلى الجمهورية الكندية وكذلك موافقة وزارة الخارجية العمانية للحصول على أوراق الاعتماد الدبلوماسية. كل ذلك تم في وقت قياسي. وكان المؤتمر أمر طارئ جدا لأن الإرهاب هذه المرة وصل إلى استخدام طائرات مدنية. كان مسار رحلتنا إلى كندا مع زملائي عبر القاهرة، حيث كان هناك أيضا اجتماع طارئ كون الولايات المتحدة قد هددت أفغانستان بشن الهجوم عليها، وحيث أن السلطنة ذو موقع استراتيجي في عالم الطيران فقد تم عقد الاجتماع الإقليمي في القاهرة لوضع خطط مؤقتة لمسار الحركة الجوية. وكنت قد حضرت ذلك الاجتماع مع زميل لي وحصلت في الاجتماع على بعض الخرائط الجوية التي تشير إلى تحويل مسار رحلات الطيران. لما أقلعت بنا الطائرة من القاهرة في طريقها إلى كندا فقد تفاجأنا بأن الرحلة غير مباشرة وأن عليها أن تمر عبر مدينة نيويورك وتنزل بعض الركاب ومن ثم تواصل رحلتها إلى مدينة مونتريال الكندية. أول ما هبطت الطائرة مطار "جي أف كي" الدولي فقد تفاجئنا بوجود جنود مسلحين يطلبون منا مغادرة الطائرة والتوجه إلى قاعة الانتظار، وفي العادة فإن مثل هذه الرحلات لا ينزل الراكب من الطائرة وإنما يبقى فيها مدة ساعة أو أقل لحين الانتهاء من الخدمات الأرضية، لكن هذه المرة وجدت نفسي محاصرا بجنود مسلحين، ولأول مرة أجد نفسي في وضع مربك كاد أن يقودني إلى جوانتنامو لولا أن حصل ما حصل، وسوف أرويه لكم في الجزء الثالث..


    يتبـــــــــع
    مدونتي الجديدة المستوحاة من غذاء العماني ماضيا وحاضرا

    http://www.tumoor.org/

    واتساب/هاتف: 99466953
    انستجرام: bindaris12
    كيك: bindaris
    تويتر: bindaris
    فيس بوك: https://www..com/ali.alzuwaidi.1

    تعليق


    • #3
      (3)

      بعدما قام الجنود المؤججون بالأسلحة بتجميعنا في مكان واحد تركونا لوحدنا، وقد اختلط ركاب درجة رجال الأعمال بركاب الدرجة السياحية. مرت ما يقارب من نصف ساعة قبل أن تأتي ممثلة عن شركة "مصر للطيران" لتبلغنا بأن الرحلة المتجهة إلى مونتريال قد تم تأجيلها عدة ساعات، وأنه علينا جمع حقائب السفر وذلك بعد التوجه إلى مناضد الجوازات. سمعا وطاعة. اتجهنا إلى تلك المناضد. جلس ضابط الأمن يقلب جواز سفري تارة من اليمين وتارة أخرى من اليسار. فالجوازات الصادرة باللغة العربية تربكهم كون الاتجاه مختلف. سألني ذلك الضابط بصوت خافت في المرة الأولى: أين تأشيرة الدخول (الفيزا) إلى الولايات المتحدة؟ قلت له: أنا لست قاصدا الولايات المتحدة وإنما إلى كندا. سألني مرة أخرى: ماذا تفعل إذن هنا أمامي؟ قلت له: لا أعلم، وإنما طلبت مني ممثلة شركة مصر للطيران أن آتي إلى هنا ومن ثم أذهب إلى استلام حقائبي. قال لي: لا بد أن تكون لديك تأشيرة لكي أجعلك تعبر من هذه البوابة. فقلت له أتفق معك في ذلك لكنني لا أود الدخول إلى الولايات المتحدة. دار بيننا سجال ثم صمت وقال لي انتظر. مرت حوالي ربع ساعة وأنا انتظر أمام منضد الجوازات. أتى بعد ذلك ضابط آخر وجلس يعيد لي نفس الأسئلة، وفي تلك اللحظات ورغم الإرهاق والتعب من الرحلة الطويلة إلى أنني تماسكت قليلا لكي لا أفرط في أعصابي وأخسر هدوئي وبالتالي يكون مصيري سجن المطار مباشرة خاصة مع توتر الناس بعد أحداث الحادي عشر التي لم يمض عليها سوى أسبوعين. كانت معي حقيبة صغيرة طلب مني ذلك الضابط أن أخرج كل ما فيها. كانت في البداية بعض الأوراق العادية الخاصة بالتحضير للمؤتمر الدولي المزمع عقده. فجأة وجد الضابط أوراقا فيها خرائط للخليج وبصفة خاصة لباكستان وأفغانستان. هنا امتعض الضابط وبدأ يكشر عن أنيابه وسألني سؤالا مفاجئا: هل سبق أن زرت أفغانستان وباكستان؟ كان كذلك بعدما أعلن جورج بوش أن "القاعدة" هي مسئولة عن الهجمات الإرهابية على الولايات المتحدة. وجدت نفسي في موقف حرج جدا، حيث أن أية كلمة أنطقها ولو على سبيل المزاح أو دون قصد فإنه يفسرها بشكل آخر ويدخلني من خلالها في دوامة مطولة من الأسئلة. ورغم مرور أكثر من عشر سنين على ذلك الموقف إلا أنني مازلت أتذكر الكثير من تفاصيله.

      ولعل أهم التفاصيل التي استرجع شريطها عندما أراد فجأة أن يحتجزني بعد إيماءة لشخص عسكري كان واقفا قريبا مني. عندئذ قررت أن أغير الإستراتيجية في الحديث، فقد شرحت له بشكل مبسط بأنني متجه إلى كندا في حضور مؤتمر عالمي لمكافح إرهاب الطيران وأننا ندين تلك الهجمات وأننا نعمل في إطار واحد وهو أمن وسلامة الركاب. لما سمع ذلك أومأ مرة أخرى للعسكري بأن يبتعد عني. عاد إلي نفسي الذي كاد أن يحتبس في القصبة الهوائية. بدأت معه من الصفر، قائلا له أنني مسافر أصلا من القاهرة إلى كندا دون أن أدري أن نيويورك هي محطة عبور لشركة مصر للطيران، وأن الخرائط التي وجدها بحوزتي هي لتحويل مسارات الطيران في حالة وجود حرب بالمنطقة، وأنني أمثل وفدا رسميا من حكومة سلطنة عمان. بالطبع وجدت صعوبة جدا أن أخبره عن السلطنة وعن موقعها الجغرافي، فهو وإن كانت ضابطا إلا أنه يجهل موقع بلادنا. جلست معه في حوار أكثر من ثلاث ساعات، وكان يجلس معي (10) دقائق ثم يغيب أكثر من نصف ساعة. تصادف في غيابه أن لاحظت أحد الركاب المصريين الذي كان معي في درجة رجال الأعمال، وبالطبع هو محتجز أيضا، لكن من حسن حظه أن أوراق اعتماده من وزير الخارجية المصري كانت مترجمة إلى اللغة الانجليزية في حين أوراقي أنا وزملائي الموقعة من قبل يوسف بن علوي عبداهائ كانت باللغة العربية. ومع ذلك لم ينته الأمر هناك، بل استمر التحقيق لساعات أخرى...


      يتبـــــــــع
      مدونتي الجديدة المستوحاة من غذاء العماني ماضيا وحاضرا

      http://www.tumoor.org/

      واتساب/هاتف: 99466953
      انستجرام: bindaris12
      كيك: bindaris
      تويتر: bindaris
      فيس بوك: https://www..com/ali.alzuwaidi.1

      تعليق


      • #4
        (4)


        كنت قد قدمت أوراق الاعتماد الموقعة من يوسف بن علوي وزير الدولة للشئون الخارجية لذلك الضابط عله يفهم موقفنا وأننا ذاهبون إلى مؤتمر دولي يناقش فيه أمن الطيران المدني، تجاهل تلك الرسالة قائلا أنه مثل "السبجاتي" كونه لا يفقه اللغة العربية. أما زميلنا المصري فقد كان أكثر حظا عندما قدم له أوراق اعتماده المترجمة إلى اللغة الانجليزية. كان زملائي العمانيين الآخرين قد تعرضوا لنفس الموقف وكانوا قد احتجزوا في مكان آخر، ولسبب ما وجدتهم أمامي فأخبرت الضابط بأننا مسافرون مع بعض. امتعض ذلك الضابط قليلا ثم ذهب بجواز سفري مرة أخرى، وعاد إليّ بعد ربع ساعة تقريبا. أخيرا تنفست الصعداء عندما قال الضابط لموظف الجوازات بأنه يمكن الحصول على تأشيرة مؤقتة. خرجت مع زملائي إلى حيث نتسلم الحقائب. بعد استلامها لم نكن نعرف أين نذهب فانتظرنا حتى أتت موظفة مصر للطيران وقالت لنا بأنه يتوجب علينا الخروج من القاعة الرئيسية ومن ثم التوجه إلى قاعة أخرى. تفاجأنا بأنه يتوجب علينا أن نمر عبر بوابة أخرى يتم فيها التفتيش. كان الأمر في البداية بالنسبة لي عاديا مع وجود التفتيش في معظم مطارات العالم، حيث يقوم المسافر بإدخال حقائبه في جهاز الأشعة السينية لتخرج بعد ثواني مع احتمال توقيف بعض الحقائب المشكوك فيها والتي قد تحمل مخدرات أو كتب ممنوعة في بعض الدول خاصة العربية منها. أما الشك فيقطعه اليقين، والشك أمر قد تدرب عليه موظفو المطارات الذي يراقبون المسافرين دون أن يشعر هؤلاء المسافرون بتلك المراقبة، وتتمثل المراقبة في حركة الشخص في بدنه وما إذا كان مرتبكا لأنه يحمل شيئا ممنوعا، أو متوترا، أو حتى يتلعثم عند الإجابة على بعض الأسئلة التي يطرحها بعض أفراد الأمن إذا ما شكوا في شخص معين. لذا يطلبوا من المسافر فتح حقائبه للتفتيش عليها حتى يقطعوا الشك باليقين.

        طلبوا مني فتح الحقائب، في البداية قاموا بإخراج ملابسي، ثم بدأوا بإخراج كافة الأشياء من الحقيبة، فوجدوا معجون الأسنان والشامبو ورغوة الحلاقة وسائل ما بعد الحلاقة "افتر شيف".. سألوني أسئلة "عبيطة": فيما تستخدم هذه الأشياء، فأجبتهم. يعني أيش بيكون معجون الأسنان والحلاقة؟ لم يقتنعوا لسبب أو آخر فقاموا بأخذي في غرفة أخرى وطلبوا مني أن أفرغ معجون الأسنان من قالبه. بالطبع المعجون يعرفه حتى الطفل وله رائحة معروفة. ثم طلبوا مني إفراغ الشامبو الخاص بالقشرة التي أعاني منها منذ سنوات، وسألوني أيضا: لماذا تستخدم هذا النوع من الشامبو بالذات؟ ثم وجدوا "الفازلين"، ونفس السؤال "البايخ" منهم: لماذا تستخدم هذا الفازلين. كانت أسئلة تحرق الأعصاب وترهق كاهل المسافر المتعب. ولأني قد سبق أن عشت وسطهم ثمان سنين فقد استطعت أن أتجاوب معهم بشيء من الحكمة خاصة مع وجود العساكر في كل مكان، وكأنهم ينتظرون مني أية زلة في اللسان أو سوء التصرف في أي جانب أو حتى "أعصب". لقد كان يوما عصيبا جدا بالنسبة لي، فقد استغرق الاستجواب أكثر من أربع ساعات بين جذب وشد، وبين إقناع وامتعاض وبين صبر وحلم، وبين استعباط وغباء من قبل الطرفين. وفي النهاية لم يجدوا شيئا يستطيعون من خلاله أن يقيدوا حريتي وإن كان التركيز كثيرا على وجود تلك الخرائط بحوزتي وعلى سبب عدم وجود تأشيرة دخول للولايات المتحدة. ولم أجد السعادة في تلك الرحلة إلى بعدما وجدت نفسي في أحد الفنادق بمونتريال أغط في سبات عميق وكأني من أهل الكهف!!!


        يتبـــــــــع
        مدونتي الجديدة المستوحاة من غذاء العماني ماضيا وحاضرا

        http://www.tumoor.org/

        واتساب/هاتف: 99466953
        انستجرام: bindaris12
        كيك: bindaris
        تويتر: bindaris
        فيس بوك: https://www..com/ali.alzuwaidi.1

        تعليق


        • #5
          (5)


          في الوقت الذي كنت أتابع فيه إجراءات سفري إلى الهند بدأ من حصولي على التأشيرة ومرورا بالحصول على التذكرة والفندق وإصدار قرار الإيفاد في المهمة الرسمية فإنني كنت مشغولا بما هو أهم من ذلك، إنه الحدث التاريخي الذي نجد فيه قانون المطبوعات والنشر وهو يتداول في المحاكم أول مرة، وهو الحدث الذي كان محصورا في قضية موظف بسيط يطالب بحق لطالما طالب به الكثيرون من الموظفين الذين ظلم بعضهم النظام الإداري للدولة فلجأووا إلى النظام القضائي الذي ينصفهم تارة، ويغض الطرف عنهم حقوقهم تارة أخرى. ولأنني كنت من ضمن المدونين لتلك الأحداث التاريخية أولا بأول فلم أرغب أن تكون جلسة النطق بالحكم وأنا خارج البلاد، وقد تصادفت الظروف أن أكون متواجدا قبل السفر ببضعة أيام، الأمر الذي يعني أن أشهد الحدث وأدونه لكوني قد وثقت بأن فضيلة القاضي سوف يستمع إلى صوت القانون الذي يؤمن بحرية التعبير عن الرأي ويدافع عن الضعيف قبل القوي، وعن الغفير قبل الوزير وعن الفقير قبل الميسور وليس إلى صوت القانون الذي تم تطويعه وتكييفه ليتناسب شكلا ومضمونا ما أراد به الإدعاء العام. عليه كان حضوري في اليوم الأخير للمحاكمة باكرا، وكنت قد دخلت هذه المرة صالة الانتظار لأجد ثمة أشخاص قد حضروا لقضايا أخرى، لكن سرعان ما تبددت وحدتي بدخول عشرات الأشخاص دفعة واحدة. فالموظف "هارون" قد لبس المصر الأخضر ربما لأنه تأمل كثير في الحكم المنصف لقضيته التي حولته من شخص يطالب الحق إلى شخص يطالب البراءة. ومع ابتسامة هارون رافقت يوسف الحاج ابتسامة أخرى لكني أحسست وكأنه يصطنع تلك الابتسامة ربما لأن كوابيس الليلة المنصرمة وهو يفكر فيها مع رفيقة دربه بأن القادم هو أسوأ، خاصة أنه اجتمع في تلك الليلة وحتى وقت متأخر يتجاذب أطراف الحديث مع المحامي ومع صاحبه وأخيه "العود" الأستاذ إبراهيم المعمري، فالمحامي قد وضع أسوأ الاحتمالات أيضا: صدور سجن مدة شهر مع وقف التنفيذ، ومع غرامة لا تتعدى الـ(500) ريال. كما تصادف في تلك القاعة وجود محامين آخرين عرفت بعضهم وقد أكدوا تقريبا نفس الاحتمالات، لا براءة وإنما إدانة بسيطة من خلال معرفتهم بأحكام ذلك القاضي بالذات والذي خصصته وزارة العدل في الحكم في قضايا الرأي العام مثل قضية سعيد الراشدي وقضية الأستاذة طيبة المعولية؛ يعني هذا القاضي سوف يحكم بالإدانة البسيطة، كما حصل لي في قضيتي. ومع ذلك فقد نظر الجميع إلى الكوب على أن النصف الآخر هو ممتلئ وليس فارغ، فتفاءلوا بالحكم، وسرعان ما سادت فرحة وبهجة أسعدت الجميع خاصة مع فتح باب قاعة المحكمة بعد بضع دقائق من مرور عقارب الساعة على مؤشر التاسعة صباحا.

          ها هو ذات الشخص ينادي بكلمة "محكمة" بصوت عالي يتبعها مباشرة دخول القاضي ليسلم على الحاضرين ويطلب منهم الجلوس، يسود القاعة صمت عندما ينادي المنادي بالقضية الأولى لتكون قضية الحاج والمعمري والمقيبلي هي الأولى في صباح ذلك اليوم الأخير من العمل الحكومي. يتوجه "المتهمون" إلى المنصة الصغيرة التي سبق أن ذهبوا إليها أربع مرات، واعتقدوا أنها سوف تكون الأخيرة. كان الحاضرون هذه المرة هم الأكثر عددا، ولأول مرة لا يجدون كراسي فسمح لهم ذلك الشرطي الطيب في ملامحه أن يبقى بعضهم واقفا قائلا في نفسه أن ذلك الموقف لن يتكرر ولن يطول أصلا، كما كان للمرأة نصيب من الحضور الذي لا يتكرر كثيرا في محاكمنا. بعدما طلب من القاضي من الكاتب تثبيت الحضور فقد نطق وكأنه نفسه يسارع البرق بالحكم الذي أخرس الحاضرين وألجم أفواههم بل وصدمهم وصدم كل من حضر سواء كان محاميا أو رجلا أو امرأة أو كهلا أو شابا. يقول أحدهم كما قلت أنا: كأني سمعت القاضي يقول خمسة أشهر سجن وخمسة ريالات غرامة؟ هل هي خمسة أيام وخمسة ريالات أم ماذا؟ آخر كاد صوته يتوقف في حنجرته وهو يرد على الأول قائلا له بأن القاضي قال بخمسة أشهر سجن وبخمسة ريالات غرامة وبشهر غلق لجريدة الزمن. لقد كانت في خارج تلك القاعة "ربشة" تحولت إلى صمت، ثم تحولت إلى استهجان، ثم تحولت إلى استنكار، ثم تحولت إلى تنديد، ثم تحولت إلى اعتصام، ثم تحولت إلى أخبار وصلت بسرعة البرق إلى المواقع والمنتديات العمانية، ثم تحولت إلى وكالات الأنباء العالمية لتنقل حكم القاضي الذي استنكره الغالبية وإن كان بعض المطبلين والمنتفعين والمقربين من الوزير قد هللوا وكبروا.... كنت قد أردت أن أنقل الحدث إلى حيث كتبت وقائعه السابقة لكن لساني قد لجم وفكري قد جمد وقلمي قد سكت، لم أستطع أن أكتب أي مقال ذلك اليوم، لأنني لم أستوعب الحدث مطلقا. تركت الآخرين يشمتون لحين من الدهر، وتركت القلة أن تسخر وتضحك لبرهة من الزمن. فمن يضحك كثيرا يضحك أخيرا. لقد فرح هؤلاء الشامتون، وأشادوا بالقضاء العماني الذي رضخ للوزير وللادعاء العام في وقت تستنكر فيه العقول النيرة مثل ذلك الحكم. بل إن تلكم الشامتين قد عينوا محاميا يدافع عن الحكم في المنتديات العمانية ليمط القانون وفق هواهم وليبدل الحق بالباطل، وليدحض مداولات ومرافعات محامي الدفاع في وقت سابق، وكأن ذلك المحامي يقول لنا بأنه هو الأقدر على استيعاب القانون الذي اعتبر ثلاث كلمات وهي "المماطلة والتسويف والخداع" إهانة في حق وزير سبق أن طالبه موظفوه بإقالته أثناء الاعتصامات، وها هو نفس الوزير ينتصر مرة أخرى بعدما انتصر في جولة الاعتصامات. لقد انتصر الباطل على الحق هذه المرة، وانتصر الوزير على الفقير، لكن الزمن كوقت لن يتوقف والزمن كجريدة خرجت أقوى وظلت تنشر كافة الحقائق، وسرعان ما وجد الادعاء العام نفسه يصارع الرأي العام فوجه جرائده المفضلة لديه وهي الشبيبة والوطن وعمان لتنشر بيانه بالخطوط العريضة، وبالكلمات المكبرة التي يستطيع الأعور أن يقرأها، وكأنه يقول أنه هو صاحب الحق، وليخرج وكيل العدل قائلا للشاب البسيط خطبة رنانة من خطبه التي تعود على إلقائها منذ أن كان محاضرا للشئون الإسلامية قبل أن يكون وكيل وزارة ولينكر فيها اتصال الوزير ولينكر فيها قيامه برفع قضية. فهل كان ذلك الانتصار نصرا أبديا أم أنه نصر سرعان ما يتلاشى مع أحكام قضاة أكثر عدلا؟



          يتبــــــــــــــــع
          مدونتي الجديدة المستوحاة من غذاء العماني ماضيا وحاضرا

          http://www.tumoor.org/

          واتساب/هاتف: 99466953
          انستجرام: bindaris12
          كيك: bindaris
          تويتر: bindaris
          فيس بوك: https://www..com/ali.alzuwaidi.1

          تعليق


          • #6
            (6)


            في مساء ذلك اليوم الذي صدر فيه الحكم كان هناك تواصل مع جريدة الزمن لكتابة مقال حول ما حصل، كنت قد أبلغتهم بأنني لا أود الكتابة في أية جريدة محلية لأنها لن تنشر ما أكتبه في المنتديات بسبب قانون المطبوعات النشر الهالك والبائد والذي انتقده بشدة منذ أمد طويل، لكنني حصلت على الضوء الأخضر بأنه سوف يتم كل ما أكتبه وبدون تحفظ، ولأنني أمارس الرقابة الذاتية وأعرف الخطوط الحمراء جيدا فقد كتبت المقال وأرسلته بالايميل ليتم نشره في اليوم التالي بحذافيره. بالطبع المقال لم يعجب البعض الذي مازال يمجد وزير العدل الذي طالبت بإقالته كما طالبت بإقالة وزير الأعلام أيضا. وهناك من اتصل بي محذرا بأن أي من هذين الوزيرين سوف يرفع قضية ضدي وسوف أجد نفسي في أروقة الادعاء العام مرة أخرى. فقلت له: فليتفضل، فسوف أذهب للتحقيق وسوف أذهب إلى المحكمة إذا تطلب الأمر، وحتى إلى السجن، ولكن بعد ذلك كله سوف أعود للكتابة طالما أن القدر لم يقل كلمته في روحي وجسدي..

            مرة أيام أخرى أحاول أن أستوعب ما قد حصل، وكلما كتبت مقالا فسرعان ما أرميه في سلة مهملات الحاسب الآلي لأن فكري كان مشتتا، ولم أكن أستطع أن أضع النقاط على الحروف. لذا اكتفيت بالصمت ومتابعة الشماتة إلى أن حان موعد السفر. كانت خطوط الطيران الهندية الخاصة قد وفرت لي تذاكر السفر، وقيل لي بأنه سوف يستقبلني أحد المهندسين عند وصول الطائرة، ما أزعجني في الرحلة أن وقت الإقلاع من مسقط كان متأخرا، ونظرا لأن الرحلة قصيرة أيضا فكان وقت الوصول مبكرا جدا، وبالتالي بالكاد نمت ساعة واحدة في تلك الرحلة، ولذا فقد خلدت طويلا إلى النوم بعد وصولي إلى الفندق الذي لا أتذكر تفاصيله وأنا مرهق. كل ما أتذكره أن بعد وصولي المطار فقد أتى المهندس وساعدني في إنهاء كافة أمور الجوازات، ومن ثم توجه بي إلى حيث تنتظرني سيارة خاصة أوصلتني للفندق، والذي بدوره أوفد شخصا استقبلني عند بوابته وقادني إلى غرفة النوم مباشرة على أن يتم إنهاء معاملة تسجيل الغرفة في الغرفة نفسها. شيء رائع جدا أبهرني رغم عدم تركيزي في الأمر، ففي الوقت الذي يجد المسافر نفسه أمام سلسلة طويلة من الطوابير في المطارات ومن ثم أمام سيارات الأجرة ومن ثم لدى منضد الاستقبال في الفندق فإنني لم أمر بذلك مطلقا. هل هو الحظ؟ أم طبيعة عملي؟ أم طبيعة معاملة الفنادق ذات الخمسة نجوم التي تريح الضيف في جسده ونفسه وإن كانت ترهقه في جيبه ومحفظته؟ كانت تدار في بالي عدة سجالات والتي من بينها أن الهند الضخمة العدد في سكانها، والتي من بينها مدينة مومباي إنما سوف تجعلني أقف في طوابير طويلة ابتداء من المطارات خاصة أنني سبق أن لاحظت أن "الهنود" لا يعرفون معنى الانضباط والوقوف في صف وإنما يحبون أن تتلاحم أجسادهم ببعضها البعض لدرجة "القرف"، فشخصيا لا أريد أن يلتصق جسدي بشخص أعرفه أو لا أعرفه، فهناك "الحيز الشخصي" لكل فرد منا والذي يجب أن يظل في المسافة الفاصلة بيننا وبين الآخرين حتى ولو كان الأمر يتعلق بطابور أو صف في مكان عام. ومن يلاحظ طبيعة الهنود فسوف يدرك كيف أن هؤلاء يجهلون أبسط قواعد الحيز الشخصي، فليس لديهم مانع من "المداعصة" أو تخطي الصف، لكن مع وجود نظام الطابور الالكتروني التي أدخلته شرطة عمان السلطانية في الأحوال المدنية والذي يتمثل في وجود رقم للانتظار والجلوس في قاعة إلى أن يتم مناداة الرقم إنما هو نظام جيد أبعد أجسادنا عن الاحتكاك بأجساد الهنود، وإن كانت بعض الأماكن ليس فيها ذلك النظام وبالتالي نضطر إلى الاحتكاك بهم.


            يتبــــــــــــع
            مدونتي الجديدة المستوحاة من غذاء العماني ماضيا وحاضرا

            http://www.tumoor.org/

            واتساب/هاتف: 99466953
            انستجرام: bindaris12
            كيك: bindaris
            تويتر: bindaris
            فيس بوك: https://www..com/ali.alzuwaidi.1

            تعليق


            • #7
              (7)


              اليوم التالي كان استراحة بعد عناء ليلة تقلصت فيها ساعات النوم إلى الحد الأدنى. بعد أخذ قسط طويل من الراحة قررت التوجه إلى بعض الأماكن القريبة من الفندق. كانت "الركشة" هي أول ما صادفتني بعدما تخلصت من إزعاج أصحاب سيارات الأجرة، حيث لم أكد أتحرك قليلا إلا وتصطف أمامي عشرات "الركشات" يريدني سائقوها أن استقلها، أردت اختبار أسعارها فوجدتها – كالعادة – بسعر خاص للسائحين، بالطبع ذلك السعر هو مضاعف وإن كان قابل للتفاوض لكن ليس كثيرا. كنت قد استخدمت هذا النوع من المواصلات ليس بسبب رخصه وحسب ولكنه وسيلة سريعة وفعالة وتستطيع أن تتخلص من زحمة السير التي تكاد تتحرك بسرعة تزيد على الصفر قليلا. فسائق الركشة قادر على اختراق جيوب المسافة الصغيرة الفاصلة جدا بين كل سيارة وسيارة، فضلا على قدرته على المناورة بكل سهولة نظرا لصغر حجم تلك العربة التي تقل ثلاثة ركاب بكل أريحية. ويستطيع الراكب أن يتمتع بجو مومباي الرائع في أدخنته التي تلوث المكان في كثير من المناطق. لكن متى أصبح الجو صافيا ونقيا فإن المنظر يظل رائعا، والتجربة تظل فريدة من نوعها.. والركشة منتشرة ليست فقط في الهند وإنما في بانكوك أيضا. وتتكاد تجد تشابها منقطع النظير سواء في حركة السائقين أو حتى في أسلوب التعامل معهم و"مجادلتهم" في الأسعار إن كنت قد سبق أن استخدمت تلك الوسيلة. لكن إذا كانت التجربة الأولى لك فسوف تدفع سعرا يقارب سعر سيارة الأجرة "التاكسي"..وربما لو أدخلت الركشة في السلطنة لوجدت زبائنها وإن كانوا قلة لأن الجو الحار من ناحية وتصرفات بعض السائقين من ناحية أخرى توحي بأنه لن يكون هناك إقبال كثير عليها..

              كان منظر قد لفت نظري كثيرا وهي مشاهدتي لرجل يبحث عن شيء ما في القمامة "درام الكشرة"، ونظرا لتوقف الركشة عند إشارة المرور فقد مسكت الهاتف النقال ألتقط الصورة المؤلمة من ناحية خاصة عندما شاهدت قطا بالقرب من ذلك الرجل المسكين وهو يبحث أيضا عن شيء يأكله. فقد تساوى الحيوان الباحث عن الأكل مع الإنسان الباحث عن الأكل أيضا. تذكرت نظرية "ابراهام ماسلو" والتي يقول فيها بأن الإنسان يبحث في أدنى سلم احتياجاته عن المأكل والمشرب والمأوى. وها هو الهندي المسكين يبحث عن فضلات طعام قد يكون متعفنا أو عطبا أو مهترئا ليسد رمقه أو ربما رمق أولاده. إنه منظر سبق أن شاهدته أيضا في بلادي الحبيبة، وشاهدته أيضا في "كنشاسا" بأوغندا وفي "كولومبو" بسيرلانكا، وفي مدن أخرى من هذا العالم الذي يتفاخر بعض مواطنيه في عمل أكبر "كبسة" في العالم ليدخل موسوعة "جينس" للأرقام القياسية، في حين ينام ذلك الفقير بمعدة خاوية. وبعدما تركت ذلك المشهد الفظيع من تحطيم الإنسانية في أدنى معانيها أشاهد سيارة فخمة كانت على مقربة مني وكانت تحمل علامة "الجاكوار" في مقدمتها وسائقها يحاول اختراق المرور وهو يتباهى بسيارة لن يستطيع كافة أفراد أسرة السائق شرائها، وبداخل تلك السيارة شخص بدا عليه الثراء في لبسه وهندامه، كما بدا عليه الغطرسة في الإيماءات المفتعلة التي توحي باحتقاره لذلك المنظر الذي طاف عليه وهو يرى أحد من بني جلدته يبحث عن قوت حقير في مزبلة تتناثر هنا وهناك.. لم يدم المشهد طويلا عندما تحرك بي سائق الركشة ليذكرني بأيام الطفولة التي أشهدنا فيها "سعيد بن تيمور" حالات لم تكن أقل مذلة ومهانة بل فقر وجهل ومرض وتخلف. تلك أيام قد خلت أكلنا فيها من "درام الكشرة" لكن الحال قد تغير فصرنا في نعمة بفضل قائد ملهم فضل أن يكون حبيس منزل أبيه ليصر على تغيير أحوال رعيته. لكن التاريخ سرعان ما يتغير، وسرعان ما يعيد ذلك التاريخ نفسه، فقد تغير الحال إلى الأفضل ولأكثر من ثلاثة عقود، لكن العقد الأخير بدأ يشهد عودة إلى ذلك التاريخ... فماذا يخبئ لنا القدر في تاريخه؟


              يتبــــــــــــــــــع
              مدونتي الجديدة المستوحاة من غذاء العماني ماضيا وحاضرا

              http://www.tumoor.org/

              واتساب/هاتف: 99466953
              انستجرام: bindaris12
              كيك: bindaris
              تويتر: bindaris
              فيس بوك: https://www..com/ali.alzuwaidi.1

              تعليق


              • #8
                (8)


                من المناظر اللافتة في الهند عشرات "البوسترات" العملاقة التي تحمل صور المرشحين للانتخابات، تلك البوسترات وحتى الصغيرة منها والمكتوبة بأكثر من لغة تجد فيها برامج انتخابية أيضا، وحيث أن الهند هي أكبر الدول الديموقراطية في العالم من حيث السكان وعدد الأحزاب فإنه لا غرابة أن تجد صور المرشحين والناخبين في كل شارع وفي كل زقة وفي كل زنجة في المدن والقرى والضواحي. وتلك الصور تتغاير وتتشابه بين الشباب وكبار السن وبين القرويين والحضر وبين المعروفين من رجال الأعمال وبين العاملين "الغلابة" الذين تدل صورهم على وضعهم المزدري خاصة لما تتواجد في ضواحي بسيطة تشير إلى علامات الفقر المدقع في تلك الضواحي. ومن بين آلاف الصور رأيت صورة "سونيا غاندي".. تذكرت تلك الشخصية التي ارتبطت بـ"راجيف غاندي" الذي تم اغتياله عام 1991 وسط انفجار شديد، وكان راجيف أصغر رئيس للوزراء الهنود، ولم يتجاوز عمره الأربعين، لكن مصيره كان مثل مصير والدته "انديرا غاندي" الذي اغتالها من عارض سياستها، وهو نفس المصير الذي لقاه "المهاتما غاندي" عام 1947 نظرا لموقفه في احتواء الأزمة الهندوسية - الإسلامية آنذاك. لقد كانت الشوارع الهندية تعبر عن ديموقراطية في ظاهرها الانتخابات الحرة، لكن يشوبها بل يصاحبها القتل والفساد والتصفيات، ففي حين يفوز هذا وذلك في الانتخابات فإن المصادمات العنيفة تؤدي دوما إلى إزهاق أرواح عشرات بل مئات المتظاهرين والمناصرين أو المعارضين لهذا الحزب أو ذلك. إنها ضريبة تدفعها الهند في سبيل أن تحقق الانتصار الشعبي في الديموقراطية.

                وعودة إلى "سونيا غاندي" فقد كثر أيضا معارضوها، وكانت قد رفضت تماما أن تدخل السياسة الهندية التي تتسم بالاغتيالات الواحدة تلو الأخرى خاصة في العائلة "الغاندية" ابتداء من المهاتما وانديرا وراجيف وسنجاي الذين اغتيلوا جميعا. وهي في الأصل لم تكن من تلك العائلة لكن القدر هو الذي صنع لها الطريق الوعر عندما قابلت شابا وسيما عام 1965 يدعي "راجيف" وذلك في مطعم يوناني بكامبريدج كانت تعمل فيه كنادلة "جرسونة"، فقد خفق قلبها لذلك الشباب الذي كان يدرس في واحدة من أشهر الجامعات البريطانية، في حين كانت هي تشق طريقها للحياة بعدما أرادت أن تنتشل نفسها من الفقر في تلك القرية الايطالية "لويزيانا" لتتجه إلى بريطانيا حيث تعمل وتدرس في نفس الوقت. وعندما يعود الزوجان الهندي والايطالية إلى الهند يجد "راجيف" أن عالم الطيران هو الذي استهواه، فأصبح طيارا في الخطوط الهندية وكان بعيدا عن السياسة الهندية، لكن وفاة أخيه "سنجاي" في حادث طائرة قيل أنه مدبر كونه مشتغلا بالسياسة أيضا فقد وجد راجيف نفسه ينضم إلى الحزب الوطني الهندي. ومع بروز راجيف الشاب الذي أتى بسياسات جديدة ودماء شابة لم تعجب المحافظين في السياسة الهندية فبين ليلة وضحاها تبدد جسد راجيف في الهواء جراء انفجار عنيف، لترتعد فرائض سونيا التي أحبت ذلك الرجل فلبست لبسه وأكلت أكله وشربت مشربه، وتخلت عن هويتها الايطالية لتصبح امرأة هندية في شكلها وفي كلامها وفي فكرها وفي سياساتها، ومع ذلك فقد رفضت فكرة السياسة إلا بعد إلحاح من حزب زوجها الراحل، أي أنها لم تدخل عالم السياسة إلا بعد ستة سنوات من اغتيال زوجها، فأصبحت رئيسة الحزب الوطني الهندي منذ عام 1997، وتم انتخابها أربع مرة كأول شخص يتم إعادة انتخابه بذلك العدد. كما أن شخصية "سونيا غاندي" جعلتها تكون ثالث أقوى النساء في العالم قوة بحسب استقصاء مجلة "فوربس" الأمريكية عام 2004 والسادسة عام 2007، وأيضا صنفتها مجلة "تايم" كواحدة من أقوى الشخصيات تأثيرا في العالم عامي 2007 و2008م، ولذا فإن الشعب الهندي قد يرشحها أيضا للمرة الخامسة رغم أنها لم تكن هندية الميلاد في الأصل..



                يتبــــــــــع
                مدونتي الجديدة المستوحاة من غذاء العماني ماضيا وحاضرا

                http://www.tumoor.org/

                واتساب/هاتف: 99466953
                انستجرام: bindaris12
                كيك: bindaris
                تويتر: bindaris
                فيس بوك: https://www..com/ali.alzuwaidi.1

                تعليق


                • #9
                  (9)


                  في ذلك الشارع الذي يتسع مرات ويضيق مرات أخرى تنتشر "الأصنام" في كل مكان. كمسلمين، فهي أصنام يعبدها البشر ليتقربوا من الخالق زلفى، وكهنود فهي "بوذا" تتواجد أينما حل "البوذي" ليس فقط في الهند وإنما في كافة الدول التي تعتنق البوذية كمذهب له طقوسه وعاداته، وبالطبع هناك أصنام لمذاهب أخرى مثل الهندوسية والسيخية، وكلها تصنع الأصنام وتعبدها. عندما ترى تلك الأصنام في الشارع فإنك تحمد الخالق عز وجل أن جعلك مسلما تعبده وتسبحه من دون وسيط حجري أصم صنعه شخص آخر يتقن فن النحت والنقش في الحجر أو في المعادن.. يتأمل المسلم وربما يتأمل المسيحي وحتى اليهودي وهو يجد فردا يركع أمام صنم، أو على الأقل يلقي له التحية وينحني مقدما له الزهور الصفراء ومتمتما بعبارات يقرؤها سرا وعلانية وهو يطوف على ذلك "التمثال" الحجري الذي يتواجد في كل مكان. وربما تكون تلك عادة وليست عبادة كما سماها يوما محمد بن سيف الرحبي في روايته "بوابات المدينة" عن الذين يصلون صلاة العادة لكن الدنيا تأخذهم إلى ملاهيها وملذاتها بعد الصلاة وحتى قبلها. ولا يقتصر الأمر على صلاة المارين على تلك التماثيل أو الأصنام وإنما يتعدى الأمر تقديم أكاليل الزهور التي قد تكلف العامل الهندي راتب يوم كامل يقدمه قربانا لذلك الصنم، كما يتم تقديم بعض المأكولات والمشروبات لها مثل النارجيل وحتى الفراولة، فتجد زجاجة الفراولة وقد تم فتحها وبها قشة للشرب، وكأن ذلك الصنم الجامد الأصم سوف يفرغ ذلك الشراب في جوفه الصلب، إنها نعمة العقل!!!

                  ومن يتتبع حركة البوذية والتي بدأت بميلاد "جواتاما بودا" في السنة الـ582 تقريبا قبل الميلاد في الهند أو النيبال بحسب بعض الروايات فإنه يجد أن ذلك المذهب قد انتشر في وقت كانت المسيحية، ومن ثم الإسلام بعيدان عن تلك الأراضي، كما انتشرت معه أو بعده الهندوسية والسيخية أيضا، ورغم دخول الدين المسيحي التبشيري خاصة إلا أنه لم يستطع أن ينتشر كانتشار البوذية في الدول المجاورة التي تضمنت الصين واليابان وهونج كونج وكوريا، وفيتنام، وغيرها من الدول. كما أن الدين الإسلامي الحنيف وإن كان قد انتشر بسرعة في تلك الدول لكن بسبب الرقعة الجغرافية الضخمة في تلك الدول فقد بقي محدودا وفي نطاقات معينة وإن كانت قد ضمنت ذكر اسم الله في كل مدينة تقريبا من المدن الآسيوية التي يذكر فيها اسم الله ليل نهار. ولعل الزائر إلى الدول التي تدين بالبوذية والسيخية والهندوسية وحتى "الجاينية" يجد أن ملايين الدولارات يتم صرفها في بناء المعابد الخاصة بهم، فضلا عن أصنامهم، ولعل أكبر صنم لبوذا هو الذي تم افتتاحه عام 1993 في هونج كونج بطول 34 مترا ووزن 250 طنا في جزيرة "لانتاو" في هونج كونج ويسمى "تيان تان"، فضلا عن وجود أصنام عملاقة للبوذية والسيخية والهندوسية حتى في الدول الأخرى التي تدين بالإسلام دينا حنيفا مثل ماليزيا واندونيسيا التي يتعايش فيها المسلمون مع أصحاب الديانات الأخرى. ومع ذلك فإن المناوشات بل الحروب الدامية خاصة في الهند قد شنت في سبيل الدفاع عن تلك الأصنام، ولعل أكثر البشر قد عانوا من الاضطهاد الديني هم المسلمون خاصة من قبل السيخ المتطرفين وهم يحرقون ويذبحون المسلمون تذبيحا، وليس الأمر ببعيد (حادثة جوراجات عام 2002). فالصنم والبقر مقدس لدى هؤلاء ومستعدون أن يذبحوا المسلم إذا تعدى على بقرة يأكلون لحمها حلالا، ولهذا فلن تجد لحم البقر وهو يباع في البقالات ولدى الجزارين.



                  يتبـــــــــــع
                  مدونتي الجديدة المستوحاة من غذاء العماني ماضيا وحاضرا

                  http://www.tumoor.org/

                  واتساب/هاتف: 99466953
                  انستجرام: bindaris12
                  كيك: bindaris
                  تويتر: bindaris
                  فيس بوك: https://www..com/ali.alzuwaidi.1

                  تعليق


                  • #10
                    (10)

                    ليست مومباي هي المدينة الوحيدة التي زرتها والتي لم أجد فيها أي حادث رغم الازدحام غير المعقول وغير المحتمل، ففي هذه المدينة، وبحسب الاحصاءات المنشورة في موقع "شبكة مومباي للبيئة الاجتماعية"، فإن عدد المركبات في شوارع تلك المدينة يتجاوز ثلاثة ملايين ونصف المليون مركبة موزعة بين الحافلات والدراجات النارية والسيارات الخاصة والشاحنات، أما موقع Daily News and Analysis فإنه يذكر بأن الحوادث التي تجاوز عددها عام 2010 إنما يتوفى فيها شخص واحد يوميا و13 آخرون يتعرضون للإصابات على الرغم من وقوع أكثر من 23 ألف حادث في ذلك العام. وتعزو تلك الشبكة في صفحتها على الإنترنت إلى أن أسباب حوادث الطرق تتمثل في ضعف شبكة الطرق وعدم الالتزام بالسرعة المحددة وزيادة في استهلاك الكحول والعادات السيئة وعدم استخدام خوذة الراس بالنسبة لسائقي الدراجات النارية وعدم ربط حزام الأمان وعدم استخدام مقاعد خاصة للأطفال بالسيارات.

                    ومقارنة مدينة مومباي بالسلطنة بأكملها فإننا نجد الفرق الهائل بين الاثنين رغم وجود عشرات الالاف من الهنود لدينا وهم يقودون المركبات بمختلف أنواعها، فالهندي يقود المرسيدس والكزس كما يقود الكورولا والسيفيك، وهو بلا شك يساهم في وقوع المزيد من الحوادث في شوارعنا، بل أنه من الفكر السائد أن الهنود أكثر تسببا للحوادث، وأن على المواطن أن يتجنب السير وراء سائق هندي يقود سيارته ببطء السلحفاة. والإحصاءات من موقع الإدارة العامة لشرطة عمان السلطانية تشير إلى وفاة أكثر من ألف شخص وإصابة ما يقارب من الأحد عشر ألف آخر في أكثر من سبعة آلاف حادث العام المنصرم، وعلى الرغم من أن المركبات المسجلة في السلطنة لا تتجاوز النصف مليون مركبة إلا أنها تفتك سنويا بمئات المواطنين والمقيمين. وإذا أخذنا في المتوسط أنه يتم دفن (500) مواطن جراء حوادث السير في كل عام فإننا سوف نجد وفي خلال ثلاثة عقود فقط (أي 30 سنة) أن الوطن الغالي خسر أكثر من (15) ألف مواطن راحت روحه وجسده جراء تلك الحوادث.

                    إن المراقب لحوادث المرور في السلطنة – وفي دول أخرى – يدرك الخسائر الاقتصادية لتلك الحوادث، بجانب الخسائر الاجتماعية أيضا. وهناك العديد من الدراسات التي أجريت في هذا الجانب، منها على سبيل المثال ما قام بها الدكتور يعقوب بن محمد الوائلي بعنوان "التكلفة الاقتصادية للحوادث المرورية" والتي يقول فيها "... وتتنوع التكاليف الاقتصادية للحوادث المرورية المتصلة بالعنصر البشري لتشمل ما تتحمله الدولة أو الأسرة من نفقات علاج وإعادة تأهيل. ويمتد نطاق تلك التكاليف لتشمل نفقات التعليم والتدريب والصحة طوال حياة الفرد والتي تذهب سدى بموته خاصة وأن أكثر ضحايا تلك الحوادث هم من فئة الشباب القادرة على الإنتاج. كما يرى البعض الآخر أن تكاليف ساعات العمل المفقودة وتكاليف أجهزة الدولة المختلفة ذات الصلة بالحوادث المرورية كالشرطة والإدعاء والقضاء يجب أن تحتسب ضمن التكاليف الاقتصادية. إضافة إلى ما سبق فإن فقدان دخل المتوفى وانعكاسات ذلك على من يُعيل كالأمراض النفسية وضعف الرعاية وما ينجم عنها من سلبيات مباشرة وغير مباشرة تمثل بُعدا آخر – وأي بُعد - للتكاليف الاقتصادية للحوادث المرورية والتي قد لا تستطيع الأرقام أن تعبر عن حجمها وعمقها وأبعادها. وتتضاعف المأساة حينما يكون المتوفى العائل الوحيد للأسرة. ويبدو مما سبق أن تقدير التكاليف الاقتصادية للعنصر البشري الناجمة عن الحوادث المرورية أمر بالغ الصعوبة والتعقيد ولا يمكن مقارنة ذلك بالخسائر في الممتلكات".


                    ودراسة أخرى لكل من الدكتور حسين الجزائري، الدكتور هشام السيد، الدكتور سيد جعفر حسين، والدكتورة هالة إبراهيم صقر بعنوان "السلامة على الطرق: عواقب التجاهل"، وإن كانت تلك الدراسة التي أشرفت عليها منظمة الصحة العالمية ذات طابع عالمي في بعض الجوانب وإقليمي في جوانب أخرى إلا أنها تخلص إلى نفس الملاحظات التي يعرفها الجميع والتي تتلخص في وجود تكلفة إقتصادية باهضة الثمن. كما أنه يمكن إضافة على ما تقدم التكلفة غير المباشرة المتمثلة في الانتاجية التي تضيع هباء منثورا في حالة وفاة أو إصابة الموظفين الذين تكون الدولة قد أنفقت عليها الكثير في تدريبهم وتأهيلهم، فهم ينقطعون عن العمل بشكل مؤقت أو دائم، والبديل يكون التعيين والتأهيل من جديد في حالة الوفاة أو الإصابة الدائمة أو التكليف بموظف آخر في حالة الاصابة المؤقتة. ورغم وجود التشدد في التشريع مثل الغرامات وعقوبات السجن إلا أن فعاليتها لم تقلل من تلك الحوادث التي تزداد يوما بعد يوم..


                    يتبـــــــــــــــــع
                    مدونتي الجديدة المستوحاة من غذاء العماني ماضيا وحاضرا

                    http://www.tumoor.org/

                    واتساب/هاتف: 99466953
                    انستجرام: bindaris12
                    كيك: bindaris
                    تويتر: bindaris
                    فيس بوك: https://www..com/ali.alzuwaidi.1

                    تعليق


                    • #11
                      (11)


                      رغم المساحات الشاسعة والممتدة بشوارعها الطويلة إلا أنك قلما تشاهدها "فاضية" أو بدون وجود مئات الآلاف من الأشخاص وهم يتجلون باعة تارة ومشترين تارة أخرى، وعاطلين تارة ثالثة، ومتنزهين تارة رابعة. كما أن ملابسهم الزاهية بألوانها الحمراء والصفراء والزرقاء تجذب المتجول القابع في سيارته وهم يشاهد أطنانا من تلك الملابس سواء كانت رثة أو غالية الثمن. كما أنها تتنوع في تطريزها المحلي أو المستورد سواء للرجال أو النساء. ومن يبحث في التاريخ الهندي قليلا فسوف يجد أن مقولة غاندي الشهيرة: "لا خير في أمة تأكل ما لا تحصد و تلبس ما لا تصنع" هي مطبقة بحذافيرها إلى يومنا هذا. فذلك الرجل الثائر الضعيف البنية والكبير العقل كان يخيط ثوبه بيده ويزرع بستانه بنفسه ولا يركب إلا حمارا كان عنده، وقد كانت هذه الكلمات هي الكلمات التي يقولها لشعبه كل يوم، ولذا فلما ذهب إلى بريطانيا طالبا الاستقلال فقد كان يلبس اللبس الهندي الأبيض، بل كان لبسه منذ أن جعل الاستقلال مطلبا أساسيا هو ما يخيطه بنفسه، فطرح "البدلة" ببنطلونها وقميصها وجاكتتها أرضا، فلبس ما خاطته يده وأكل ما زرعته أنامله وركب ما خلقه ربه.

                      رغم التباين الواضح في اللبس في الهند إلا أن "الوزار" يستخدم بشكل واضح أيضا، فترى الهندي يلبس الوزار في الشارع، كما يلبسه في المسجد أيضا، ويلبسه في السوق، كما يلبسه في المنزل. ذلك التباين موجود أيضا في السلطنة، ففي حين يلبس العماني الوزار في المنزل بدون الدشداشة وخارجه بالدشداشة فإنه وفي بعض الولايات يلبس الوزار بدون الدشداشة حتى في السوق أو المسجد. وما يهمنا هنا ليس مكان اللبس وإنما من يصنع الوزار. فعمان كانت تصنع الوزار، ولم يكن آباؤنا يلبسون الوزار المستورد من الهند أو حتى الصين وإنما كان يحاك ويخاط في عمان، لكن حياكة الوزار قد اختفت وإن كانت الهيئة العامة للصناعات الحرفية تحاول إحياء تلك الصناعة لكن الاقبال عليها ضعيف جدا بسبب ارتفاع قيمة الوزار ذو الصناعة المحلية رغم الجودة الواضحة في الحياكة المحلية، فالمواطن "العادي" يشتري الوزار الهندي أو الصيني بريال ونصف، أما الوزار العماني فسعره يتجاوز الخمسة ريالات. كما أن تلك الصناعة لم تطورها الحكومة العمانية بأساليب تقنية مطورة بحيث يكون المنتج النهائي في متناول الجميع وباستخدام ما يسمى Economies of Scale والأمر لا يقتصر على الوزار بل هناك ملبوسات أخرى منها الدشداشة النسائية التي كن المواطنات العمانيات يقمن بحياكتها وخياطتها، والآن دخل الهندي والبنغالي في بلادنا ليخيط ملابس نسائنا بعد انتشار محالات الخياطة النسائية بأيادي رجالية وافدة، وبأشكال وأنماط تخل بالحياء في بعض الأحيان خاصة عندما تجد الهندي وهو "يقيس" جسد المواطنة بشكل سافر يدل على "الديوثة" وقلة الحياء لدى الرجال والنساء سواء. وهناك صناعة أخرى قد اختفت وهي طلاء الملابس والتي تسمى "النيل" لتكون الملابس ملونة بمختلف الألوان والتي أصبح الجيل الجديد يجهلها.

                      إن واحدا من أسرار تقدم الشعوب يتمثل في الاعتماد على الذات، ورغم الفقر المدقع الذي يمكن أن تشاهده وأنت تتجول في الهند فإن التصنيع المحلي البسيط منه والمتقدم تكنولوجيا ما هو إلا شاهد على أن الدول تبنى على سواعد أبنائها وبناتها، وأن الانتاج المحلي لو وفرت له البيئة التصنيعية المناسبة لكن الخير في تلك البلد. فغاندي كان حكيما عندما قال مقولته الشهيرة "لا خير في أمة تأكل ما لا تحصد و تلبس ما لا تصنع"


                      يتبــــــــــع
                      مدونتي الجديدة المستوحاة من غذاء العماني ماضيا وحاضرا

                      http://www.tumoor.org/

                      واتساب/هاتف: 99466953
                      انستجرام: bindaris12
                      كيك: bindaris
                      تويتر: bindaris
                      فيس بوك: https://www..com/ali.alzuwaidi.1

                      تعليق


                      • #12
                        (12)


                        بين تقاطع شارعي "داداباي ناروجي" و"ماهاباليكا مارج" تقع بناية ضخمة بل عملاقة تسمى المبنى البلدي وترمز اختصارا بـ BMC حيث تحوي كافة المؤسسات التابعة لحكومة مومباي، والمبنى القديم جدا والذي يعود تاريخه إلى عام 1870 يعتبر الأكبر في جمهورية الهند من حيث المساحة التي تصل إلى (434) كلم مربع. ورغم قدمه إلا أنه تحفة معمارية تشد العابر حتى ولو كان في سيارته. والمبنى بالطبع يمر بعدة مراحل من الترميم إلا أنه يبقى شامخا في الهندسة المعمارية القديمة التي تتحدى الزمان. ذلك المنظر ذكرني بعدة أشياء في عماننا الحديثة. ولعل أهمها أن دولة مثل الهند ورغم تصنيفها من ضمن قائمة الدول الأعلى فسادا إلا أن بها الكثير من الأمور التي يمكن الاستفادة منها، فهي تمزج بين التاريخ والتقدم العلمي من ناحية وأصبحت أكثر انفتاحا من ناحية أخرى. ورغم أن الهند وبسبب الاحتلال الانجليزي السافر والذي لولا الحركات السلمية العصيانية بقيادة المهاتما غاندي لما خرج من تلك البلاد المترامية الأطراف، لكنه في نفس الوقت ترك فيها أمورا نراها سلبية ومن بينها شدة المحافظة على التراث وعدم الرغبة في التغيير، ففي بريطانيا تجد السيارات العتيقة جدا مازالت تجوب الشوارع، وتجد نفس الحال في الهند. وتجد السياسات العقيمة في الجوانب الاقتصادية مازالت موجودة في الهند رغم تغير العالم في اقتصاده وتكتلاته.

                        وإذا كان مبنى BMC هو كيان عملاق لحكومة مومباي المحلية فهو مبنى بعيد عن الزخرفة في قصور الأباطرة العرب خاصة والذين بنوا بل شيدوا قصورا من اموال الشعب وبموازنة عملاقة لا يستطيع حتى المقربين التكهن بها. فهل من يعرف كم يكلف قصر الحاكم العربي؟ وهل منا من يعرف ما هي الموازنة التشغيلية لأي قصر عربي؟ ربما أحد الأفلام العربية واسمه "طباخ الريس" حاول تسليط الضوء على "مطبخ" الرئيس والأكلات التي يقدمها لرئيس الدولة لكن الكثير منا يعرف أن رئيس الدولة له من الحاشية من الخدم والحشم ما لا يقدر البوح به، وقد ذكر لي أحدهم ضاحكا بأن في قصر رئيس الدولة لا توجد الثلاجات، لأن كل شيء طازج من مزارع الخضروات والفواكه ومن مزارع الدواجن والمواشي، وإن لم يتواجد في نفس البلد فسوف يتم جلبه بطائرة خاصة من أوروبا أو حتى من أمريكا في نفس اليوم. يكفي أن نعلم أن عرسا في قصر أصغر رئيس عربي يتم جلب الزهور له من هولندا على طائرة خاصة. ولذا ولما سقط بعض الطغاة العرب من أمثال صدام حسين وزين العابدين وحتى حسني مبارك والقذافي فقد ظهرت أطنان الذهب وظهرت القصور العامرة في شتى بقاع دولهم، بخلاف قصورهم في ماربيلا وتناريف وسانت لوسيا وغيرها من المدن الأوروبية وحتى الآسيوية. تلك الأطنان ما هي إلا ملك للشعب العربي المطحون الذي ثار منذ سنة بعدما وجد الشباب أنفسهم أنهم يخسرون الكثير بالسكوت، وأن التضحية وإن خسرتهم أرواحهم فهي للوطن وللأجيال القادمة التي يجب أن تصلح الحال حتى ولو عمت الفوضى لبرهة من الزمن.

                        وإن كانت التجربة الهندية تفيد الدول فهي قد خلطت الديمقراطية كونها الأكبر في العالم، وهي في نفس الوقت دولة فدرالية مستقلة الحكم في كل ولاية من ولاياتها، وإن كانت الهند فقيرة في المال لكنها غنية في البشر وفي العقول، ما ينقصها هي السياسة الفاضلة والتي بدأت تصلح حالها في السنوات الأخيرة، والمؤشرات السياسية والاقتصادية تدل على أن الهند سوف تأخذ موقعا متقدما بعد الصين خلال القرون القليلة القادمة بعدما كانت الهند دولة انغلقت على نفسها وفي فكرها واقتصادها وسياساتها العقيمة إلى حد كبير. وعودة إلى مبنى BMC الذي يصنع ويخبز فيه القرار الاقتصادي والسياسي وحتى الاجتماعي لمدينة مومباي فإنه يشهد تحولا جدير بالمتابعة خاصة أن أكثر من ربع سكاننا هم من الهنود، وأن لدينا مواطنين عمانيين من أصول هندية يتحكمون حتى في قوتنا، فمن هو كيمجي رامداس، وشاه ناغرداس، ونانسي درامسي؟ إنهم عمانيون بالجنسية هنود بالأثنية، وهم أباطرة المواد الغذائية والسلع الاستهلاكية في السلطنة. وربما علينا أن نأخذ بعبرة المثل الانجليزي القائل If you cannot beat them join them. وهذا ما فعلته الحكومة خاصة في برنامج سند عندما أدخلت كيمجي رامداس كشريك استراتيجي للعماني البسيط الذي رغب في دخول ثلثي الرزق وهو التجارة..


                        يتبـــــــــــــــــع
                        مدونتي الجديدة المستوحاة من غذاء العماني ماضيا وحاضرا

                        http://www.tumoor.org/

                        واتساب/هاتف: 99466953
                        انستجرام: bindaris12
                        كيك: bindaris
                        تويتر: bindaris
                        فيس بوك: https://www..com/ali.alzuwaidi.1

                        تعليق


                        • #13
                          (13)


                          قد لا يرقى المبنى الحكومي الهندي أن يكون ذو شهرة عالمية في تأثيثه وفي فخامته، فهو عتيق الطراز، وجدرانه من الخارج عادية وكأنها بحاجة إلى ترميم وإعادة، لكنه المطبخ الذي يتم فيه مناقشة الآراء والأفكار بديموقراطية تامة. فالهند هي أكبر الدول الديموقراطية بالعالم. صحيح أنه أثناء الانتخابات توجد فيها الكثير من المنغصات مثل التزوير والرشاوي، كما توجد الاضرابات والمظاهرات لدرجة أنه لا تكاد تمر انتخابات بالهند إلا ويموت خلالها العشرات إن لم يكن المئات نتيجة المصادمات مع القوات الأمنية والمصادمات العرقية أيضا. لكن ريثما تستقر الأمور تكون الديموقراطية في أوجها من حيث الآراء التعددية التي تسيطر على آلية إصدار القرار، ففي النهاية تعتبر الديموقراطية "ديكتاتورية" الغالبية.

                          كعادتي، وجدت نفسي أقارن بين ذلك المبنى العتيق وبين المباني الحكومية بالسلطنة. وبالطبع المباني إما تكون ملكا للدولة أو مستأجرة. أما المباني المملوكة للدولة فكانت اسعار تشييدها معقولة، لكن مع الطفرة العمرانية وارتفاع الأسعار ضاعف المقاولون أسعار المناقصات، وضاعفها أيضا بعض الوزراء، فأصبح مبنى أي وزارة بالسلطنة لا تقل مناقصته عن عشرة ملايين ريال عماني. فمبنى وزارة التربية ابتدأ من (11) مليون ريال ليصل إلى (28) مليون ريال، أما مبنى شئون الطيران المدني فوصل إلى (25) مليون ريال رغم أنه لا يمثل وزارة بحد ذاتها وإنما إحدى القطاعات الأربعة لوزارة النقل والاتصالات. أكيد الدكتور خميس العلوي "عرف كيف يلعبها صح" في تلك المناقصة الحكومية المغرية والتي زاحمت مناقصات المطارات وبمليارات الدولارات – كما تعرفون. لنا أن نتصور قيمة تلك المباني الحكومية بالسلطنة والتي تعتبر موازنتها من الموازنات "الانمائية" ولنا أن نتصور أيضا هل بالفعل تكلف مباني الوزارات تلك الملايين من الريالات في وقت نعرف أن المبنى ما هو إلا جدران وأعمدة وخرسانات مسلحة؟ وهل بالفعل تصل تكلفة مدرسة مكونة من (25) فصلا إلى مليون ريال تقريبا؟ أما الأثاث والمواد المكتبية والأجهزة الأخرى (مثل أجهزة الشبكات والحاسب الآلي) بحاجة إلى مناقصات أخرى. عندما تزور مبنى أية وزارة حكومية صحيح أنك تنبهر بعظمة البناء والتشييد لكن سرعان ما تعود إلى ذهنك الشارد وتسأله: هل نحن بحاجة إلى "تلك الفخامة" في وقت نجد أن المعاملات تتأخر بالأشهر، وأن المواطن قلما يستطيع انجاز معاملة له في نفس اليوم دون المماطلة ودون الاهمال وعدم النظر إلى طلبه إلا إذا كان من طرف فلان أو علان؟ ومن الملاحظ مؤخرا أن بعض الوزارات الحكومية قد انتقلت او في طور الانتقال بمبانيها الحديثة إلى العذيبه حيث يتواجد مركز المعارض في وقت نجد أن الشارع الحالي لن يستوعب الحركة المرورية لتلك المباني الحديثة التي سوف تعج بمئات الموظفين وبآلاف المراجعين.

                          أما النوع الآخر من المباني الحكومية التي تحمل العلم الوطني فوقها فهي المستأجرة، والايجار ليس قليلا ولا رخيصا أيضا، فشقة تستأجرها دائرة حكومية تصل قيمة الايجار الشهري (500) ريال، في حين نفس الشقة لن تصل أكثر من النصف في نفس المكان وبنفس العمارة إذا كان الايجار لشخص وليس للدولة. وهناك مباني حكومية تتجاوز الايجارات فيها أكثر من ألفي ريال شهريا بل تصل إلى (10) آلاف ريال إذا كانت الجهة هي وزارة حكومية تقوم باستئجار العمارة بأكملها، مثال على ذلك، المبنى الذي كان مستأجرا من قبل لجنة متابعة التعمين والتي الغيت فيما بعد كانت شقة في حي راقي بالخوير وبايجار شهري وصل الألفي ريال، ومبنى وزارة الشئون القانونية، ومبنى الهيئة العامة لحامية المستهلك ومبنى وزارة السياحة. ومن الملاحظ أيضا أن هناك شقق مؤجرة لدائرة لحكومية تكون في الأصل ملكا لموظفين يعملون بنفس الوزارة، وقد سبق أن قامت جريدة الزمن بكتابة مقال عن الفساد في بلدية مسقط تحدثت فيه عن تأجير بعض المدراء العامين لمباني لصالح البلدية وبأسعار خيالية. إن هذا الفساد المتمثل في تأجير موظف معين بوزارة معينة لمبنى أو عمارة أو شقة للحكومة دون المرور على المناقصات ومن خلال الواسطة والتلاعب بالقانون لهو أمر بحاجة إلى تكثيف الرقابة عليه خاصة أن أسعار الايجارات دائما مرتفعة، وخاصة أيضا يتم الدفع مقدما لمدة تصل إلى السنة ليستفيد الموظف صاحب العقار دون غيره من عامة المواطنين.


                          يتبـــــــــــــع
                          مدونتي الجديدة المستوحاة من غذاء العماني ماضيا وحاضرا

                          http://www.tumoor.org/

                          واتساب/هاتف: 99466953
                          انستجرام: bindaris12
                          كيك: bindaris
                          تويتر: bindaris
                          فيس بوك: https://www..com/ali.alzuwaidi.1

                          تعليق


                          • #14
                            (14)



                            في ذلك الطريق الطويل الذي استمتعت بمشاهدة فيه كافة المناظر الجميلة والأمور المنغصة أيضا شدني منظر ذلك البائع الذي حاول إيقافنا لما كانت السيارة قريبة بسبب الازدحام. ذلك المنظر جعلني أطلب من السائق التوقف جانبا والخروج من السيارة، وما كدت أن أخرج إلا ووجدت عشرات الباعة وقد التمت حولي بعدما كان بائع واحد فقط. من أين أتوا فجأة؟ إنه منظر رائع، إنه منظر عرض الجوافة بكميات كبيرة وبأشكال رائعة. لم أستطع أن أقاوم نفسي بعدما أغراني أحد الباعة بأكل واحدة من حبات الجوافة والتي نسميها في السلطنة "الزيتون".. كانت لذيذة جدا، فقلت المقاومة لدي عندما طلبت شراء خمسة كيلو جرامات منها. وبجانب الجوافة كانت هناك عشرات الأنواع من الفواكه اللذيذة والتي أعرف كثير منها كوني قد شاهدتها في دول أخرى، بعضها لا أعرف اسمها باللغة العربية والأخرى أكتفي بأكلها بدون أن اهتم بالاسم مثل فاكهة "باشون فروت" التي تتواجد بكثرة في كينيا وزنجبار وفي بعض الدول الآسيوية، وكذلك "دوريان" و"رامبوتان" و"كاسترد أبل" والذي يعرف في السلطنة باسم "مستعفل" بخلاف "المانجوستين" الذي عشقه أبنائي لما ذهبت بهم في رحلة آسيوية في سنوات سابقة فالتهموه في جلسة واحدة نظرا للذته الطبيعية. بخلاف الجوافة والفواكه الأخرى هناك المانجو الهندي الذي يتجاوز نوعه المئة وأفضلها "الفونسو" الذي اعتقدت أنه مانجو عماني، وأيضا "لانجرا" وهو الذي يقطف أخضرا وتأكله النساء وحتى الأطفال وبعض الرجال بـ"التبزيرة"، و"فزلي" و"رسبوري" وسمر بهيست"، والذي يصنع منه الهنود عشرات الصناعات الغذائية سواء في المخللات أو المجففات، ومن يريد أن يتذوق المزيد من المانجو فليذهب إلى أسبوع المانجو الذي تعلن عنه محلات "اللولو" كل عام، وفيها أصناف وأشكال عالمية من المانجو.


                            الجوافة "الزيتون" والمانجو والمستعفل وفواكه هندية أخرى أعادت بي الذاكرة إلى الوراء، وبشكل محدد في السبعينات، حيث كانت مزارعنا تمتلئ بتلك الفواكه اللذيذة والتي نقطفها من الأشجار مباشرة، بل أنني شخصيا شاركت جدي في زرعها وتسميدها وقطفها. أما اليوم وعندما أذهب إلى مزرعة جدي فإنني أجد أكثر من منزل شيده "خوالي" في تلك المزرعة، فأطاحوا بأشجار الفاكهة العمانية كالليمون والمانجو والموز والمستعفل وحتى النخيل، فبقيت بضعة شجيرات لن تدوم طويلا في ظل عزوف أخوالي عن العمل في الزراعة، وفي ظل شح الأراضي وارتفاع أسعارها، فهم – كغيرهم – يقتلعون الأشجار ليبنوا المنازل أو يأتون بالبنجالي ليحل محلهم في الاعتناء بما تبقى من أشجار مثمرة في شكل بضع نخلات "عوانات" يكون مصيرها القلع قريبا. علاوة على ذلك، فإن شح المياه ساهم بشكل كبير في انحسار الأراضي الزراعية بالسلطنة، بخلاف الاهتمام الضئيل من قبل الحكومة ممثلة في وزارة الزراعة، وازدياد الآفات الزراعية، فبعدما كانت الزراعة تشكل مردودا اقتصاديا هاما بالسلطنة استطاع من خلاله العمانيون تحدي مصاعب الحياة مع شح الرزق فإن الزراعة أصبحت تشكل نسبة أقل من (3%) من مجمل الناتج المحلي بعدما كان (70%) في الستينات، وأصبح النفط هو الذي يشكل تلك النسبة العالية التي تدعوا إلى الهلع بعد نضوب النفط أو صعوبة استخراجه بسبب التكلفة العالية جدا.


                            لقد كانت السلطنة دولة زراعية تجود أراضيها الخصبة بأجود أنواع الخضراوات والفواكه، فأصبحت أراضيها جرداء أو تم تعميرها أو تم توزيعها لتكون تجارية سكنية. وكم من مواطن طالب وزارة الإسكان لتحويل أرضه الزراعية إلى أرض سكنية تجارية لأنه لم يجد الجدوى الاقتصادية لتلك الأرض الزراعية فرأى أن التجارة هي خير واسع مع وجود بابو وراجو كتجار يعطونه المائة أو المائتي ريال في الشهر. أما أرض البيدار العماني فقد اختفت هي بعد اختفائه هو، فإن وجدنا الزيتون العماني (الجوافة) أو المستعفل فسوف نجده بكميات ضئيلة لا تكاد تكفي سوقا واحدا من الأسواق المحلية، وذلك المانجو، فغزت أسواقنا بشتى أنواع الفواكه وحتى الخضروات القادمة من بلاد الشام وآسيا وإفريقيا وحتى أمريكا، وبأسعار مرتفعة وبنكهة لا يستسيغها المستهلك كثيرا كونها محفوظة بمواد كيماوية حتى لا تعطب أثناء نقلها لعدة أيام أو مقطوفة قبل موسم نضجها. لذا فمن كان محظوظا منا فسوف يتناول الفاكهة الطازجة عندما يسافر إلى الهند أو تايلاند أو يتجه إلى مومباسا أو دار السلام أو زنجبار ليتلذذ بأكل ثمار منتجات تلك الدول التي مازالت تحافظ على إحدى مكونات اقتصادها وهي الزراعة..


                            يتبـــــــــــــــع
                            مدونتي الجديدة المستوحاة من غذاء العماني ماضيا وحاضرا

                            http://www.tumoor.org/

                            واتساب/هاتف: 99466953
                            انستجرام: bindaris12
                            كيك: bindaris
                            تويتر: bindaris
                            فيس بوك: https://www..com/ali.alzuwaidi.1

                            تعليق


                            • #15
                              (15)


                              بدون أن أطلب من السائق التوجه إلى تلك المنطقة وجدت نفسي أمام عمارات شاهقة وشوارع جميلة وواسعة ونظيفة وكأنني لست في مومباي العتيقة، سألت السائق أين نحن فرد عليّ بأننا في منطقة "ماراثي" وهي المنطقة المخصصة لطبقة الأغنياء ولعلية القوم وتجارها وساساتها وأنديتها، وتقع في جنوب مومباي وفي الزاوية الجنوبية من جزيرة "سالسيت"، وحيث أنها قد خصصت للأغنياء فقط فلن تجد "الركشة" في شوارعها، وفي نفس الوقت لن تستغرب إذا وجدت "بورش كايين" وهي تجوب شوارع تلك المنطقة الثرية التي يتواجد فيها البنك المركزي وسوق مومباي للأوراق المالية. يا لها من مفارقة بل وفوارق عظمى بين مدينة مومباي العتيقة التي تجد فيها أفقر فقراء العالم، وبين مومباي الجنوبية الحديثة التي تجد فيها أعلى سعر للعقار في العالم مقارنة بالدخل الفردي للهندي المسكين، فسعر القدم المربع قد تجاوز (4) آلاف دولار أمريكي (أي أن المتر المربع يتجاوز الألف ونصف الألف ريال عماني).

                              إذن في الهند طبقة أغنياء تعيش في ثراء فاحش ولها وضعها الاجتماعي المعروف بـ"الكاست"، وتلك الطبقة ليست بعيدة عن مجتمعنا أيضا سواء في مكوناتها أو خصائصها التي تشترك فيها تلك الطبقة المخملية المتواضعة أحيانا والمغرورة المتكبرة في أحايين أخرى. للأغنياء بالسلطنة مناطق معروفة أشهرها القرم والخوير ومدينة السلطان قابوس. في تلك المناطق تجد خدمات البنية التحتية خاصة الماء والكهرباء والهاتف والشوارع وحتى الصرف الصحي وقد دخلتها منذ السبعينات، أما في بقية العاصمة مسقط (وليس رمال بني وهيبة) فإن الخدمات مازالت قاصرة. شخصيا انتظرت عشر سنين عجاف حتى يصل الماء "الحكومي" إلى منزلي رغم وجوده خلف حديقة الصحوة وقريب أيضا من مركز "ستي سنتر" بالموالح. ولمناطق الأغنياء خصائص أخرى تتمثل في التشجير والشوارع النظيفة والمرتبة ولفخامة العمران ولغلاء ذلك العمران، فضلا عن السمات الشخصية التي قد تقود البعض الى استخدام "ستيريوتايب" أو "القولبة" كما يسمى باللغة العربية، أي اطلاق أحكام أو خصائص عامة كأن نقول أن كل الأغنياء متغطرسين أو "لصوص" أو "فاسدين" لكن في كل الأحوال لن يتواضع الغني مثل تواضع الفقير إلا من رحم ربي وعرف أن المال فاني وأن المال إن أتى من فضل ربه فإن المولى قادر في غمضة عين على نزعه منه، فهو يهب الملك والمال وينزع الملك والمال ممن يشاء.

                              عندما تذهب إلى سينما الشاطيء فسوف تجد سمات لمجتمع مخملي يختلف نوعا ما عن بقية المجتمع العماني، ففي تلك السينما تجد الملابس الغربية للشباب العماني أكثر شيوعا، وتجد البورش والبي أم والمرسيدس والكورفيت واللكزس أكثر انتشارا عن الكورولا أو الايكو أو الصني، وتجد الفتاة أكثر تحررا وأقل انقيادا لعادات وتقاليد المجتمع، حيث تجدها مع "البوي فريند" الذي يلبس الجينز ونسي الدشداشة العمانية، وتجده يحتسي في المقهى المجاور قدحا من "اللاتيه" أو "الكبتشينو" أو "اسبريسو" مع قطعة من الكعكة ولا يهمه إن دفع ستة ريالات لذلك في وقت نجد عاملا هرما يتقاضى ذلك المبلغ نظير عمل يوم كامل في رش الأشجار للقضاء على آفة زراعية أو حشرة تزعج صاحب الفيلا الفخمة. وسينما الشاطيء ليست المثال الوحيد على تواجد "أولاد الذوات" حيث تجدهم أيضا في "شارع الحب" الذي تجوب فيها سياراتهم الفخمة فيرتادون مقهى "تشي تشي" أو "ستار باكس" ويجلسون يقهقهون وهم يأكلون وجبة بسيطة تتجاوز الخمسة ريالات للشخص الواحد.

                              إنه التأمل في فلسفة الغنى والفقر، وفي فلسفة الشقاء والتعاسة، وفي فلسفة الرزق بشكل عام، فقد ولد البعض وفي فمه ملعقة من ذهب أو فضة في حين ولد الآخر ويظل طيلة حياته يكافح ويناضل من أجل لقمة العيش، فتجد ابن الميسور ينفق في جلسة غداء خمسين ريالا في حين تجد آخر بالكاد يتبقى له من راتبه الشهري ذلك المبلغ، وفي حين تجد مواطنا يقود سيارة عتيقة لا يعرف أبناؤه تاريخ صنعها فإنك تجد مواطنا آخر لا يعرف ابنه ماذا تعني سنة الصنع لأنه يرى سيارته تتغير سنويا بطلب أو بدون طلب منه. وفي حين تدخل أغنياء وقد ثابروا و"شقوا" فكونوا ثرواتهم بعرق جبينهم فكانوا عصاميين في حياتهم تجد آخرين اتكاليين يريدون الرزق أن ينزل من السماء التي لا تمطر ذهبا أو فضة...



                              يتبـــــــــــــــع
                              مدونتي الجديدة المستوحاة من غذاء العماني ماضيا وحاضرا

                              http://www.tumoor.org/

                              واتساب/هاتف: 99466953
                              انستجرام: bindaris12
                              كيك: bindaris
                              تويتر: bindaris
                              فيس بوك: https://www..com/ali.alzuwaidi.1

                              تعليق

                              يعمل...
                              X