اااخ طلعت كذبة
يقول أبو الطيب المتنبي:
وَحَسْبِي وَإِيَّاكِ إِمَّا انْتَسَبْنَا: *** أَنَا عَرَبِيٌ وَدِينُكِ دِينِي
ما أجمله من بيتٍ وأبلغه، حيث تستوطن العروبة في كل حرفٍ من حروفه، وهو اعتزازٌ بأصلٍ سامٍ. فحينما يدس المتخاذلون رؤوسهم في وحلٍ وطين، ويفتخرون بانتسابهم لأقوامٍ آخرين؛ كما يفعل الكثير من العرب المجنسين في أمريكا وأوربا، ويفاخرون بما يحملون من جوازاتٍ يبدلون فيها انتماءاتهم، وكأنهم يبدلون دمائهم وعروقهم وشرايينهم، فإن المتنبي يجعل العروبة مفخرةً ومجداً وسؤدداً، حتى أنه قدمه على الدين، ويذّكر الحبيبة بأنهما مشتركين في دين وأصلٍ ذو منبتٍ رفيع؛ فكم أنت شاعرٌ فحلٌ أيها المتنبي، وكم بيتك هذا يبهج القلب ويطرب الوجدان.
ولنا أن نتأمل بيت الأعشى الذي يوحي لك بحداثة العصر بسهولة اللفظ، إذ قال:
مُتْعَةُ النَّفْسِ لَسْتُ أَلْقَى سِوَاهُ *** يَمْلَأُ القَلْبَ ثُمَّ يَسْبِي العُيُونَا
فهو يتحدث عن غزاله الذي يأنس به، ويلقى النعيم برؤيته، وهنا تقسيمةٌ عجيبةٌ للبيت، إذ ما قرأت الصدر وتوقفت، ظَهرَ لك معنىً مكتملاً وجميلاً، ذلك أن الحبيبة متعةٌ كاملةٌ للنفس، لا يرى أحداً غيرها، ولا يهمه أن يجد سواها، وإذا ما اكتفيت بقراءة العجز فقط، فهو أيضاً معنىً مكتملاً في ذاته، فغزاله الأهيف يملأ القلب ويتملكه بلا منازع، ولا يترك حيزاً لزائرٍ آخر يدخله، وينعكس أثر تملك القلب على العيون فلا ترى غيره، فتتمثل لها كل المنظورات والأجسام والمشاهدات في صورة الحبيبة، فهو مبصرٌ لها، وأعمى عن غيرها. وإذا قرأنا الصدر مع العجز نجد أيضاً معنىً واحداً مكتملاً، في أن الحبيب هو كل شيءٍ بالنسبة للأعشى ولا أحد غيره يمكنه أن يدخل إلى قلبه. فيا لك من عظيمٌ أيها الأعشى الكبير.
وإذا ما تجولنا في النثر، سنجد الأدب الغربي زاخرٌ بجملٍ نثريةٍ غايةٍ في الإبداع، وتفعل فعل السحر في النفوس، فقد قال "نيتشه" يوماً: "أن تبصر وأنت أعمى، خيرٌ من أن تكون أعمى وأنت مبصراً" معنىً رائقاً لا يختلف عليه اثنان، ويجد قبولاً ساحراً في النفس. في حين يقول دانتي: "السماءُ ساعة انبلاج الفجر تلد عفاريتاً" وهو معنىً خياليٌ يجبرك على تخيله وإطالة النظر فيه، فستهتدي إلى أن دانتي يقصد بالعفاريت أولئك البشر الذين يقومون من نومهم، بعدما اختفت الأشباح وعفاريت الليل، وهذا دلالة على سوء أفعال البشر، وولادة السماء تكمن في ظهور الشمس، تناقضٌ بديع حملته تلكم المقولة المهوسة.
أما باولو كويللو فليس في منأىً عن تلكم القطع الفنية المذهلة، فقد قال في إحدى رواياته: "رأيت برقاً يومض في كثيب الصحراء" ولنا أن نرحل بخيالنا بعيداً إلى عالم كويللو، فعسانا أن نهتدي إلى أنه كان يخاطب صديقته البرازيلية التي مضت تعبر الفجاج والفيافي في رحلةٍ إلى أهرامات مصر، على ناقتها العجوز التي ترفعها الوهاد وتحطها المهاد، فكان جسمها من بعيد يومض كبرقٍ يظهر ويختفي، خصوصاً وأن لون بشرتها القمحية وافقت صبغة رمال الصحراء وجلد الناقة الذهبي. أما ماركيز فقد أذهل قراءه وكاد أن يدمنهم على الخيال بقوله: "يرسمون خيولهم بخيوطٍ مطرزة يوم أن سامهم العدو. أصفاد بصيرتهم نأت بهم عن السداد؛ فعقبى القاصر خبال" أي أنهم بعد هزيمتهم النكراء فقدوا كل ما يملكون، وأذلهم العدو وسامهم سوء العذاب، ذلك نتيجة الجهل الذي عتّم عليهم الرؤية والتخطيط، وقد أوثقوا العقل والعلم بأصفادٍ تحجرهم وتخلفهم وتركهم النهل من العلوم المختلفة، فهم قاصرون عن النصر والتمكين والعزة ما داموا في جهلهم يعمهون.
أرأيتم كيف هي رائعةٌ تلك الكلمات، وكم تجلب لنا المتعة، وكم نحن مغرمون بأصحابها أكثر منها، ساعة إيماننا بأن لا ينطق بها سواهم، وما عداهم لا يبلغ شأوهم ومرتبتهم السامقة، فهل يختلف أحدٌ معي في ذلك؟ فمن المستحيل أن يأتي المتنبي أو الأعشى أو دانتي أو نيتشه أو ماركيز أو باولو بكلماتٍ روتينية، فهم يخترقون الحجب، ويفيضون علينا بخيالٍ لا مثيل له. ولكني أقول بكل ندم، إن الكلمات السابقة ليست لواحدٍ منهم، وإنما أنا من كتبتها، وبعد هذه الحقيقة المرة ستحول تلكم العبارات الآن إلى موات بعد أن حيت في خيالكم وأذهانكم، لتدركون كم نحن حمقى، نبجل الأسماء ونقدسها، ولا نستمتع بالنص ورقص الكلمات إلا بتخيل شخصية ساحرها.
يقول أبو الطيب المتنبي:
وَحَسْبِي وَإِيَّاكِ إِمَّا انْتَسَبْنَا: *** أَنَا عَرَبِيٌ وَدِينُكِ دِينِي
ما أجمله من بيتٍ وأبلغه، حيث تستوطن العروبة في كل حرفٍ من حروفه، وهو اعتزازٌ بأصلٍ سامٍ. فحينما يدس المتخاذلون رؤوسهم في وحلٍ وطين، ويفتخرون بانتسابهم لأقوامٍ آخرين؛ كما يفعل الكثير من العرب المجنسين في أمريكا وأوربا، ويفاخرون بما يحملون من جوازاتٍ يبدلون فيها انتماءاتهم، وكأنهم يبدلون دمائهم وعروقهم وشرايينهم، فإن المتنبي يجعل العروبة مفخرةً ومجداً وسؤدداً، حتى أنه قدمه على الدين، ويذّكر الحبيبة بأنهما مشتركين في دين وأصلٍ ذو منبتٍ رفيع؛ فكم أنت شاعرٌ فحلٌ أيها المتنبي، وكم بيتك هذا يبهج القلب ويطرب الوجدان.
ولنا أن نتأمل بيت الأعشى الذي يوحي لك بحداثة العصر بسهولة اللفظ، إذ قال:
مُتْعَةُ النَّفْسِ لَسْتُ أَلْقَى سِوَاهُ *** يَمْلَأُ القَلْبَ ثُمَّ يَسْبِي العُيُونَا
فهو يتحدث عن غزاله الذي يأنس به، ويلقى النعيم برؤيته، وهنا تقسيمةٌ عجيبةٌ للبيت، إذ ما قرأت الصدر وتوقفت، ظَهرَ لك معنىً مكتملاً وجميلاً، ذلك أن الحبيبة متعةٌ كاملةٌ للنفس، لا يرى أحداً غيرها، ولا يهمه أن يجد سواها، وإذا ما اكتفيت بقراءة العجز فقط، فهو أيضاً معنىً مكتملاً في ذاته، فغزاله الأهيف يملأ القلب ويتملكه بلا منازع، ولا يترك حيزاً لزائرٍ آخر يدخله، وينعكس أثر تملك القلب على العيون فلا ترى غيره، فتتمثل لها كل المنظورات والأجسام والمشاهدات في صورة الحبيبة، فهو مبصرٌ لها، وأعمى عن غيرها. وإذا قرأنا الصدر مع العجز نجد أيضاً معنىً واحداً مكتملاً، في أن الحبيب هو كل شيءٍ بالنسبة للأعشى ولا أحد غيره يمكنه أن يدخل إلى قلبه. فيا لك من عظيمٌ أيها الأعشى الكبير.
وإذا ما تجولنا في النثر، سنجد الأدب الغربي زاخرٌ بجملٍ نثريةٍ غايةٍ في الإبداع، وتفعل فعل السحر في النفوس، فقد قال "نيتشه" يوماً: "أن تبصر وأنت أعمى، خيرٌ من أن تكون أعمى وأنت مبصراً" معنىً رائقاً لا يختلف عليه اثنان، ويجد قبولاً ساحراً في النفس. في حين يقول دانتي: "السماءُ ساعة انبلاج الفجر تلد عفاريتاً" وهو معنىً خياليٌ يجبرك على تخيله وإطالة النظر فيه، فستهتدي إلى أن دانتي يقصد بالعفاريت أولئك البشر الذين يقومون من نومهم، بعدما اختفت الأشباح وعفاريت الليل، وهذا دلالة على سوء أفعال البشر، وولادة السماء تكمن في ظهور الشمس، تناقضٌ بديع حملته تلكم المقولة المهوسة.
أما باولو كويللو فليس في منأىً عن تلكم القطع الفنية المذهلة، فقد قال في إحدى رواياته: "رأيت برقاً يومض في كثيب الصحراء" ولنا أن نرحل بخيالنا بعيداً إلى عالم كويللو، فعسانا أن نهتدي إلى أنه كان يخاطب صديقته البرازيلية التي مضت تعبر الفجاج والفيافي في رحلةٍ إلى أهرامات مصر، على ناقتها العجوز التي ترفعها الوهاد وتحطها المهاد، فكان جسمها من بعيد يومض كبرقٍ يظهر ويختفي، خصوصاً وأن لون بشرتها القمحية وافقت صبغة رمال الصحراء وجلد الناقة الذهبي. أما ماركيز فقد أذهل قراءه وكاد أن يدمنهم على الخيال بقوله: "يرسمون خيولهم بخيوطٍ مطرزة يوم أن سامهم العدو. أصفاد بصيرتهم نأت بهم عن السداد؛ فعقبى القاصر خبال" أي أنهم بعد هزيمتهم النكراء فقدوا كل ما يملكون، وأذلهم العدو وسامهم سوء العذاب، ذلك نتيجة الجهل الذي عتّم عليهم الرؤية والتخطيط، وقد أوثقوا العقل والعلم بأصفادٍ تحجرهم وتخلفهم وتركهم النهل من العلوم المختلفة، فهم قاصرون عن النصر والتمكين والعزة ما داموا في جهلهم يعمهون.
أرأيتم كيف هي رائعةٌ تلك الكلمات، وكم تجلب لنا المتعة، وكم نحن مغرمون بأصحابها أكثر منها، ساعة إيماننا بأن لا ينطق بها سواهم، وما عداهم لا يبلغ شأوهم ومرتبتهم السامقة، فهل يختلف أحدٌ معي في ذلك؟ فمن المستحيل أن يأتي المتنبي أو الأعشى أو دانتي أو نيتشه أو ماركيز أو باولو بكلماتٍ روتينية، فهم يخترقون الحجب، ويفيضون علينا بخيالٍ لا مثيل له. ولكني أقول بكل ندم، إن الكلمات السابقة ليست لواحدٍ منهم، وإنما أنا من كتبتها، وبعد هذه الحقيقة المرة ستحول تلكم العبارات الآن إلى موات بعد أن حيت في خيالكم وأذهانكم، لتدركون كم نحن حمقى، نبجل الأسماء ونقدسها، ولا نستمتع بالنص ورقص الكلمات إلا بتخيل شخصية ساحرها.
تعليق