قال: لم أختر المنفى ولم ينفني أحد لكني مدين له بتطوير وعيي
صبحي حديدي في ندوة " الرؤية" : إشكالية المثقف في الوطن العربي أنه "يحمل السلم بالعرض" وكأنه يعند الطبيعة
الرؤية: أحمد بن سيف الهنائي
أكد الناقد والمترجم السوري صبحي حديدي أن المثقف العربي، يعيش في الغرب حالة من الانشطار بين واقعين، واقعه في الغرب، حيث ينبغي أن يخضع لقوانين علمانية و ديمقراطية ودولة القانون، وواقع امتدادات أصوله بالشرق، حيث عليه أن يراعي اعتبارات ليست دائما علمانية أو ديمقراطية.
وطرح حديدي إشكالية مهمة يعيشها المثقف العربي عندما قال إن المثقف المقيم في العالم العربي يعاني من معضلة شاقة، لأنه "يحمل السلم بالعرض" وكأنه يعاند الطبيعة، ربما لأنه في الغرب لديه فرصة المناورة بسبب تمتعه بالحرية .
وأعرب حديدي خلال الندوة التي نظمتها جريدة الرؤية، والتي أدارها حاتم الطائي رئيس التحرير وخالد عبد اللطيف مدير التحرير والأديب والسينمائي عبد الله حبيب عن اشتياقه لوطنه بعد حياة المنفى الطويلة التي عاشها خارجه، مؤكدا أنه يتواصل مع أبناء بلدته في كل دولة يزورها لمقاومة الغربة والبقاء على الأمل.
ويعد صبحي حديدي واحدا من أهم المترجمين والنقاد العرب في الوقت الراهن، ولد في القامشلي، سوريا، عام 1951، لوحق لأسباب سياسية، فكان الخروج هو الحل، وظل متنقلا بين لندن وباريس، حتى استقر في فرنسا، ونشر العديد من الأبحاث النقدية والترجمات في دوريات عربية وأجنبية مختلفة، وقدّم دراسات معمّقة في التعريف بالنظرية الأدبية والمدارس النقدية المعاصرة (الخطاب ما بعد الاستعمار، إعادة قراءة فرانتز فانون، القارىء والقراءة والاستجابة، الموضوعة الغنائية، الحديث وما بعد الحداثة، كما نقل إلى اللغة العربية العديد من الأعمال في الفلسفة والرواية والشعر والنظرية النقدية، بينها مونتغمري واط: "الفكر السياسي الإسلامي"؛ وكين كيسي "طيران فوق عشّ الوقواق"، ورواية، ميشيل زيرافا "الأسطورة والرواية"، ورواية "ضجيج الجبل" لياسوناري كاواباتا، وغيرها من الأعمال
ابتدأ صبحي بالحديث عن المنفى، بعد أن باغته حاتم الطائي بالسؤال عنه، وعن تشكيل المنفى لحركة الإبداع الكتابية، ومساهمة من اشتهر فيه من كتاب أمثال إدوارد سعيد، فالمنفى كون طاقة إبداعية كبيرة لديهم، فقال: المنفى قضية تعرفونها جيدا، ولا أريد أن أتطرق إليها كثيرا، لكنني سأتحدث عن نهايات المنفى، بادئ ذي بدء أنا لم اختر المنفى ولم ينفني أحد بالمعنى المباشر، لكني لأسباب سياسية لوحقت في بلدي وقضيت فترة طويلة من بالحياة السرية، وأصبح خروجي من البلد بمثابة حل للآخرين، فقد شكلت عبئا على الآخرين؛ بدءا من والدتي وانتهاءً بمن حولي، فكان رحيلي من سوريا إلى بلد أوروبي هو الحل ، بالتالي بدأ المنفى إذا شئتم من هذه الزاوية، هو منفى طوعي، ولكنني لم أذهب إليه لأسباب إرادية كانت أم قسرية. للمنفى أكثر من وطأة وأكثر من عذاب، لكن أيضا إذا كان المرء قادرا على استبصار رؤية محددة لوجوده وآفاق هذا الوجود، أظن أنه يستطيع تطويع عذابات المنفى لكي لا أقول يستطيع استثمار الثروات الكثيرة التي يمنحها المنفى، الثروات على مستوى الوعي وعلى مستوى العقل وعلى مستوى تطوير الذات وعلى مستوى التربية الإنسانية، فعلى سبيل المثال أنا مدين للمنفى على الأقل لتطوير وعيي في مستوى علاقتي مع أطفالي أو زوجتي أو في مستوى تطوير تربيتي الديمقراطية وطبيعة علاقتي بالآخرين وفهمي لمسألة التعددية. لذلك أستطيع القول أن وطأة المنفى عليَّ لم تأخذ الشكل التقليدي أو بالمعنى التقليدي تأخذ صفة المشاق والعذابات فقط، وإنما أنا أعترف أنني في السنوات الأخيرة أفلحت في تطوير منفاي وتحويله إلى صيغة إيجابية لا تمنعني البتة من التواصل مع وطني وأهلي ليس في سوريا فحسب، وإنما على مستوى العالم العربي، والدليل أنني أتعاون معكم ومن جهة أخرى لم أنعزل عن البلد الذي أنا فيه، أنا لست على الإطلاق منعزلا عن الثقافة الفرنسية وعن الحياة السياسية والاجتماعية الفرنسية، لأني لا أستطيع أن أكون عابر سبيل أو غريبا رغم أنني فعلا عابر سبيل وغريب مهما بقيت في فرنسا، لكنني لا أستطيع إلا أن أنتمي أو أتابع ما يجري في هذا المجتمع.
يواصل صبحي حديثه قائلاً: أذكر عبارة جميلة لإدوارد سعيد عندما حاورته حوارا مطولا عام 1995م وطلب مني أن أجعل عبارة "المنفى حقل كريم" عنوانا للحوار بالنسبة لإدوارد سعيد الذي قضى كل هذه السنوات ولديه حالة الاقتلاع من الجذور سواء على صعيد الوطن أو على صعيد اغترابه الفكري والسياسي واللغوي، فقد توصل إلى نتيجة أن هذا المنفى كان بالنسبة له وعاء حوى كل عذاباته وكل ما لقيه هو وسواه من ضنك، وبالتالي التأثير على الكتابة أغلب الظن أُعتبر أنه إيجابي على أكثر من صعيد، إذا أردتم محصلة أو موازنة بين تأثيرات المنفى والمستوى السلبي والإيجابي، أظن أن المستوى الإيجابي أكثر بكثير، ونتذكر دائما أن المنافي لها خصوبة خاصة في إطلاق طاقات التغيير، للتذكير فقط أخال أن كبار الأنبياء لمختلف الديانات الروحية توفوا على هذا النحو أو ذلك، ومنهم الرسول محمد لولا الهجرة وهي شكل من أشكال النفي وهو شكل من أشكال الإبداع حتى في العمل السياسي وفي تنظيم التبشير للدعوة، وبالتالي للمنفى من جانبي على الأقل خصوصية إطلاق الطاقات، وهناك جانب آخر أساسي وهو ترويض المرء بطريقة قد تكون مرهقة ومتعبة على أن يحترم الهويات الأخرى بالقياس إلى هويته من جهة وأن يقبل بالتعددية، ثم ألا يعتقد أن هويته جوهرانية وخالصة وصافية تماماً، وبالتالي ينظر إلى الآخرين بأي شكل من أشكال الدونية أو التفوق أو الاستعلاء.
لا وجود لهوية صافية
واستطرد حديثه عن مفهوم "الهوية ليست جوهرانية" بالقول: نحن مثلا في تربيتنا في بلد مؤدلج مثل سوريا أو معظم البلدان التي كانت فيها أنظمة سياسية قومية، يتم التركيز فيها على القومية باعتبارها قومية صافية عليا نقية جوهرانية ليست بها شوائب، ويوجد تعبير فلسفي عند البعثيين في سوريا ينص على أن "العربي سيد القدر" وشعار البعث: "الأمة العربية الواحدة ذات رسالة خالدة" هذا التثمين المبالغ به في الذات القومية، سواء كان بشكل مباشر أو غير مباشر يعلي هذه القومية وهذه الذات على الآخرين، وبالتالي تصبح جوهرانية تتحلى بجوهرٍ صافٍ وفي الحقيقة ليس هناك هوية صافية على الإطلاق، وفي الأصل هذا مناقض للإنسانية وللتطور الإنساني، الهوية غناها في تعددها وفي اختلافها وفي تلاقح عناصرها من خلال هذا الاختلاط المتوازن.
ثم عقب الكاتب عبدالله حبيب، فقال: هذه العملة قد يكون لها وجه آخر، هو أن الجميع عانى من الشوفينية القيمية الضيقة "وأقصد تجربة القومية العرب على الأقل" وكان هذا على حساب أقليات أثنية وأقليات عرقية وأقليات جندرية...الخ؛ كبح جماح هذه الجوهرانية وهذا الشعور بالتفوق كأنك تقول "إنه شعب الله المختار" لكن بإخفاق المشروع القومي في بدايات ما بعد الحداثة نتج النقيض من تشرذم وعدم الإحساس بالانتماء وعدم الإحساس بالهوية، هذا يشكل أحد التحديات التي واجهت الثقافة العربية، فأصبح المفكر السوري كسوري والمفكر المصري كمصري والعماني كعماني، هنا شكل إشكالية توحيد الشعور والإحساس بالانتماء لمصير معين، فالأوروبيون على اختلاف دياناتهم ولغاتهم وتوجهاتهم ومعتقداتهم لديهم اتحاد أوروبي.
الاتحاد الأوروبي ائتلاف لمصالح اقتصادية
وأضاف صبحي حديدي : أعتقد عند الحديث عن مستوى علاقة الفرد بالثقافة وعلاقته بالهوية، ربما تكون المسألة أكبر وبالتالي شبكاتها مختلفة قليلا بما يخص الأمم، التي يمكن أن تتلاقى أو تتفارق حول هذه أو تلك من العناصر. برأيي بالنسبة للاتحاد الأوروبي في صيغته الراهنة هو ائتلاف مصالح اقتصادية ربما تكون موضوعية أو ربما تكون قسرية بمعنى الحاجة إلى المصلحة وحسن استثمار المصالح، فعلى مستوى الأقوام يكفي أن أعطيك مثالاً ليس في الإشكالات بين ألمانيا وفرنسا كتكتلين، لا، بل بين جنوب فرنسا على سبيل المثال وشمال ألمانيا، بل داخل فرنسا بين الباسك والوسط والشمال، أذهب إلى مثال آخر وهو بلجيكا التي توشك على التشظي الآن ونحن نتحدث بلجيكا كانت اتحادا خلال التجربة الاستعمارية توحدت لغاتها الثلاث وشعوبها الثلاث وثقافاتها، فهي ثلاث دول في واحدة فالإمبراطورية ومصالحها واستثمار الحديد والعاج جعلهم يتجهون للوحدة والآن يفكرون في الانفصال إلى ثلاث قوميات لسبب أساسي، هو أن هناك قومية ثرية جدا وهناك قومية متوسطة إلى جانب وجود قومية فقيرة، ولأنه نظام ديمقراطي وتكافلي، فالقومية الغنية تشعر أنها تنفق على القوميتين الأخريين، بالإضافة إلى استيقاظ الأشباح الأثنية، الحقيقة أن الأشباح الأثنية تعود مرة أخرى، ففي احتفال ألمانيا الأخير بذكرى توحيد ألمانيا، تبين أن العديد من الشرائح في الشرقية السابقة والغربية السابقة ليسوا سعداء اثنيا اقتصاديا، ربما جرى التوافق على صيغة معينة لخدمة الشعبين، لكن بالمعنى الأثني هناك حساسيات بالرغم من أن انجيلا ميركل أصلها ألماني شرقي، أعتقد فيما يخص الأمم المسألة لم تحل بعد حتى الآن وخصوصا أوروبا باعتبارها كانت أمم دول وأمم قوميات، بالإضافة إلى ما سيفرزه التاريخ من تناقضات قادمة، أظن إذا أفلحت روسيا في استقطاب بعض مراكز نفوذها السابقة، وربما يتخذ الاستقطاب صفة معسكرين ليس كالسابق معسكر رأسمالي واشتراكي، وإنما معسكران لهما علاقة بتقسيمات أثنية وقومية وأحيانا يصاب المرء بالعجب إنه بعد كل هذه الثقافة التحررية وثقافة تجاوز العناصر القومية، وهذا ليس على صعيد الأمم فقط، وإنما على صعيد الأفراد، قد ترى نماذج لا تفكر أنها ألمانية أو بلجيكية أو هولندية، فهو يشعر تماما من العدمية القومية تماما، لكن عندما ينخرط بعمل فيه صفة الأمة تشعر أن انتماءه استيقظ، وهي انتماءات قديمة تعود إلى قرون سابقة.
الانشطار بين واقعين
تطرق صبحي أيضاً في الندوة إلى دور المثقف في الغرب ومساحة عملية التنوير في ظل العولمة، إذ يقول: لكي أكون صادقا معكم، فالمثقف العربي في الغرب (غريب الوجه واليد واللسان) وهو جزء مما يجري ويعيش حالة من الانشطار بين واقعين أو حالين: حالة في الغرب، حيث ينبغي أن يخضع لقوانين علمانية وقوانين ديمقراطية ودولة القانون وحال امتداداته في أصوله بالشرق، حيث عليه أن يراعي هذه أو تلك من الاعتبارات التي ليست دائما علمانية أو ديمقراطية، هو نوع من الانشطار ليس انشطار الذات وقد يكون علمانيا أو ديمقراطيا في أعماقه، لكن سلوكه ليس دائما انعكاسا صحيحا لقناعته، مثلا أن يكون علمانيا مثقفا في فرنسا ليس بالضرورة أن يتحلى بنفس العلمانية في سلطنة عمان، وبالتالي يجب عليه موضوعيا أن ينشطر، وبهذا المعنى ربما يجد نفسه عاجزاً عن أدائه الوظيفي كمثقف مستنير وطليعي يجب أن يؤدي واجبه، هناك كثيرون من يشار إليهم بالبنان في التجاوز، ولكن تظل هذه حالات فردية لكن في الحقيقة دورهم متواضع.
صبحي حديدي في ندوة " الرؤية" : إشكالية المثقف في الوطن العربي أنه "يحمل السلم بالعرض" وكأنه يعند الطبيعة
الرؤية: أحمد بن سيف الهنائي
أكد الناقد والمترجم السوري صبحي حديدي أن المثقف العربي، يعيش في الغرب حالة من الانشطار بين واقعين، واقعه في الغرب، حيث ينبغي أن يخضع لقوانين علمانية و ديمقراطية ودولة القانون، وواقع امتدادات أصوله بالشرق، حيث عليه أن يراعي اعتبارات ليست دائما علمانية أو ديمقراطية.
وطرح حديدي إشكالية مهمة يعيشها المثقف العربي عندما قال إن المثقف المقيم في العالم العربي يعاني من معضلة شاقة، لأنه "يحمل السلم بالعرض" وكأنه يعاند الطبيعة، ربما لأنه في الغرب لديه فرصة المناورة بسبب تمتعه بالحرية .
وأعرب حديدي خلال الندوة التي نظمتها جريدة الرؤية، والتي أدارها حاتم الطائي رئيس التحرير وخالد عبد اللطيف مدير التحرير والأديب والسينمائي عبد الله حبيب عن اشتياقه لوطنه بعد حياة المنفى الطويلة التي عاشها خارجه، مؤكدا أنه يتواصل مع أبناء بلدته في كل دولة يزورها لمقاومة الغربة والبقاء على الأمل.
ويعد صبحي حديدي واحدا من أهم المترجمين والنقاد العرب في الوقت الراهن، ولد في القامشلي، سوريا، عام 1951، لوحق لأسباب سياسية، فكان الخروج هو الحل، وظل متنقلا بين لندن وباريس، حتى استقر في فرنسا، ونشر العديد من الأبحاث النقدية والترجمات في دوريات عربية وأجنبية مختلفة، وقدّم دراسات معمّقة في التعريف بالنظرية الأدبية والمدارس النقدية المعاصرة (الخطاب ما بعد الاستعمار، إعادة قراءة فرانتز فانون، القارىء والقراءة والاستجابة، الموضوعة الغنائية، الحديث وما بعد الحداثة، كما نقل إلى اللغة العربية العديد من الأعمال في الفلسفة والرواية والشعر والنظرية النقدية، بينها مونتغمري واط: "الفكر السياسي الإسلامي"؛ وكين كيسي "طيران فوق عشّ الوقواق"، ورواية، ميشيل زيرافا "الأسطورة والرواية"، ورواية "ضجيج الجبل" لياسوناري كاواباتا، وغيرها من الأعمال
ابتدأ صبحي بالحديث عن المنفى، بعد أن باغته حاتم الطائي بالسؤال عنه، وعن تشكيل المنفى لحركة الإبداع الكتابية، ومساهمة من اشتهر فيه من كتاب أمثال إدوارد سعيد، فالمنفى كون طاقة إبداعية كبيرة لديهم، فقال: المنفى قضية تعرفونها جيدا، ولا أريد أن أتطرق إليها كثيرا، لكنني سأتحدث عن نهايات المنفى، بادئ ذي بدء أنا لم اختر المنفى ولم ينفني أحد بالمعنى المباشر، لكني لأسباب سياسية لوحقت في بلدي وقضيت فترة طويلة من بالحياة السرية، وأصبح خروجي من البلد بمثابة حل للآخرين، فقد شكلت عبئا على الآخرين؛ بدءا من والدتي وانتهاءً بمن حولي، فكان رحيلي من سوريا إلى بلد أوروبي هو الحل ، بالتالي بدأ المنفى إذا شئتم من هذه الزاوية، هو منفى طوعي، ولكنني لم أذهب إليه لأسباب إرادية كانت أم قسرية. للمنفى أكثر من وطأة وأكثر من عذاب، لكن أيضا إذا كان المرء قادرا على استبصار رؤية محددة لوجوده وآفاق هذا الوجود، أظن أنه يستطيع تطويع عذابات المنفى لكي لا أقول يستطيع استثمار الثروات الكثيرة التي يمنحها المنفى، الثروات على مستوى الوعي وعلى مستوى العقل وعلى مستوى تطوير الذات وعلى مستوى التربية الإنسانية، فعلى سبيل المثال أنا مدين للمنفى على الأقل لتطوير وعيي في مستوى علاقتي مع أطفالي أو زوجتي أو في مستوى تطوير تربيتي الديمقراطية وطبيعة علاقتي بالآخرين وفهمي لمسألة التعددية. لذلك أستطيع القول أن وطأة المنفى عليَّ لم تأخذ الشكل التقليدي أو بالمعنى التقليدي تأخذ صفة المشاق والعذابات فقط، وإنما أنا أعترف أنني في السنوات الأخيرة أفلحت في تطوير منفاي وتحويله إلى صيغة إيجابية لا تمنعني البتة من التواصل مع وطني وأهلي ليس في سوريا فحسب، وإنما على مستوى العالم العربي، والدليل أنني أتعاون معكم ومن جهة أخرى لم أنعزل عن البلد الذي أنا فيه، أنا لست على الإطلاق منعزلا عن الثقافة الفرنسية وعن الحياة السياسية والاجتماعية الفرنسية، لأني لا أستطيع أن أكون عابر سبيل أو غريبا رغم أنني فعلا عابر سبيل وغريب مهما بقيت في فرنسا، لكنني لا أستطيع إلا أن أنتمي أو أتابع ما يجري في هذا المجتمع.
يواصل صبحي حديثه قائلاً: أذكر عبارة جميلة لإدوارد سعيد عندما حاورته حوارا مطولا عام 1995م وطلب مني أن أجعل عبارة "المنفى حقل كريم" عنوانا للحوار بالنسبة لإدوارد سعيد الذي قضى كل هذه السنوات ولديه حالة الاقتلاع من الجذور سواء على صعيد الوطن أو على صعيد اغترابه الفكري والسياسي واللغوي، فقد توصل إلى نتيجة أن هذا المنفى كان بالنسبة له وعاء حوى كل عذاباته وكل ما لقيه هو وسواه من ضنك، وبالتالي التأثير على الكتابة أغلب الظن أُعتبر أنه إيجابي على أكثر من صعيد، إذا أردتم محصلة أو موازنة بين تأثيرات المنفى والمستوى السلبي والإيجابي، أظن أن المستوى الإيجابي أكثر بكثير، ونتذكر دائما أن المنافي لها خصوبة خاصة في إطلاق طاقات التغيير، للتذكير فقط أخال أن كبار الأنبياء لمختلف الديانات الروحية توفوا على هذا النحو أو ذلك، ومنهم الرسول محمد لولا الهجرة وهي شكل من أشكال النفي وهو شكل من أشكال الإبداع حتى في العمل السياسي وفي تنظيم التبشير للدعوة، وبالتالي للمنفى من جانبي على الأقل خصوصية إطلاق الطاقات، وهناك جانب آخر أساسي وهو ترويض المرء بطريقة قد تكون مرهقة ومتعبة على أن يحترم الهويات الأخرى بالقياس إلى هويته من جهة وأن يقبل بالتعددية، ثم ألا يعتقد أن هويته جوهرانية وخالصة وصافية تماماً، وبالتالي ينظر إلى الآخرين بأي شكل من أشكال الدونية أو التفوق أو الاستعلاء.
لا وجود لهوية صافية
واستطرد حديثه عن مفهوم "الهوية ليست جوهرانية" بالقول: نحن مثلا في تربيتنا في بلد مؤدلج مثل سوريا أو معظم البلدان التي كانت فيها أنظمة سياسية قومية، يتم التركيز فيها على القومية باعتبارها قومية صافية عليا نقية جوهرانية ليست بها شوائب، ويوجد تعبير فلسفي عند البعثيين في سوريا ينص على أن "العربي سيد القدر" وشعار البعث: "الأمة العربية الواحدة ذات رسالة خالدة" هذا التثمين المبالغ به في الذات القومية، سواء كان بشكل مباشر أو غير مباشر يعلي هذه القومية وهذه الذات على الآخرين، وبالتالي تصبح جوهرانية تتحلى بجوهرٍ صافٍ وفي الحقيقة ليس هناك هوية صافية على الإطلاق، وفي الأصل هذا مناقض للإنسانية وللتطور الإنساني، الهوية غناها في تعددها وفي اختلافها وفي تلاقح عناصرها من خلال هذا الاختلاط المتوازن.
ثم عقب الكاتب عبدالله حبيب، فقال: هذه العملة قد يكون لها وجه آخر، هو أن الجميع عانى من الشوفينية القيمية الضيقة "وأقصد تجربة القومية العرب على الأقل" وكان هذا على حساب أقليات أثنية وأقليات عرقية وأقليات جندرية...الخ؛ كبح جماح هذه الجوهرانية وهذا الشعور بالتفوق كأنك تقول "إنه شعب الله المختار" لكن بإخفاق المشروع القومي في بدايات ما بعد الحداثة نتج النقيض من تشرذم وعدم الإحساس بالانتماء وعدم الإحساس بالهوية، هذا يشكل أحد التحديات التي واجهت الثقافة العربية، فأصبح المفكر السوري كسوري والمفكر المصري كمصري والعماني كعماني، هنا شكل إشكالية توحيد الشعور والإحساس بالانتماء لمصير معين، فالأوروبيون على اختلاف دياناتهم ولغاتهم وتوجهاتهم ومعتقداتهم لديهم اتحاد أوروبي.
الاتحاد الأوروبي ائتلاف لمصالح اقتصادية
وأضاف صبحي حديدي : أعتقد عند الحديث عن مستوى علاقة الفرد بالثقافة وعلاقته بالهوية، ربما تكون المسألة أكبر وبالتالي شبكاتها مختلفة قليلا بما يخص الأمم، التي يمكن أن تتلاقى أو تتفارق حول هذه أو تلك من العناصر. برأيي بالنسبة للاتحاد الأوروبي في صيغته الراهنة هو ائتلاف مصالح اقتصادية ربما تكون موضوعية أو ربما تكون قسرية بمعنى الحاجة إلى المصلحة وحسن استثمار المصالح، فعلى مستوى الأقوام يكفي أن أعطيك مثالاً ليس في الإشكالات بين ألمانيا وفرنسا كتكتلين، لا، بل بين جنوب فرنسا على سبيل المثال وشمال ألمانيا، بل داخل فرنسا بين الباسك والوسط والشمال، أذهب إلى مثال آخر وهو بلجيكا التي توشك على التشظي الآن ونحن نتحدث بلجيكا كانت اتحادا خلال التجربة الاستعمارية توحدت لغاتها الثلاث وشعوبها الثلاث وثقافاتها، فهي ثلاث دول في واحدة فالإمبراطورية ومصالحها واستثمار الحديد والعاج جعلهم يتجهون للوحدة والآن يفكرون في الانفصال إلى ثلاث قوميات لسبب أساسي، هو أن هناك قومية ثرية جدا وهناك قومية متوسطة إلى جانب وجود قومية فقيرة، ولأنه نظام ديمقراطي وتكافلي، فالقومية الغنية تشعر أنها تنفق على القوميتين الأخريين، بالإضافة إلى استيقاظ الأشباح الأثنية، الحقيقة أن الأشباح الأثنية تعود مرة أخرى، ففي احتفال ألمانيا الأخير بذكرى توحيد ألمانيا، تبين أن العديد من الشرائح في الشرقية السابقة والغربية السابقة ليسوا سعداء اثنيا اقتصاديا، ربما جرى التوافق على صيغة معينة لخدمة الشعبين، لكن بالمعنى الأثني هناك حساسيات بالرغم من أن انجيلا ميركل أصلها ألماني شرقي، أعتقد فيما يخص الأمم المسألة لم تحل بعد حتى الآن وخصوصا أوروبا باعتبارها كانت أمم دول وأمم قوميات، بالإضافة إلى ما سيفرزه التاريخ من تناقضات قادمة، أظن إذا أفلحت روسيا في استقطاب بعض مراكز نفوذها السابقة، وربما يتخذ الاستقطاب صفة معسكرين ليس كالسابق معسكر رأسمالي واشتراكي، وإنما معسكران لهما علاقة بتقسيمات أثنية وقومية وأحيانا يصاب المرء بالعجب إنه بعد كل هذه الثقافة التحررية وثقافة تجاوز العناصر القومية، وهذا ليس على صعيد الأمم فقط، وإنما على صعيد الأفراد، قد ترى نماذج لا تفكر أنها ألمانية أو بلجيكية أو هولندية، فهو يشعر تماما من العدمية القومية تماما، لكن عندما ينخرط بعمل فيه صفة الأمة تشعر أن انتماءه استيقظ، وهي انتماءات قديمة تعود إلى قرون سابقة.
الانشطار بين واقعين
تطرق صبحي أيضاً في الندوة إلى دور المثقف في الغرب ومساحة عملية التنوير في ظل العولمة، إذ يقول: لكي أكون صادقا معكم، فالمثقف العربي في الغرب (غريب الوجه واليد واللسان) وهو جزء مما يجري ويعيش حالة من الانشطار بين واقعين أو حالين: حالة في الغرب، حيث ينبغي أن يخضع لقوانين علمانية وقوانين ديمقراطية ودولة القانون وحال امتداداته في أصوله بالشرق، حيث عليه أن يراعي هذه أو تلك من الاعتبارات التي ليست دائما علمانية أو ديمقراطية، هو نوع من الانشطار ليس انشطار الذات وقد يكون علمانيا أو ديمقراطيا في أعماقه، لكن سلوكه ليس دائما انعكاسا صحيحا لقناعته، مثلا أن يكون علمانيا مثقفا في فرنسا ليس بالضرورة أن يتحلى بنفس العلمانية في سلطنة عمان، وبالتالي يجب عليه موضوعيا أن ينشطر، وبهذا المعنى ربما يجد نفسه عاجزاً عن أدائه الوظيفي كمثقف مستنير وطليعي يجب أن يؤدي واجبه، هناك كثيرون من يشار إليهم بالبنان في التجاوز، ولكن تظل هذه حالات فردية لكن في الحقيقة دورهم متواضع.
تعليق