( 8 )
كان التفكير في القرن التاسع عشر مغالياً في التفاؤل ولعل السبب في ذلك، أننا جميعاً بما في ضمننا المؤرخون قد أخذنا نعتقد بأن التقدم هو القانون الحتمي للحضارة. وعلى الرغم من وجود فترات من التوقف، ومن الإنتكاسات المؤقتة، فقد كان ثمة شئ في طبيعة العالم وفي طبيعة الإنسان، يجعل الحضارة تسير في طريق إنساني مرغوب فيه. وإتجه التفكير في القرن التاسع عشر إلى الناحية القومية بصورة بالغة، وإكتسبت جميع كتب التاريخ التي وضعت في هذا القرن صورة قومية أيضاً. وعندما تناول المؤرخون وضع الدول القومية، تتبعوا أصولها الخام من عهد البرابرة الشعبية حتى عظمتها، وأصبح الشعب يعتبر أداة القدر للتقدم والإزدهار. وعندما تطرقوا إلى بحث الشعوب الأخرى، التي لم تتحقق لها وحدتها إفترضوا أن سير التقدم قد تأخر بفعل حكام محليين أنانيين، مؤكدين إنها ستصل حتماً وعما قريب إلى مرتبة القومية. وإنتشر الإفتراض العام بعد تحقيق الوحدتين الإيطالية والألمانية، بأن البشرية أصبحت متأهبة الآن للخطو نحو الأمام خطوة واسعة وإستمر هذا الإتجاه الفكري الذي ينطوي عامة على القومية وروح التفاؤل طيلة أيام الحرب العالمية الأولى. ولعل خير ما يوضح إيماننا بأن الشعب وحدة فطرية هو قبولنا دون تحفظ للمبدأ القائل بالحق القومي في تقرير المصير. وأصبح من المفروض أن الشعب كالملك في النظريات السياسية السابقة لا يمكن له أن يخطئ أبداً. لكن إضطهاد الأقليات في الدول القومية ذات المصير الحر، وظهور الفاشية الوطنية، وفشل عصبة الأمم بعد عشرين سنة من قيامها، كلها عوامل أدت إلى صدمة قاسية أيقضتنا بما فينا من مؤرخين وعلماء سياسة، وتلقت الفكرة الجديدة القائلة بأن الشعب ليس " بالوحدة الخيرة " تأكيداً جديداً من تطور نشأ بعد الحرب العالمية الأولى. فقد قام كارل ماركس بتفسير التاريخ من جديد حوالي عام 1850م، وإحتفظ ببعض نظريات هيغل القائلة بأن قوى التاريخ لا تخضع لتوجيه الإنسان وإنما تعمل تلقائياً وآلياً. وأسقط ماركس الله من حسابه، على أساس إنه لا إفتراض جدوى منه، وفسر التاريخ تفسيراً يقوم على عداد القومية. وعلى الرغم من أن نظريات ماركس قد أصبحت في حينها موضع الكثير من الجدل والنقاش، إلا إنها إكتسبت أهمية سياسية من الطراز الأول بعد إعتناق الروس السوفيات لها، وإضفائهم عليها نواة ومركز قوميين. ووضعت هذه التطورات نهاية للتفكير الذي ساد القرن التاسع عشر. وإختفى من الوجود الإصلاح الذي طالماً تردد في القرن بصورة مقبولة. وهو إصطلاح " عائلة الشعوب ". وإذا كانت هناك عائلة من هذا النوع، فإنها ولا شك عائلة شقية وتعسة. ولو تحمل أي منا مشقة الإطلاع على خرائط أوروبا وآسيا عام 1910م وقارنها بخرائط عام 1930م ثم عام 1950م لأذهله ما فيها من إستمرار في إنتقال الحدود، وظهور دول جديدة وإختفاء أخرى. وتوصل إلى النتيجة المحتومة بأن عالمنا المزدحم والمتشابك يضم دولاً قومية في القرن العشرين، لا تختلف من ناحية ما فيها من عدم إستقرار وفوضى عن الأوضاع التي كانت سائدة في دول المدن في إيطاليا في أيام مكيافللي.
تعليق