الصلح بين الناس هو خير تصفى فيه القلوب المتخاصمة، وهو مقدمة لنهاية النزاع، وبه ومن خلاله تُصان كرامات الناس، وتُحفظ به المجتمعات من الخصام والتفكك، وينتشر الامن والاستقرار بين أفراد المجتمع، كذلك يبني الصلح جسور التواصل والمحبة ويقضي على العداوة.
ويُعتبر مصدر الصلح هو الشريعة الإسلامية والقانون المدني، والصلح في مفهومه الشرعي والقانوني هو إنهاء الخصومة بين الأطراف المتنازعة، وفي الفقه المالكي، هو انتقال حق أو دعوى لرفع نزاع أو خوف وقوعه، وفي الفقه الشافعي، هو الذي تنقطع به خصومة المتخاصمين، وفي الفقه الحنبلي و معاقدة يتوصل بها إلى موافقة بين مختلفين، وفي الفقه الحنفي، هو عقد يرتفع به التشاجر والتنازع بين الخصوم، وهو منشأ الفساد والفتن، كما يُعتبر الصلح وسيلة من الوسائل البديلة لحل النزاعات والخلافات والخصومات بين الأطراف المتنازعة، فقد اعتبره الفقهاء عقد من بين العقود المسماة، ويخضع للقواعد العامة التي تطبق على العقود، ويجب أن تتوفر فيه أركان العقد مثل الرضا والمحل والسبب.
الصلح هو كل أمر أو تصرف أو حركة أو سلوك أو مسعى من المساعي يقوم به الفرد أو الجماعة، ويوفق بين الناس، ويتحقق من خلاله رفع النزاع أو المنازعات والخلافات، أو وقف القتال بين الناس أو رفع الخصومات الواقعة أو المحتملة وفق الشروط التي وردت في القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة والصلح يعتبر من أعظم أعمال البر والخير العظيمة التي أمر الله تبارك وتعالى بها، وحث عليها الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، في سنّته المطهرة، وجعل تحقيقه من أعمال الخير المطلقة، والقيام بالصلح من فروض الكفاية وحكم القبول به من الأطراف المتنازعة، أحكاماً تكليفية ومقصداً من مقاصد الشريعة الإسلامية، فقد يكون واجباً وقد يكون مستحباً وقد يكون مباحاً أو محرماً وقد يكون مكروهاً، ولا خلاف بين الفقهاء فى جواز الصلح على القصاص وأن القصاص يسقط بالصلح: ويصح أن يكون الصلح عن القصاص بأكثر من الدية وبقدرها وبأقل منها، والأصل فيه السنة والإجماع.
وعملت القوانين الوضعية بموجب الصلح، فكان الصلح في القانون الفرنسي: عقد يحسم به المتعاقدان نزاعاً قائماً أو يتوقيان به نزاعاً محتملاً، أما في القانون المصري: الصلح عقد به يترك كل من المتعاقدين جزءاً من حقوقه، على وجه التقابل لقطع النزاع الحاصل أو لمنع وقوعه، أما تحديد معايير النزاع، فقد ذهبت طائفة من الفقهاء إلي أن المعيار ذاتي محض أي أن العبرة بما يقوم في ذهن كل من الطرفين لا بوضوح الحق في ذاته فالمهم أن يكون هناك نزاع جدي ولو كان أحد الطرفين هو المحق دون الآخر وكان حقه واضحاً ما دام هو غير متأكد من حقه، وذهب البعض إلى أن النزاع يعرض في حالة وجود مسألة قانونية محل خلاف بين الطرفين وأنه لا يهتم بعد ذلك أن يكون الصلح الذي أبرمه الطرفان بشأن هذه المسألة قد يوافق حكم القانون أو يخالفه ويعدون هذا بأنه لا يجوز الطعن في الصلح بسبب غلط في القانون.
وتأتي أهمية الصلح في الفقه الإسلامي بأنه لعقد الصلح مكان الصدارة من بين سائر العقود في الفقه الإسلامي ، ذلك أن هذا العقد يأخذ صوراً شتى في المعاملات المالية فتارة يتمخض عن كونه عقد معاوضة بيعاً أو سلماً أو إجارة. وتارة أخرى يؤول إلي عقد من عقود التبرع وتارة ثالثة يتمخض عن محض إبراء أو إسقاط، أما في القانون الوضعي، أثار عقد الصلح جدلاً كثيراً منذ عهد القانون الفرنسي القديم واشتهرت دراسته بالصعوبة والغموض ومع ذلك اعتبر من أهم العقود الواردة في مجموعة جستنيان وأكثرها فائدة ولم تهدأ الخلافات بشأن هذا العقد بصدور التقنين المدني الفرنسي في مطلع القرن التاسع عشر بل ظلت قائمة وتتركز هذه الخلافات بصفة خاصة حول ماهية محل الصلح وسببه وما وجه إلى تعريفه الوارد في التقنين من نقد وما انفرد به من قواعد خاصة بقاعدة عدم جواز الطعن في الصلح لغلط في القانون وتأصيل هذه القاعدة وبيان الأساس القانوني لها وكذلك ثار خلاف بين الفقهاء بشأن الطبيعة القانونية لعقد الصلح في حسمه للنزاع هل هو كاشف للحق المتنازع عليه أو ناقل له أو هو ذو طبيعة مزدوجة.
أيضاً، قد يتم الصلح بين الخصوم قبل رفع الدعوى أمام القضاء، وفي هذا وذلك تخفيف للعبء الواقع على القضاء، كما أن إنهاء الخصومة صلحاً فيه تخفيف كبير عنهم ذلك أن إجراءات التقاضي فيها كثير من التعقيد والمشقة كما أنها تستغرق وقتاً طويلاً وتكاليف باهظة، وفي هذا عنت للخصوم واستنزاف لجهودهم وأموالهم، كما أن حسم النزاع بين طرفي الخصومة كعقد الصلح أدعى إلى الإنصاف وأدنى إلى تحقيق العدالة ذلك أن طرفي الخصومة هما أعلم من غيرهم بمعرفة استحقاق كل منهم فيما يدعيه أو فيما يدعي عليه لأن كلا منهما يعلم في قرارة نفسه حقيقة مركزه القانوني إزاء النزاع القائم بينهما، وقد شاع في المثل الفرنسي أن الصلح السيء خير من الخصومة الجيدة، والأهم أن عقد الصلح بإنهائه للنزاع القائم أو المحتمل بين طرفي الخصومة إنما يسهم بحق في تحقيق السلام الاجتماعي وإشاعة الأمن بين أفراد المجتمع ذلك أنه يستأصل الخصومة ويؤلف بين القلوب المتنافرة ويضع حداً لما تتركه الخصومات من أحقاد في النفوس وضغائن في الصدور وشقاق بين أفراد الأسرة الواحدة.
ويعالج الفقه الإسلامي عدة أمور من نواحي الصلح مثل: الصلح بين المسلمين وغير المسلمين، وتتناوله كتب الفقه عادة في باب الجزية والهدنة والأمان وظاهر أن ذلك يدخل حالياً في القانون الدولي العام، كذلك الصلح بين الإمام والبغاة، أي بين الفئة العادلة والفئة الباغية ومحله في باب البغاة وذلك يدخل في قسم القانون الدستوري والجنائي حالياً، أيضاً الصلح في الجنايات، ويبحث إما في باب الصلح أو في باب الجنايات وغني عن القول أنه لا يجوز الصلح في جرائم الحدود بينما يجوز في جرائم القصاص والتعازير كقاعدة عامة، والصلح في قضايا الأحوال الشخصية، وأهمها الصلح بين الزوجين، كذلك الصلح في المعاملات المالية، أي ما كان بسبب المال المدعي وهو المصالح عليه معاملات مالية كالبيع والشراء والإجارة والشركة، وبحسب الفقهاء وضح أن الصلح في المعاملات المالية إما أن يقع بيع (أو في معني البيع) ، أو إجارة (أو في معني الإجارة) أو هبة (أو في معني الهبة) فهو يقع بيعاً إن كان العوضان عيناً . ويقع إجارة إن كان أحد العوضين فيه منفعة ويقع الهبة (أو في معني الهبة) إن كان العوض فيه من جانب واحد.
من هنا، إن الفرق بين السبب في عقد الصلح في كل من الفقهيين الإسلامي والوضعي من حيث اعتبار إرادة إنهاء النزاع عنصراً مشتركاً مع ملاحظة أنه في الفقه الإسلامي إذا كان عقد الصلح في معنى المعارضة فإن سببه هو إرادة إنهاء النزاع والحصول علي البدل أو العرض الذي التزم به المتعاقد الأآخر أما إذا كان عقد الصلح في معنى التبرع فإن سببه هو إرادة إنهاء النزاع بنية التبرع المشروعة وهذا التحليل يتفق مع نصوص الفقه الإسلامي.
عبد العزيز بدر القطان*
*كاتب ومفكر – الكويت.