في ملحمة إنسانية غير مسبوقة منذ تفشي فيروس كورونا في مطلع هذه العام تتشابك الأيادي وتتوافق النوايا وتتوحد جهود حكومات دول العالم ومنظمات الإغاثة الإنسانية وشركات عالمية عملاقة بالإضافة إلى الأمم المتحدة لإيجاد حلول عاجلة لإنقاذ ما يمكن إنقاذه من المصابين الذين يقدر عددهم بأربعة ملايين مصاب، بينما تجاوزت الوفيات مئات الآلاف في مختلف دول العالم؛ وهكذا تتضافر الجهود الدولية بوتيرة متسارعة للعمل تحت سقف واحد لإنقاذ البشرية من جائحة كورونا، وذلك تحت مظلة منظمة الصحة العالمية التي بدأت منذ فبراير الماضي بالتحضير لإجراء اختبارات سريرية من أجل إنتاج لقاح لهذا الوباء، على أن يتم توزيعه على جميع الشعوب والدول بلا استثناء. فقد اختارت المنظمة الدولية 400 عالم مختص في مجال البحوث المتقدمة في مجال الفيروسات، وذلك من خلال تطوير أكثر من 30 لقاحا، بهدف الحصول على مضاد للفيروس.
وقد دعا رئيس منظمة الصحة العالمية تيدروس أدهانوم غيبريسوس دول العالم الغنية إلى التبرع بسخاء خلال الاجتماع التاريخي الذي عقد الأسبوع الماضي واستضافته المفوضية الأوروبية عن بعد عبر الاتصال المرئي والذي ضم 40 من قادة دول العالم، تحت مسمى:(الاستجابة العالمية لجائحة فيروس كورونا المستجد كوفيد 19). وتحاول القارة العجوز استعادة المبادة والظهور بمظهر المتماسك والقوي بعد تعرض صورتها للاهتزاز في أعقاب الانتقادات اللاذعة التي تعرضت لها من بعض أعضاء الاتحاد الأوربي خاصة إيطاليا وإسبانيا اللتين تعرضتا لكارثة جائحة كورونا مما أدى إلى وفاة عشرات الآلاف؛ في ظل غياب شبه تام لمد يد العون للمتضررين من المفوضية الأوروبية والدول الكبرى في الاتحاد كألمانيا وفرنسا. وبالفعل أعلنت رئيسة المفوضية الأوروبية أن الدول المانحة تعهدت بتقديم أكثر من 8 مليارات دولار لتمويل عمليات البحث عن لقاح للفيروس. وكانت أكثر الدول مساهمة في هذا الصندوق كندا التي أعلنت عن دعمها بمبلغ وقدره 850 مليون دولار، في حين وافقت اليابان على تقديم 834 مليون دولار، بينما ساهمت دول الاتحاد الأوربي بالجزء الأكبر من هذه المليارات خاصة ألمانيا وفرنسا.
وقد قدمت لجنة الطوارئ في منظمة الصحة العالمية تصور لتوزيع المبالغ التي وعدت بها الدول المانحة على النحو الآتي: “أنه سيتم تخصيص مبلغ 1.25 مليار يورو من الصندوق لمنظمة الصحة العالمية من أجل مساعدة البلدان الضعيفة، ومليارين للبحوث وتطوير اللقاحات، ومليار يورو للمساعدة على إنتاجها وتوزيعها. وكذلك تطوير وإنتاج العلاجات وتوزيعها سيحتاج إلى 2.25 مليار يورو، إضافة إلى 750 مليون يورو لتمويل وسائل التشخيص، و750 مليون يورو لتخزين معدات الوقاية واللقاحات”. وقد ثمن الأمين العام للأمم المتحدة هذه القيادة الدولية المشتركة التي يحتاج العالم إليها اليوم أكثر من أي وقت مضى، ولكنه قال إن منظمته تحتاج إلى 40 مليار دولار وليس فقط 8 مليارات، وذلك لضمان تطوير وإنتاج وتوصيل اللقاح والعلاجات والتشخيص عند إنجازها لتوزيعها على جميع دول العالم.
ولم تكن هذه المساهمات مقصورة على الدول، بل قدم العديد من المشاهير وأصحاب الشركات الكبرى أيضا تبرعاتهم السخية لهذه الأزمة الإنسانية، إذ تبرع (بيل جيتس) ثاني أغنى رجل في العالم، بمبلغ قيمته 100 مليون دولار للمساعدة في اكتشاف الفيروس، وتوفير الحجر الصحي والأبحاث التي تُجرى لإيجاد لقاح للوقاية من المرض، كذلك تبرع (لي كا شينج)، أغنى رجل أعمال في هونج كونج، بمبلغ قدره 13 مليون دولار للعاملين في القطاع الطبي في مدينة (ووهان) مصدر انتشار الفيروس في وسط الصين.
وعلى الجانب الآخر، من هذا التكاتف والتضامن العالمي، تتبادل الولايات المتحدة الأمريكية والصين الاتهامات حول تصنيع هذه الفيروسات مخبريا والتستر على انتشاره. وفي نفس الوقت يعمل العملاقان الاقتصاديان جاهدان للاستفادة من هذه الأزمة بهدف جنى مزيد من الأرباح بأي طريقة كانت؛ فقد هدد الرئيس ترامب منظمة الصحة العالمية بقطع المساعدة عنها والتي تقدر 400 مليون دولار سنويا وتشكل 15% من موازنة هذه المنظمة التي تعمل جاهدة على مساعدة دول العالم خاصة الفقيرة منها؛ متهما إياها بالتقصير ومحاباة الصين، ولم يقتصر الأمر على ذلك، بل استدعى ترامب على جناح السرعة، الرئيس التنفيذي للشركة الالمانية (كيورفاك) للبيت الأبيض وعرض عليه مليار دولار للحصول على الحقوق الحصرية للقاح الذي يتم الان إنتاجه في المعامل الألمانية، والذي يتوقع ان يكون جاهزا في أكتوبر القادم، ولكن الحكومة الألمانية رفضت العرض وقالت: “إن ألمانيا ليست للبيع”. أما الصين التي كانت، موطن المرض، فقد بدأت بإجراء تجارب سريرية لإنتاج لقاح الذي من المتوقع أن يكون جاهزاً بعد عام ونصف من الآن. وقد تصرفت الصين مثلها مثل الولايات المتحدة الامريكية بأنانية مطلقة وجشع زايد، وذلك من خلال بيعها للمستلزمات الطبية في السوق السوداء، واستغلالها للدول المحتاجة لأجهزة التنفس والكمامات والأقنعة الواقية، إذ يتم تغيير هذه الصفقات بعد بيعها عدة مرات لمن يدفع اكثر ولعل نتذكر جميعا محاولة السلطنة شراء 200 جهاز صناعي من الصين ولكن وقبل ساعة من إرسال المبلغ تم بيع الأجهزة إلى دولة ثانية دفعت أكثر. وقد استفادت الصين بالفعل من حاجة معظم دول العالم لأجهزة التنفس بشكل خاص، حيث تعمل مصانعها على مدار الساعة في عدة مناطق في البلاد، لتلبية احتياجات الصين الداخلية، والتصدير للخارج ويقول: (لي كاي)، مدير شركة بكين أيونميد: “لا يوجد بلد في العالم لا يريد شراء جهاز تنفس من الصين، الآن. لدينا عشرات الآلاف من الطلبات تنتظرنا” وتقدر المبالغ التي جنتها الصين من بيع أجهزة التنفس اكثر من 300 مليون دولار خلال شهر ابريل الماضي فقط.
وعلى العكس من الصين وأميركا، وكبادرة إنسانية أعلنت شركة (ميدترونيك) التي تتخذ من إيرلندا مقرا لها إسقاط الحقوق الملكية الفكرية الخاصة بأجهزة التنفس الصناعي التي تملكها لجهاز (PB560) من خلال المشاركة العلنية لمعلومات التصميم عبر حساباتها الرسمية على موقعها على الانترنت، وذلك لمساعدة دول العالم وتشجيعها على ابتكار خيارات لتصنيع أجهزة التهوية السريعة على جناح السرعة. وتكمن أهمية أجهزة التنفس الصناعي الطبية بأنها تقوم بضخ الأكسجين إلى الرئتين وإزالة ثاني أكسيد الكربون من الجسم. ويحتاج بعض المرضى المصابين بالفيروس التاجي إلى الجهاز، لأن مستوى الأكسجين في الدم ينخفض بشكل كبير، وهو ما يسبب تلفًا للأعضاء ويهدد الحياة. وتبلغ قيمة هذا الجهاز الذي أصبح عملة صعبة هذه الأيام حوالي ألف وخمسمائة دولار أميركي.
عربيا، يقف العالم العربي في موقف المتفرج من هذه المبادرات والجهود الدولية، فمساهمات هذه الدول العلمية والمالية قليلة أو معدومة، فهي كالعادة تنتظر ما يجود به الغرب والأمم المتحدة على شعوبها من علاجات أو لقاحات في قادم الأيام، وسبب في ذلك يعود إلى انشغالها بالحروب العبثية وصرف مبالغ طائلة من موازناتها على شراء الأسلحة بينما لا يتجاوز الإنفاق العلمي في المنطقة العربية 1% من إجمالي إنفاقها العام.
لقد حان الوقت للعرب أن يكون لهم بصمة ودور واضح في هذه الجهود الدولية الخيرة من خلال مساهمتهم المالية، وكذلك مشاركة الخبراء والمختصين من كليات الطب والمراكز العلمية مع نظرائهم في العالم تحت مظلة منظمة الصحة العالمية لإنتاج العلاجات واللقاحات المضادة لفيروس كورونا.
د. محمد بن عوض المشيخي- أكاديمي وبحث مختص في الرأي العام والاتصال الجماهيري