لقد مر التاريخ الإسلامي عامة والأموي خاصة بالعديد من الثورات والاضطرابات السياسية، عملت على ضعضعة الدولة الأموية في أيامها الأخيرة، وسقوطها بيد العباسيين في 132هـ/750م. ولعل الثورات التي قادتها القبائل العربية كان لها النصيب الأكبر من القوة، اذ امتد ظلها لاحقا في مساندة أبناء وأحفاد من وقع عليهم غضب الدولة في الدخول في حلف العباسيين الراغبين كما أعلنوا “النصرة لآل محمد”، ومن هؤلاء كان آل المهلب بن أبي صفرة. وسنحاول خلال الأسطر الآتية توضيح بداية النهاية لنفوذ آل المهلب في الدولة الأموية الذين كانوا من كبار قادتها العسكريين وإدارييها المحنّكين.
تبدأ الأحداث مع وصول الخليفة عمر بن عبد العزيز(ت:101هـ/720م) إلى كرسي الخلافة، الذي عزل يزيد بن المهلب عن ولاية خراسان وحبسه بحجة عدم إرساله خراج خراسان للشام، ومع اشتداد مرض الخليفة عمر بن عبدالعزيز الذي توفى به، ولخشيته من ولي العهد يزيد بن عبدالملك(ت:105هـ/724م)عند توليه الخلافة، هرب يزيد بن المهلب من السجن. وتعود أسباب الخلاف بين اليزيدين إلى أيام الخليفة سليمان بن عبد الملك (ت:99هـ/717م)، فزوجة يزيد بن عبد الملك هي ابنة أخِ الحجاج بن يوسف، وكان سليمان بن عبدالملك قد أمر يزيد بن المهلب بتعذيب أقرباء الحجاج، ومنهم زوجة يزيد بن عبدالملك، ولم تنفع شفاعة يزيد الثاني عند يزيد ببن المهلب، فهدده يزيد بن عبدالملك فرد عليه يزيد بن المهلب: لئن وليت أنت لأرمينك بمائة ألف سيف، ففداها يزيد الثاني بمائة ألف دينار. وبالفعل ومع تولي يزيد الثاني أمور الخلافة في الدولة الأموية أخذت مأساة آل المهلب مساراً آخر. فقد أرسل الخليفة لواليه عديّ بن أرطأة الفزاري في البصرة يأمره بأخذ كلّ من قدر عليه هناك من بني عم يزيد بن المهلب وشيعته ويحبسهم، إلا أن يزيد بن المهلب وصل للبصرة في سنة 101هـ/719م، بقوة وصفها الطبري بأنها ” كتيبة تهول من رآها “، فأعلن ابن المهلب خلع يزيد الثاني وأخذ البيعة لنفسه من أهله ومن وفد إليه من أهل البصرة والكوفة وغيرهما، اللذين أغدق عليهم بالعطاء، حيث كان يقطع قطع الذهب والفضة لكل من أتاه من الناس، ووزع ما كان في بيت المال بين الناس كذلك، وبعث إلى عمّاله في الأهواز وفارس وكرمان ومكران والسند والهند وسائر البلاد فضمن ولائها. وبفشل ولاة الخليفة يزيد بن عبدالملك على العراق بالقضاء على ثورة ابن المهلب في بدايتها، قرّر الخليفة أن خير من ينهي هذه الثورة قائد جيوش الفتح الأمويّة ببلاد الروم، المشهور بناب بني أمية مسلمة بن عبدالملك بن مروان، أرسله في جيش وصل تعداده إلى سبعين ألفا، وقيل ثمانون ألفا على دفعتين في سنة 102هـ/ 720م، كان على القيادة العامة للجيش مسلمة بن عبدالملك، الذي أرسل حملة جانبية بقيادة العبّاس بن الوليد بن عبدالملك (ت:130هـ/749م) في أربعة ألاف فارس حتى الحيرة، واتّخذ مسلمة بن عبدالملك الحيرة مركزا للقيادة العسكريّة للقوات الأموية في العراق.
في هذه الأثناء بدأ يزيد بن المهلب الاستعداد لمقابلة الجيش الشامي. فترك أخاه مروان بن المهلب على البصرة، وأرسل لوداع بن حميد الأزدي واليا على قندابيل، ليستقبل أهله إن سارت المعركة ضده، وأخذ منه الأمان على ذلك. ورغم محاولات إخوة يزيد لحمله على أن يغيّر رأيه عن العراق ويتّخذ أماكن أخرى غيرها لمواجهة الأمويين، إلا أنّه أصرّ على الثبات في مكانه، وبعد أيام من المشاورات، توجّه يزيد بن المهلب ومعه أخيه عبدالملك حتى وصل منطقة قريبة من كربلاء تعرف بالعقر، وهي المنطقة التي اجتمع فيها الجيشان، وعلى رأسهما اثنين من خيرة القادة العسكريين والإداريين في الدولة الأموية، واللذان يشهد تاريخهما بذلك.
بعد سلسلة من المعارك القصيرة، بدأ الاشتباك الفعلي بين المعسكرين من يوم الجمعة الرابع عشر من صفر سنة 102هـ/720م، فاقتتلوا قتالا شديدا، كانت الغلبة فيه لجيش الشام، وهنا بحنكته وخبرته العسكرية، أمر مسلمة بن عبدالملك بإشعال الجسر الذي كان قد أمر بإنشائه حتى ظهر دخانه، والقتال في بدايته، فلما رأى الناس الدخان ظنوا أن جيش يزيد بن المهلب قد انهزم، فتشتّت جيش يزيد، وازداد القتل فيه، ليفجع يزيد بعدها بوفاة أخيه حبيب؛ فقال: لا خير في العيش بعد حبيب! قد كنت والله أبغض الحياة بعد الهزيمة فوالله ما ازددت له إلا بغضا. فأخذ يقاتل بكل شجاعة، وتفرق من كان حوله إلا جماعة قليلة، وتمكن رغم مرضه من إلحاق الهزيمة بجيش الشام ولو لوقت قصير، ودفعته حميته لقتال مسلمة بن عبدالملك مباشرة، فأطلق العنان لفرسه، وحين دنا منه أدنى مسلمة فرسه ليركب فعطف عليه خيول أهل الشام وعلى أصحابه، فُقتِل يزيد بن المهلب و معه محمد بن المهلب، وأخذ مسلمة رأس يزيد بن المهلب، وأرسله للخليفة يزيد الثاني بدمشق. ومع اختلاف الروايات في حقيقة ما حدث في العقر، إلا أنّ العبرة هي ما تلاها، فقد استمر المفضل بن أبي صفرة في قتال أهل الشام دون أن يدري بمقتل أخيه يزيد ولا بهزيمة الجيش، وفي رواية أخرى فإن عبد الملك بن المهلب أقبل للمفضل وهو كاره إخباره بوفاة يزيد فأخبره إن يزيد انحدر إلى واسط، وحين وصل المفضل واسط وعلم بوفاة يزيد حلف ألا يكلم عبد الملك وبالفعل لم يكلّمه حتى قتل في قندابيل. وهكذا انتهت حياة يزيد بن المهلب والعديد من أبناء المهلب بن أبي صفرة الذين كانوا سيف بني أمية ضد أعدائهم، والذين كانوا حماة عرش بني أمية بسيوفهم وأموالهم وأبنائهم، وكانوا ممن ساهم في الفتوحات الإسلامية في بلاد فارس وما وراء النهر، وصدق من قال: ” ضحّى بنو حرب بالدين يوم كربلاء، وضحّى بنو مروان بالمروءة يوم العقر”.
أما عن مصير بقية آل المهلب، فقد التقى التقى معاوية بن يزيد بن المهلب الذي كان استخلفه والده في واسط، في البصرة عمه المفضّل ومن بقي من آل المهلب، وقد أعدوا السفن البحرية وتجهزوا بكل الجهاز للتوجه لقندابيل والتي -كما ذكرنا سابقاً-التي أمنّها يزيد لأهله، إلا أن واليها خانهم فيها ولم يفِ بوعده ليزيد، بل ورفض ادخالهم للمدينة، فتكالبت الصروف على آل المهلب لدرجة رأى مروان بن المهلب أن يقتل النساء مخافة أن يهتك سترهن جراء القتال، إلا أنّ المفضّل منعه، وقال له: ويحك! أتقتل أخواتك ونساء أهل بيتك، إنا والله ما نخاف عليهن منهم. حينها لم يكن هناك مفر من القتال مرة أخرى، فاقتتلوا وقتلوا من عند أخرهم إلا أبا عيينة بن المهلب وعثمان بن المفضل فإنهما نجوَا، ولحقا بخاقان ورتبيل. في الوقت نفسه كانت هند وفاطمة ونفيسة بنات المهلب قصدن عمان بعد خروج آل المهلب من العراق، نظرا لوجود زياد بن المهلب فيها، وبقين في عمان حتى أتاهن أمان مسلمة بن عبد الملك فرجعن إلى البصرة. ويروى إن مسلمة بن عبدالملك بعث إلى هند بنت المهلب يخطبها، وكان رسوله إليها رجل يقال له سيّاف، فلمّا أبلغها الرسالة قالت: كفء كريم، ولكن أيأمني مسلمة على نفسه وقد قتل إخوتي؟، والله لو أن مسلمة أعاد فيهم الروح ما طابت نفسي بزواجه، وقد كنت أحسب لمسلمة عقلا. فانطلق الرسول إلى مسلمة فأخبره بمقالتها فقال: صدقت ابنة المهلب، وما كان إرسالي إليها إلا هفوة. ثم أقبل على من حضره من أصحابه فقال: كنت أحسب أن الشجاعة في رجالهم، فإذا هي في رجالهم ونسائهم جميعا.وحين قتل بقية آل المهلب بالشام تمثلت أختهم فاطمة بنت المهلب فقالت:
فإنّ الذي حانتْ بفلجٍ دماؤهمُ
همُ القومُ كلَّ القومِ يا أمَّ خالدِ
همْ ساعدُ الدَّهرِ الذي يُتقَّى بهِ
وما خيْرُ كفٍّ لا تنوءُ بساعدِ
أُسودٌ شَرىً لاقتْ أسودَ خفيّةٍ
يتساقُوا على حَردٍ دماءَ الأساودِ
وفي الختام وبعد استقراء روايات التاريخ العام حول أحداث هذه الموقعة، يتضّح أنّ هزيمة يزيد بن المهلب لم يكن سببها قلة خبرته العسكرية مقارنة بخبرة مسلمة بن عبدالملك، ولا عدد القوات التي حاربت معه، وإنّما – واتفق هنا مع رأي نجدة خماش – من أنّ عدم قدرة يزيد في استقطاب أهل الكوفة والبصرة وأشرافهما إليه. وربما السبب في ذلك يعود -كما يقول نجدة خماش- إلى السياسة السلميّة التي اتبعها ولاة عمر بن عبدالعزيز في تحالف أهل البصرة والكوفة وأشرافهما، لاسّيما وأن يزيد بن عبدالملك لم يعمد إلى عزلهما. ولعل أبرز نتائج هذه الثورة هي الضغينة التي حملتها القبائل اليمانية ضد الأمويين، مّما حدا بالكثير من المؤرخين كهاوتنج Hawting إلى القول: ” إن أهميّة ثورة ابن المهلب تكمن في تقويتها للانقسام القبلي الذي ستشهده الدولة الأموية … وقد اعتبر الكثير من اليمانية أن هزيمة ابن المهلب هي إهانة كبيرة لهم، وواحدة من أهمّ عوامل مساندة القبائل اليمانيّة في خراسان لبني هاشم ضد الأمويين والتي كانت بمثابة انتقام لبني المهلب “.
المصادر والمراجع:
ابن خلدون، عبدالرحمن بن محمد (ت:808هـ/1405م). تاريخ ابن خلدون. م3. مؤسسة جمال: بيروت، 1979م .
ابن أعثم، احمد الكوفي (ت: 314هـ/ 926م). كتاب الفتوح؛ تحت مراقبة محمد عبد المعين خان.ج8 . دار الندوة الجديدة: بيروت، 1968.
البلاذري، أبو العباس احمد بن يحيى بن جابر (ت:279هـ/ 892م). جمل من كتاب أنساب الأشراف؛ تحقيق محمد حميد الله.ج8. دار المعارف: القاهرة، 1959
عاقل، نبيه. خلافة بني أمية. ط3. دار الفكر: دمشق، 1975.
عطوان، حسين. الجغرافية التاريخية لبلاد الشام في العصر الأموي. دار الجيل: بيروت، 1407هـ/1978م.
الطبري، أبو جعفر محمد بن جرير (ت:310هـ/922م). تاريخ الرسل والملوك؛ راجعه وقدم له واعد فهارسه نواف الجراح. ج4. ط2. دار صادر: بيروت، 2005م.
العوتبي، سلمه بن مسلم (القرن الخامس الهجري/الحادي عشر الميلادي). الأنساب. ج2. ط 3. وزارة التراث القومي والثقافة: مسقط، 1415هـ/1994م.
المبرد، أبو العباس محمد بن يزيد (ت: 286هـ/899م)، الكامل في اللغة والادب؛ عارضه بأصوله وعلق عليه محمد أبو الفضل ابراهيم. 4ج. دار الفكر العربي: القاهرة، 1417هـ/1997م.
الجاحظ، أبو عثمان عمرو بن بحر(ت:868 هـ/1463م). البيان والتبيين؛ تحقيق وشرح عبدالسلام محمد هارون.ج2. ط 2. دار الجيل: بيروت. ب.ت.
خماش، نجدت. الشام في صدر الإسلام: من الفتح حتى سقوط خلافة بني أمية. دار طلاس للنشر: دمشق، 1987م .
Hawting , G.R , The First Dynasty of Islam : The Umayyd Caliphate AD 661 – 750, Croom Helm: London&Sydney , 1986, p 76 .
د.بدرية بنت محمد النبهاني
باحثة في التاريخ
*مقال منشور في مجلة إشراقة الإلكترونية العدد السادس يوليو٢٠٢٠م