حين كنت بين جنودي نقاتل بعد الإعلان الرسمي لوقف إطلاق النار يوم 22 أكتوبر 1973 ، كان وزير الخارجية الأمريكي يناور كي يعطي لإسرائيل فرصة ذبح الجيش المصري الذي فاجأه أثناء نومه في نيويورك فجر السادس من أكتوبر بتوقيت أمريكا ، لم يخف الرجل بعد ذلك خسته ودناءته ، بل كتب في مذكراته كيف كان يخدع قادة الشرق الأوسط ويلهو بهم ، وللأسف لم يسلط أحد الضوء بشكل كاف علي تلك المذكرات التي تؤكد كيف أسهم ذلك الصهيوني الألماني المتأمرك في سرقة الفرح من الشعب العربي ، بل وظل حتي الآن لا يخفي إنحطاطه وكراهيته للعرب ..
ورغم أن جريمته تتجاوز ألمي الشخصي ، فأنني لا أستطيع أن أغفر له أن نصف جنودي استشهدوا بعد وقف إطلاق النار الذي لم تحترمه إسرائيل بتواطئ منه ، لدرجة أنني أنشغلت لسنوات في إعداد كتاب عن ما فعله فينا وعن قيمته كإنسان ووزير لخارجية دولة تقول عن نفسها أنها عظمي !!
فهل كان هنري كيسنجر مجرم حرب كما أتهمته بعض الأوساط بعد ما حدث من مذابح في فييتنام وكمبوديا ولاوس بنصائح منه للمريض النفسي نيكسون ، أم واقعي يتحرك بحساب ؟ ، هل كان كما قيل عنه أيضاً مهندس مبدع في ترتيبات العالم الجديد علي أساس ما تحقق من إنفتاح علي الصين الشيوعية وسياسة الوفاق ، أو كان مجرد واحد من محاربي الحرب الباردة بأدواتها المعروفة التي لم يكن له أي فضل فيها ؟..
ولعلي كدبلوماسي أمضيت في عالم الدبلوماسية أضعاف ما أمضاه هو من عمل فعلي في مجال الدبلوماسية ، أو ما يزيد علي ثلاثين عامام اتساءل : هل يمكن أن نعتبره دبلوماسياً خلاقاً ؟ أم مجرد نهاز فرص غير أخلاقي يسعي للشهرة وزيادة نفوذه ؟ ..
الحقيقة أن من مجمل ما قرأته منه ( كل كتبه تقريباً ) وعنه ( ما استطعت الحصول عليه، بما في ذلك الوثائق السرية الأمريكية التي أفرج عنها مؤخراً ) ، يمكن بإيجاز أن أصفه بأنه شخصية أكاديمية مميزة ، تجيد المناورة التكتيكية لكنها تفتقد الرؤية الإستراتيجية التي تتطلب أكثر من مجرد قارئ وحافظ جيد لكتب التاريخ وأقدار الساسة .. أنه أقل كثيراً ممن حاول لصق إسمه بهم مثل ميترنيخ أو بسمارك أو حتي روتشيليو .. بل أنه لا يمكن أن يقارن نفسه بجون فوستر دالاس رغم محاولاته الدائمة في التقليل من قدراته ..
لقد كان إنتهازي سنحت له الفرصة تلو الفرصة فاغتنمها ، وجد الفريسة فقفز إليها ، واستمتع بالسخرية من قامات بعض السياسيين التي كان يظن أنها تنكفئ له ، بينما هي في الواقع كانت تنحني لمنطق القوة الذي يتجسد في الدولة التي كان يمثلها .. وقد لا أبالغ إذا رأيته صرصوراً لزجاً ، نجح في التسلل من دورات المياه الخلفية في السياسة الداخلية الأمريكية وأروقة واشنطن والتي أثبتت في عهده رائحتها المنتنة والتي تمثلت في فضيحة ووترجيت ، كما تسللت من شروخ وشقوق جدران سياسية مهدمة في بعض دول العالم الثالث ، فصنع مجداً زائفاً لا يستحقه ..
لقد كان تحرك هذا الرجل قبل وأثناء وبعد حرب أكتوبر 1973 خديعة كبري أراد بها أن يكرس الهزيمة في نفوسنا أولاً كي نركع ونستجدي ، وأرجو مراجعة محادثاته مع حافظ إسماعيل مستشار السادات للأمن الوطني ، سواء تلك التي كتبها كيسنجر أو حافظ أو هيكل ، وكلها تؤكد رغبته في الإبقاء علي الوضع القائم ( لا سلام ولا حرب ) حتي يظهر في مصر من يرضخ لإملاءات إسرائيل في حل تفاوضي جزئي لا يعيد كل الأرض ، وقد نقل هو عن رئيس وزراء إسرائيل جولدا مائير أنها كانت تخبر زوارها أنها لا تستطيع أن تقول متي يمكن أن يكون السلام ممكناً طالما ظل ناصر يحكم مصر، ولذلك كتب كيسنجر في مذكراته أنه كان يعتبر السادات ” بهلوان سياسي ” ، إلا أنه وجد فيه بعد ذلك ضالته التي كان هو وإسرائيل يبحثون عنها .
ثم وعندما برز الرجال وقدموا التضحيات فوق جسور العبور واللهب ، سارع كي ينقذ أمه التي أرضعته الكراهية والحقد ، ولعب أحط الأدوار التي أعترف هو نفسه بها في مذكراته وهي أوسع من أن يحتويها مقال ، ويكفي أن أذكر هنا ما قام به من رفع درجة إستعداد القوات الأمريكية إلي درجة التأهب النووي لمواجهة إحتمال تحرك سوفييتي في الشرق الأوسط ، أو عندما أمر بفتح مخازن الأسلحة الأمريكية كي ترسل بلا حساب إلي إسرائيل ، وقد اعترف بأنه استغل الحالة النفسية السيئة لرئيسه بسبب فضيحة ووترجيت ، لدرجة أنه كان لا يفيق من السكر ، ويكفي أيضاً الإشارة إلي موقفه حين تعمد أن يبدأ رحلة طويلة إلي موسكو كي يتفاوض حول كيفية وقف إطلاق النار ( رغم وجود الخط الساخن مع موسكو ، وإمكانية الإتفاق علي ذلك في دقائق ، لكنه استهلك ثلاثة أيام )، والحقيقة كما قال هو بنفسه أنه أراد أن يعطي إسرائيل فرصة تدمير الجيش المصري ، وكتب عن غضبه عندما تبين له أن جولدا مائير لا تزال تطلب وقتاً إضافياً بعد الإتفاق الفعلي علي وقف إطلاق النار ، ثم أتضحت خسته في التلاعب بأوهام وأحلام مفاوضيه علي الجانب العربي ، واختراقه لنفسياتهم الضعيفة كي يحقق لإسرائيل كل ما كانت تطلبه ويزيد ..
لقد كان كيسنجر ، كما كتبت عنه مرة في نهاية السبعينيات من القرن العشرين ، أحد أنبياء بني إسرائيل الزائفين ، وكان في نفس الوقت ” شايلوك ” الذي قايض رغبة السادات – كما وصفه هو – في موكب سريع بين الجماهير في مدن القناة ، وبين فرصة تحقيق سلام شامل وعادل يتضمن إنسحاب إسرائيلي من كل الأراضي المحتلة بعد الخامس من يونيو 1967 .
معصوم مرزوق