إذا كان الباكستانيون يعتبرون عبد القدير خان عالم الذرة ومهندس البرنامج النووي الباكستاني، الذي شيّعته باكستان يوم الأثنين الحادي عشر من أكتوبر 2021، بطلا قوميًا فإنّ سيرته تؤكد ذلك؛ إذ تلقى تعليمه الجامعي في برلين، وحصل على درجة الماجستير في جامعة دلفت للتكنولوجيا ثم الدكتوراه في الهندسة المعدنية من الجامعة الكاثوليكية في لوفين، وعمل لدى شركة وقود نووي في هولندا. ورغم الامتيازات التي نالها والمغريات التي قُدّمت له، إلا أنّ نداء الواجب جعله يترك كلّ ذلك، عندما اختبرت الهند أول قنبلة ذرية لها في عام 1974، فسارع إلى الكتابة ل (ذو الفقار علي بوتو) رئيس الوزراء الباكستاني آنذاك، وعرض عليه إنشاء برنامج نووي؛ وتلقف بوتو الفكرة، فعاد خان إلى بلاده، وأنشأ مختبرًا في كاهوتا لتطوير اليورانيوم، وأنتج أول يورانيوم عالي التخصيب عام 1982، واستمر العمل حتى نجحت باكستان في إجراء أول تجربة لقنبلة نووية عام 1998، وعندها صعد اسم عبد القدير خان بقوة، وأصبح حديث وسائل الإعلام المحلية والعالمية.
تمكن خان من إنشاء مفاعل كاهوتا النووي في ستة أعوام – والذي يستغرق عادة عقدين من الزمان في أكثر دول العالم تقدمًا – ويعود السبب إلى الأسلوب الذي اتبعه، بعمل ثورة إدارية على الأسلوب المتبع عادةً، من فكرة ثم قرار ثم دراسة جدوى ثم بحوث أساسية ثم بحوث تطبيقية ثم عمل نموذج مصغر ثم إنشاء المفاعل الأولي، وتبعته هندسة المفاعل الحقيقي، فبناؤه وافتتاحه. وعزا خان أهم عوامل نجاح البرنامج في زمن قياسي إلى درجة السرية العالية التي تم الحفاظ عليها، كما كان لاختيار موقع المشروع في مكان ناءٍ كمدينة كاهوتا أثرٌ بالغٌ في ذلك، فكان الحفاظ على أمن الموقع سهلا بسبب انعدام جاذبية المكان للزوار، كما أنّ موقعه القريب نسبيًا من العاصمة يسّر له اتخاذ القرارات السريعة، وتنفيذها دون تعطيل. «وما كان المشروع ليختفي عن عيون العالم الغربي لولا عناية الله، ثم إصرار الدولة كلها على إتقان هذه التقنية المتقدمة التي لا يُتقنها سوى أربع أو خمس دول في العالم. ما كان لأحد أن يصدّق أنّ دولة غير قادرة على صناعة إبر الخياطة ستتقن هذه التقنية المتقدمة». وقد لخّص خان أسباب النجاح في تلك الكلمات القليلة، ويأتي في مقدمتها إصرار الدولة على إتقان هذه التقنية المتقدمة، وابتعادها عن البهرجة الإعلامية، التي تلجأ إليها بعض الدول حتى في افتتاح مزرعة للدجاج أو أقل من ذلك؛ وفي سبيل تحقيق النجاح ألغت الحكومة الباكستانية البيروقراطية، فكانت القرارات السريعة تُتّخذ وتنفّذ دون تعطيل، وأعطى ذو الفقار علي بوتو لخان حرية التصرف من خلال هيئة مستقلة خاصة ببرنامجه النووي. وهناك نقطة هامة جدًا هي السرية التامة حول المشروع، حتى وصل الأمر إلى أن قالت بي نظير بوتو رئيسة وزراء باكستان السابقة إنه لم يكن يُسمح لها بزيارة معامل خان للبحوث؛ فكانت تلك السرية السبب الرئيسي في نجاح المشروع، وإلا فإنّ هناك متربصين كثيرين لمشروعٍ كهذا، خاصةً أنه في دولة إسلامية، وقد رأينا كيف دمّرت إسرائيل مفاعل تموز النووي العراقي، وكيف اغتيل العلماء العرب والإيرانيون خلال السنوات الماضية؛ فمن باب أولى ألا تسمح إسرائيل أو الهند بنجاح المشروع.
في البداية كان عبد القدير خان يشتري كلّ ما يستطيع من إمكانات من الأسواق العالمية، بفضل صِلاته بشركات الإنتاج الغربية المختلفة، لكن حين علم العالم بتمكن باكستان من صناعة القنبلة النووية ثار على الحكومة الباكستانية، وبدأت الضغوط تمارَس على باكستان من جميع الجهات ما بين عقوبات اقتصادية، وحظر على التعامل التجاري، وهجوم وسائل الإعلام الشرس على الشخصيات الباكستانية، ورُفعت قضية على خان في هولندا بتهمة سرقة وثائق نووية سرية، وحُكم عليه غيابيًا بالسجن أربع سنوات، لكن في الاستئناف تم تقديم وثائق من قبل ستة أساتذة عالميين أثبتوا فيها أنّ المعلومات التي كانت مع خان من النوع العادي، وأنها منشورة في المجلات العلمية منذ سنين، فأسقطت التهمة من قبل محكمة أمستردام العليا. بعد هذا الهجوم بدأ المشروع في إنتاج جميع حاجياته ليصبح مستقلا تمامًا عن العالم الخارجي في صناعة جميع ما يلزم المفاعل النووي.
اتهمت أمريكا عبد القدير خان أنه باع معلومات عن التكنولوجيا النووية لكلٍ من إيران وكوريا الشمالية وليبيا، وفي عام 2003، قالت إنها اعترضت سفينة شحن ألمانية كانت في طريقها إلى ليبيا محتوية على أجزاء لأجهزة الطرد المركزي الغازية؛ وتحت ضغط دولي مكثف قامت السلطات الباكستانية عام 2004، باستجواب خان، متجنبةً توجيه لائحة اتهام رسمية، ورفضت السماح للوكالة الدولية للطاقة الذرية باستجوابه، لكن خان ظهر عبر التلفزيون الباكستاني الرسمي واعترف بشبكته النووية، نافيًا بشدة أيّ مشاركة للدولة الباكستانية أو علمها بأنشطته، وحصل على عفو من الرئيس السابق برويز مشرف، الذي وضعه قيد الإقامة الجبرية. وأعلنت المعارضة الباكستانية أنّ الاعترافات كانت نتيجة ضغوط وتهديدات من الإدارة الأمريكية التي تستخدم البرامج النووية لفرض هيمنتها على الدول الإسلامية؛ لذا فهي لا يُعتد بها.
الواضح أنّ عبد القدير خان تصرّف بوطنية عالية، عندما قدّم نفسه كبش فداء، لأنه كان بين أمرين؛ إما أن يُتهم بالضلوع في التجارة النووية – وهذا ما كان – أو تُتهم بلاده وتُدمّر مثلما دُمّر العراق، ولكن يبقى أنّ موقف الحكومة الباكستانية تجاهه كان موقفًا مشرفًا.
وحقيقة فإنّ سجل عبد القدير خان ناصع البياض، فقد ترك الإغراءات الغربية – وما أكثرها – وفضّل أن يعود إلى بلاده ويخدمها في مجال هو من أكبر وأصعب المجالات، وحقيقة أخرى هي أنّ الحكومة الباكستانية – في هذا المجال – لم تكن أقلّ وطنية من خان نفسه، إذ وفرّت كلّ ما احتاج إليه، ومنحته حرية التصرف؛ والأهم من هذا وذلك، أنها حمتْه حتى وهو في الإقامة الجبرية، وما كان ذلك الاستجواب والإقامة الجبرية إلا تمثيلية لحمايته، فهو يقينًا لم يكن بعيدًا عن الاستهداف الصهيوني.
أصبح عبد القدير خان بعد التجارب النووية الست التي قامت بها باكستان في مايو 1998، بطل باكستان الثاني بعد محمد علي جناح مؤسس باكستان، وصار في مصاف الفيلسوف محمد إقبال صاحب فكرة إنشاء باكستان، وأصبحت تلك التجارب بمثابة تأشيرة دخول باكستان إلى النادي النووي العالمي، وامتلأت شوارع المدن الباكستانية بصور خان، خاصةً مع المجهودات الخيرية التي كان يقوم بها مثل إنشاء العديد من المساجد والمدارس، ومكافحته الأميّة. نشر خان حوالي 150 بحثًا علميًا في مجلات علمية عالمية. وهكذا نستطيع أن نقول إنّ عبد القدير خان خدم بلاده بإخلاص وأمانة؛ وهو يرقد في قبره الآن بسلام، بعد أن ترك حوالي ستة آلاف خبير نووي، يمتلك كثير منهم القدرة على تكرار الإنجاز الباكستاني الكبير. وإذا كانت سيرة عبد القدير خان وإنجازاته يتحدّث عنها علماء العالم، إلا أنّ المثير للدهشة أن أجد صفحات عربية في النت، يتساءل أصحابُها عن خان هل هو سني أم شيعي؟، وكأنّ المذهب هو الذي سيصنع القنبلة النووية؛ وهذا ذكّرني بالحارس علي الحبسي الذي احترف في أوروبا ولم يسأله أحدٌ عن دينه؛ ولكنه عندما احترف في الخليج طُرح سؤالٌ عن مذهبه، وكأنّ المذهب سيصد الهجمات الكروية؛ وهذه إشارة مؤلمة توضِّح العقلية السائدة، وسببًا من أسباب التخلف.
زاهر بن حارث المحروقي
جريدة عمان الأثنين. 25 أكتوبر 2021م