وأنا أشاهد بداية موسم حجّ العرب إلى دمشق، تتأكد لي سلامة الموقف العماني وثبات السياسة الخارجية العمانية منذ عقود؛ فلم تدخل عُمان في مهاترات مبنية على رد فعل، ولم تدخل أيضًا في عداوات تسيّرها المزاجية، كما حدث من معظم الدول العربية مع الكثير من القضايا التي مرّت بالوطن العربي، من مقاطعة مصر، إلى مقاطعة إيران والعراق وسوريا، وكذلك حصار قطر، وفي المشاركة في الحرب ضد اليمن، وأخيرًا ما عُرف بأزمة قرداحي، لأنّ عُمان انتهجت سياسة ثابتة في كلّ تلك الأزمات، وهي سياسة الحوار والباب المفتوح؛ فقد قاطع العرب مصر وجمّدوا عضويتها في جامعة الدول العربية، ونُقل مقر الجامعة إلى تونس، فإذا العلاقات العربية تعود مع مصر كما كانت، ويعود مقر الجامعة إلى مصر، دون أن تنتفي أسباب المقاطعة؛ وهو ما حصل تمامًا بين العرب والعراق، وبين الدول الخليجية وإيران، وكذلك في حصار قطر، ويحصل الآن مع سوريا وسيحصل مع لبنان. وكم كان الرئيس السوري بشار الأسد محقًا عندما اعتبر في عام 2018، أنّ سلطنة عُمان لم تقطع علاقاتها مع سوريا، رغم القطيعة العربية والإقليمية والدولية، «لأنّ لديها فهم أعمق لما يحدث في سوريا والحرب الدولية التي شُنت عليها، وما تعرّضت له دمشق لأصناف من التنظيمات والمسلحين»؛ ومن هنا بذلت عُمان جهدًا كبيرًا مع الأطراف الإقليمية والدولية في الأزمة السورية، وهو الجهد الذي قال عنه الرئيس السوري «إنه مقدّر بالنسبة لنا، لأننا ندرك حجم تلك الجهود والخطوات التي اتخذتها سلطنة عُمان».
في السياسات العربية هناك ألغاز تستعصي على الفهم، منها مثلا معاداة سوريا، حيث ترى دول الخليج، باستثناء سلطنة عُمان طبعًا، أنّ الرئيس الأسد أساس الأزمة ولا مكان له في مستقبل سوريا؛ بينما آمنت عُمان بشرعية الدولة السورية والرئيس الأسد، واعتبرته جزءا من الحل؛ ولا ندري مَن أعطى الحقّ للبعض أن يتحدّث عن شرعية الآخرين، في وقت يمكن جدًا أن تُطرح مسألة شرعيتهم أيضًا على المحك، فكانت عُمان الدولة الوحيدة في مجلس التعاون الخليجي التي لم تَقم بأيّ تحرك دبلوماسي ضد دمشق، ولم تعمل على الإطاحة بالنظام السوري، بل استخدمت حيادها من أجل دفع الفرقاء المختلفين نحو التوصل إلى تسوية دبلوماسية، في محاولة لوضع حد لحمام الدم، فرأينا أنّ الزيارات بين مسقط ودمشق لم تتوقف، وكذلك اللقاءات بين المسؤولين العمانيين ومسؤولي ما يُسمّى بالمعارضة السورية.
«هناك إقرار في العالم العربي، بأنّ المقاربة العربية مع الأزمة السورية خلال العشر سنوات الماضية لم تكن دقيقة، وسمحت للقوى الإقليمية بالانخراط في الملف السوري، وغاب العرب عن المشهد ممّا خلق بيئة مناسبة للفوضى والإرهاب»، حسب المحلل السياسي الأردني زيد النوايسة في حديث مع موقع «الحرة»، وهو قول صحيح؛ فالعربُ ساهموا بصورة فعلية في أن ترتمي العراق في أحضان إيران، وكذلك سوريا واليمن، وهو ما تفعله الآن الدول نفسها مع لبنان، إذ تفرش – بمواقفها غير المدروسة – البساط الأحمر لإيران التي لا تملك إلا أن تقول «شكرًا لكم». والكلّ يعلم أنّ بعض الدول العربية قدّمت دعمًا ماليًا وعسكريًا للمعارضة السورية، قبل أن يتراجع الدعم تدريجيًا خلال السنوات الماضية، بسبب الانتصارات التي حققها الجيش السوري بدعم عسكري روسي وإيراني على الأرض، وهي نفس الدول التي ساهمت في إحضار التنظيمات إلى سوريا.
وإذا كان الموقف العماني مشرفّا في الأزمة السورية – مثل مواقفها في الأزمات السابقة – فإنّ هناك من طرح سؤالا عن مدى تعريض هذا الموقف للعلاقات العمانية للخطر مستقبلا، وذلك تعليقًا على البيان العماني حول «أزمة قرداحي»، حيث أعربت سلطنة عُمان، عن أسفها العميق لتأزم العلاقات بين عدد من الدول العربية ولبنان، ولم تنجر عُمان إلى بيانات إدانة أو خطوات تهوريّة، كطرد السفير اللبناني من مسقط أو سحب السفير العماني من بيروت؛ بل دعت «الجميع إلى ضبط النفس، والعمل على تجنب التصعيد، ومعالجة الخلافات عبر الحوار والتفاهم، بما يحفظ للدول وشعوبها الشقيقة مصالحها العليا في الأمن والاستقرار»، كما دعت إلى «التعاون القائم على الاحترام المتبادل، وعدم التدخل في الشؤون الداخلية». وقد صيغ بيان وزارة الخارجية العمانية بأسلوب راق جدًا، غلّب المصلحة العربية العامة على الخلافات الشخصية قصيرة المدى، بعيدًا عن التصعيد، فلم يكن غريبًا أن يلقى البيان العماني الترحيب من وزارة الخارجية اللبنانية، التي أعربت عن تقديرها للدور العماني، ويمكن أن نقول إنّ البيان الذي لقي ارتياحًا عامًا من العمانيين – حسب التعليقات في تويتر – جاء مؤكدًا على ثبات السياسة العمانية التي انتهجتها خلال نصف القرن الماضي، وأنّ العهد الجديد يمضي قدمًا بالثبات نفسه في مدّ يد الصداقة مع الكلّ دون أن يخسر الكلّ.
ولكن هل يمكن أن تدفع عُمان ثمنًا لسياساتها المستقلة؟ هذا ما يراه أندرياس كريج، الأستاذ المساعد بكلية الدراسات الأمنية في جامعة «كينجز كوليدج» البريطانية في حديثه لموقع «تي آر تي وورلد» الذي ترجمه موقع «الخليج الجديد» عندما قال: «سيتعين على العُمانيين تحمل تكاليف مواقفهم المحايدة»، وهو ما اختلف معه نبيل خوري، الدبلوماسي الأمريكي السابق وزميل كبير غير مقيم في «مركز رفيق الحريري للشرق الأوسط» عندما قال: «سواء تعرّض العمانيون للضغط أم لا.. لا أعتقد أنّ ذلك سيفرق معهم كثيرًا؛ فقد سبق أن تعرّضوا لضغوط منذ بدء حرب اليمن ولم يتسبب ذلك في تراجعهم عن موقفهم». وما يراه نبيل خوري هو الصواب؛ فما تعرّضت له عُمان خلال نصف قرن الماضي كان من القوة والشدة بمكان، لكن ثبات الموقف العماني كان أيضًا قويًا، وأثبتت الأيام صحته، لذا من المتوقع أن تحافظ عُمان على استقلالية سياستها الخارجية وألا تنحاز لأيّ طرف من الأطراف على حساب طرف آخر؛ والحجّ العربي إلى سوريا يثبت نجاح السياسة العمانية – مثلما ذكرتُ في مستهل المقال – إذ هي سياسة ثابتة متزنة لا تتغيّر، ولعُمان رؤية مستقلة ومستقرة، عكس بعض السياسات التي تُبنى غالبًا على المزاجية، أو تكون وفق بعض الإملاءات لأهداف قد لا تخفى على البعض.
بقلم: زاهر بن حارث المحروقي
جريدة عمان. عدد الأثنين 15 نوفمبر 2021م