اختتمت مساء الجمعة الماضية (3/12/2021) الجولة السابعة من المحادثات النووية التى كانت قد بدأت أعمالها فى العاصمة النمساوية فيينا، يوم الاثنين (29/11/2021) وسط أجواء من الاستياء الأمريكى والأوروبى أثر كثيراً على تقديرات الخبراء فى تحديد موعد الجولة الثامنة من هذه المحادثات الماراثيونية بين إيران والقوى الدولية الكبرى (مجموعة 5+1) التى تستهدف عودة أمريكا وإيران مجدداً إلى الالتزام بالاتفاق النووى الموقع عام 2015 والذى انسحبت منه إدارة الرئيس الأمريكى السابق دونالد ترامب وأعادت فرض العقوبات التى كانت مفروضة على إيران وكثفت من فرض المزيد من هذه العقوبات لإرغام إيران على القبول بالدخول فى مفاوضات جديدة ترضى واشنطن وتل أبيب وتأخذ فى اعتبارها أربعة مطالب أولها وضع نصوص جديدة تؤمن عدم عودة نهائية لإيران للطموح لامتلاك قدرات نووية عسكرية، وتصفية صناعة الصواريخ الباليستية الإيرانية، ووضع نهاية للمشروع الإقليمى الإيرانى ومنع إيران من التدخل فى الشئون الداخلية لدول الجوار، وأخيراً إدخال إسرائيل ودول عربية خليجية كأعضاء فى الاتفاق الجديد على النحو الذى تحدث به الرئيس الفرنسى إيمانويل ماكرون أثناء جولته الخليجية الأخيرة وقوله “من الصعب التوصل إلى اتفاق إذا لم تكن دول الخليج وإسرائيل وكل المعنيين بالملف الأمنى جزءاً منه” وأضاف “اتفاق 2015 بحاجة إلى أن تنضم إليه دول المنطقة، أو على الأقل، أن تؤخذ مصالحها بعين الاعتبار وأن يتم التشاور معهم”.
إيران تعى تماماً هذه المطالب وترفضها بالمطلق وتقول أن الدول الخمس الكبرى (الولايات المتحدة وفرنسا وبريطانيا وألمانيا وروسيا والصين) وقعت معها عام 2015 على اتفاق بخصوص برنامجها النووى، صدر به قرار من مجلس الأمن وأضحى بالتالى قراراً دولياً ملزماً لكل الموقعين، لكن ما حدث أن مجئ إدارة أمريكية جديدة دفع بواشنطن إلى الانسحاب من ذلك الاتفاق، وزادت من فرض العقوبات وجاهدت من أجل منع إيران من تصدير نفطها إلى الخارج لإرغام إيران على التوقيع على اتفاق يرضي غرور الأمريكيين والإسرائيليين، كما أن الشركاء الأوروبيين وعلى رأسهم فرنسا التى كانت قد فازت بنصيب الأسد من صفقات الاستثمار فى إيران عقب رفع العقوبات عنها بعد التوقيع على اتفاق عام 2015 ، لم تف بوعودها بحماية الاتفاق ورضخت للضغوط الأمريكية، أى أن الأوروبيين كانوا شركاء فى الأزمة بعجزهم عن حماية الاتفاق، ولذلك ترى إيران أن أي مباحثات جديدة تستهدف العودة إلى الاتفاق عليها أن تلتزم أولاً بنصوص الاتفاق من ناحيتين؛ الأولى المضمون وبالتحديد الالتزام فقط بالمسألة النووية دون غيرها، والثانية الأعضاء فى الاتفاق وعدم إقحام أطراف أخرى لم تكن عضواً فى الاتفاق وفرضها عضواً جديداً فيه.
بهذا الالتزام ذهبت إيران إلى فيينا مجدداً، ولكن مع اختلاف مهم هو أنها ذهبت من موقع القوة بعد أن استطاعت أن تحقق تقدماً أذهل الجميع فى ما اكتسبته في قدراتها النووية سواء من ناحية كمية اليورانيوم الذى جرى تخصيبه فى فترة توقف الاتفاق بعد انسحاب الأمريكيين منه أو من ناحية مستوى التخصيب الذى وصل إلى 20% ثم إلى 60% متجاوزاً كثيراً النسبة المقررة فى الاتفاق النووى وهى 3,7% فقط ، وباتت لذلك قريبة جداً من نسبة التخصيب اللازمة لإنتاج سلاح نووى وهى 90%.
دخلت إيران الجولة السابعة من محادثات فيينا وهى مطمئنة لما يمكن أن تؤول إليه هذه المحادثات سواء كانت نجاحاً أم فشلاً ففى حال النجاح وقبول الأطراف الأخرى لمطالبها وشروطها وخاصة الرفع الكامل للعقوبات المفروضة عليها وتأمين الاتفاق من أى فرصة أمريكية أخرى للانسحاب منه ستدخل إلى خزانتها 200 مليار دولار على الأقل أموالاً مجمدة فى الخارج، وستعود صادراتها النفطية إلى الأسواق العالمية دون قيود، فضلاً عن المحافظة على قدراتها من الصواريخ الباليستية وإنتاج الطائرات المسيرة التى باتت أهم أسلحتها ومواصلة دورها الإقليمى، أما فى حال الفشل فإنها سوف تواصل تقدمها فى قدراتها النووية لتصل إلى 90% وعندها تفرض نفسها كقوة نووية عالمية قادرة على إنتاج السلاح النووى إن لم تكن قد أنتجته بالفعل.
إيران تراهن على “أى من الحسنيين.. النجاح أو الفشل”، عكس الأطراف الأخرى التى بدت عاجزة عن أن تقول نعم أو تقول لا للمطالب الإيرانية التى عرضت فى جلسات المحادثات طيلة الأيام الخمسة التى جرت فى فيينا الأسبوع الفائت، على النحو الذى عبر عنه الأمريكيون والأوروبيون وعلى النحو الذى أطاح بقدرة إسرائيل على قبول ما يحدث وجعلها تتحدث هذه الأيام وعلانية ودون قيود عن “خيار الحرب العسكرية” لتدمير القدرات النووية الإيرانية وكشف خفايا ما يحدث من استعدادات لذلك الخيار فى حال من اليأس من التعويل على الحليف الأمريكى بعدم الذهاب إلى هذه المحادثات انطلاقاً من رفض إسرائيلى مطلق لذلك الاتفاق النووى الذى تهدف تلك المحادثات العودة إليه .
المتحدث باسم الخارجية الأمريكية صرح قبيل مغادرة الوفد الأمريكى فيينا متوجهاً إلى واشنطن عقب توقف المحادثات مساء الجمعة الماضى أن “الحكومة الإيرانية الجديدة لم تأت إلى فيينا بمقترحات بناءة” وأن “مقاربتها هذا الأسبوع لم تكن لحل ما تبقى من قضايا عالقة بعد 6 جولات من المحادثات”، ولفت إلى أن “تصعيد إيران عمليات تخصيب اليورانيوم بموازاة العودة إلى طاولة المفاوضات استفزاز متعمد”. وجدد هذا المتحدث فى بيان للصحفيين تأكيد بلاده على التزامها العودة للاتفاق النووى وقال أنه “إذا أظهرت إيران التزاماً مشابهاً فإن الحل سيكون فى متناول اليد وإلا لن يكون لدينا خيار غير البحث عن خيارات أخرى”، وكرر أن الرئيس جو بايدن “ملتزم إعادة الولايات المتحدة إلى الامتثال للاتفاق النووى والبقاء فى حالة امتثال طالما أن إيران تفعل الشئ نفسه”.
الأوروبيون كانوا أكثر تشاؤماً واستياء، فعلى الرغم من أن إنريكى مورا منسق المحادثات الأوروبي أعطى مؤشراً للعودة مجدداً إلى جولة ثامنة من المحادثات خلال أيام إلا أن دبلوماسيين أوروبيين أصدروا بياناً وصفوا فيه أيام المحادثات الخمسة بأنها كانت “محبطة ومقلقة”، وبرروا ذلك بأنهم باتوا على يقين بأن “طهران تدير ظهرها لمعظم التسويات التى تم التوصل إليها فى جلسات التفاوض الست السابقة”، وأن وفد التفاوض الإيرانى برئاسة على باقري كنى نائب وزير الخارجية “يطلب إدخال تعديلات جذرية على تلك الإنجازات”، وقالوا “أنها خطوة إلى الوراء”.
بهذا المعنى نستطيع أن نقول أن محادثات فيينا دخلت إلى “عدم اليقين” وهذا ما كانت تأمله إسرائيل التى تحولت من تعمد تشويه عملية المحادثات ورفض العودة إلى الاتفاق النووى وتحذير الحلفاء من ذلك، بدأت الآن مرحلة منع العودة مجدداً إلى المحادثات والتأكيد على أن “إيران لا تريد إلا إنتاج السلاح النووى” على نحو ما جاء على لسان رئيس الموساد ديفيد برنياع وتصريحاته التى تعهد فيها بمنع إيران بكل الطرق والوسائل من إنتاج أسلحة نووية وقوله أن “إسرائيل ترى أن زيادة إيران نسبة التخصيب لأكثر من 60% لا تعنى إلا أمراً واحداً هو إنتاج رؤوس نووية، أو أنها خطوة ابتزاز نووية لرفع العقوبات”.
حديث “الحرب الكبرى” أصبح طاغياً الآن فى إسرائيل وعلى لسان كبار المسئولين وفى مقدمتهم وزير الحرب بينى جانتس ورئيس أركان الجيش الجنرال أفيف كوخافى ، بينى جانتس نقلت عنه صحيفة “يديعوت احرونوت” قوله “انه قد لا يكون هناك مفر من ضرب إيران.. ونحن مستعدون لهذا الاحتمال” مشيراً إلى أن اللجنة الوزارية للتسلح صادقت على شراء أسلحة وذخائر جديدة”، أما الجنرال كوخافى فقد نقل عنه موقع “واللا Walla” العبرى الاستخبارى قوله “بدأنا بالموافقة في الأسابيع الأخيرة على أجزاء كبيرة من الخطط العملياتية لمهاجمة المنشآت النووية فى إيران”.
السؤال المهم الآن هو: هل تستطيع إسرائيل شن تلك الحرب وحدها فى ظل تردد إدارة الرئيس بايدن عن التورط فى حروب فى الشرق الأوسط تؤثر سلبياً على التركيز على الصراع المتصاعد مع الصين حول تايوان ومع روسيا فى أوكرانيا، وإذا تورطت إسرائيل فى شن الحرب هل ستكون المحصلة فى النهاية مكاسب أم خسائر بل وخسائر فادحة؟
بسبب عمق الخلافات بين تل أبيب وواشنطن حول قرار الحرب ضد إيران من المقرر أن يذهب كل من بينى جانتس وزير الحرب ودافيد برنياع رئيس الموساد إلى واشنطن خلال أيام لحل الخلاف حول الموضوع والحصول على ضوء أخضر أمريكى، لكن يبقى سؤال إلى أين ستقود الحرب إسرائيل؟
أجاب على هذا السؤال الكاتب الإسرائيلى أمير نيفون فى صحيفة “هآرتس” بشكل غير مباشر بحديثه عن أن احتفالات إسرائيل بانسحاب أمريكا من الاتفاق النووى عام 2018 كانت “احتفالات كاذبة” وأن تصوير بنيامين نتنياهو وحكومته هذا الانسحاب على أنه انتصاراً كان “تصويراً مخادعاً وكاذباً” بدليل أن إيران هى المستفيد الأول الآن من هذا الانسحاب بشهادة الجميع فهى استفادت من الانسحاب الأمريكى وضاعفت قدراتها وتدخل التفاوض الآن أكثر قوة.
المشابهة ليست بعيدة بين احتفالات ورايات النصر المخادعة بالانسحاب الأمريكى من الاتفاق النووى وتصويره على أنه انتصار لإسرائيل رغم أنه أضحى انتصاراً لإيران، وبين أكاذيب الانتصارات التى تروج الآن لحرب قد تكون خاسرة ضد إيران على نحو ما كانت خسائر انتصارات الانسحاب الأمريكى من الاتفاق النووى، وحتماً ستكون رايات لأفراح زائفة يعي الإسرائيليون حقيقتها من الآن وقبل أن تبدأ.
د. محمد السعيد إدريس
جريدة الأهرام 7 / 12 / 2021 م