كان عام 1991، عام سقوط وتفكك الاتحاد السوفيتى وتبعثر جمهورياته، وخاصة جمهوريات آسيا الوسطى هو عام الاندفاع التركى والإيرانى لاقتناص السيطرة وفرض النفوذ إعتقاداً من أن كل منهما هى الأقدر والأجدر على ملء فراغ النفوذ السوفيتى. وكان هذا التوجه من أنقرة وطهران كفيلاً بتفجير صراع مصالح عنيف حرص كل منهما على كبته حفاظاً على كم هائل من المصالح المشتركة بين البلدين. فتركيا كانت فى أمس الحاجة إلى النفط الإيرانى، وكذلك كانت ترى إغراءات واعدة فى السوق التجارية الإيرانية فى ظل ما كانت إيران تعانيه من قيود أمريكية على حركة تجارتها الدولية، ناهيك عن ضغوط أخرى صعبة فرضتها السنوات الثمانى للحرب العراقية الإيرانية (سبتمبر 1980 – أغسطس 1988). وكانت إيران ترى فى تركيا شريكاً أو حليفاً إقليمياً محتملاً فى ظل الضغوط والقيود الأمريكية، وفى ظل فرض واشنطن نفسها مسؤولة عن الأمن الإقليمى الخليجى كمحصلة لقيادتها للتحالف الدولى لتحرير الكويت من الاحتلال العراقى عام 1991.
تركيا كانت لديها تطلعات وليدة فى ذلك الوقت لفرض نفسها قوة إقليمية منافسة على الزعامة الإقليمية الشرق أوسطية بعد أن كانت مكتفية بدور “الموازن الإقليمى” بين كل من “إسرائيل” الساعية لفرض نفسها كقوة إقليمية مهيمنة وإيران المناوئة لهذا التطلع “الإسرائيلى” والحريصة على أن تكون هى القوة الإقليمية المهيمنة. ورغم وجود طموح التطلع التركى للتأسيس لمشروع إقليمى منافس إقليمياُ، إلا أن تركيا فى بداية عقد التسعينيات لم تكن تملك مقاليد هذا الدور، لكنها كانت تعى أن جمهوريات آسيا الوسطى التى تنتمى خمس جمهوريات منها إلى ما يعرف بـ “العالم التركى” أو “تركيا الكبرى”، فى مقدورها أن تكون قاعدة التأسيس لهذا الطموح التركى. أى أن تركيا كانت تراهن على “العامل العرقى” التركى المشترك مع هذه الجمهوريات لانتزاعها من قيود ما بعد تفكك الاتحاد السوفيتى وبالذات الطموحات الروسية الجديدة ولصد الطموحات الإيرانية الحريصة على دمج هذه الجمهوريات فى “عالم شيعى مشترك”.
أما إيران فقد كانت تراهن على “العامل الطائفى الشيعى” الذى يربطها بكثير من هذه الجمهوريات لفرض نفسها القوة الإقليمية لملء فراغ الغياب السوفيتى ولمنع أى اختراقات خارجية دولية وخاصة أمريكية أو إقليمية وخاصة تركية و”إسرائيلية” يكون فى مقدورها التمركز فى هذه الجمهوريات بما يهدد الأمن والمصالح القومية الإيرانية باعتبار أن إيران تربطها حدود مشتركة مع عدد من هذه الجمهوريات.
الصراع الراهن بين جمهورية أذربيجان وجمهورية أرمينيا الواقعتين على الحدود الشمالية لإيران واللتين حصلتا على استقلالهما عام 1991 حول إقليم “ناجورنو كراباخ” جاء ليفاقم من جذور هذا التنافس بين كل من تركيا وإيران، خاصة فى ظل ظهور متغيرات جديدة باتت تعمل أكثر لصالح المشروع التركى.
فتركيا الآن فى ظل العقيدة العثمانية الجديدة للرئيس التركى رجب طيب أردوغان المفرطة فى تطرفها وتطلعها لفرض تركيا قوة إقليمية كبرى ممتدة النفوذ على المساحة التى سبق أن سيطرت عليها الإمبراطورية العثمانية، ليست هى تركيا عام 1991 التى كانت ومازالت تعتبر مجرد “قوة متوسطة”. فالرئيس التركى حريص دائماً على تأكيد أن هذه الطموحات “حق من حقوق السيادة التاريخية”، لذلك هو يسعى لاستعادة أراضى ونفوذ عثمانى خسرته تركيا إجبارياً كأحد نتائج خسارة الإمبراطورية العثمانية فى الحرب العالمية الأولى، وما قررته “معاهدة لوزان” لعام 1923 من مقررات أبرزها اقتطاع أجزاء كانت خاضعة للسيطرة العثمانية وإعطائها لدول أخرى.
أردوغان يسعى للتخلص من تركة هذه المعاهدة التى من المقرر أن ينتهى أجلها عام 2023 ، أى بعد أقل من ثلاث سنوات. صراعاته وأطماعه فى شمال سوريا وشمال العراق وصراعاته مع قبرص واليونان، وتطلعاته للنفوذ فى جورجيا وليبيا وغيرها جزء من مشروعه الجديد لفرض تركيا “قوة إقليمية كبرى”، لكن تطلعاته فى جمهوريات آسيا الوسطى التى يسميها بـ “التركية” تحتل الجزء الأكبر من هذا المشروع وهذا يفسر سر تدخله العسكرى القوى إلى جانب أذربيجان فى صراعها مع جمهورية أرمينيا حول إقليم “ناجورنو كاراباخ” الذى ينتمى جغرافياً إلى أذربيجان، لكن معظم سكانه جزء من شعب أرمينيا. وعلى الرغم من هذا الواقع الغريب فرضته السلطات السوفيتية على البلدين إلا أن صراعهما حول هذا الإقليم ظل مكبوتاً طيلة عمر الاتحاد السوفيتى لكنه أخذ يتفجر عقب تفكك الاتحاد السوفيتى، حيث شهدت الفترة من عام 1992 – 1994 معارك عنيفة أدت إلى تمكن إقليم ناجورنو كاراباخ من فرض نفسه إقليماً مستقلاً عن “أذربيجان” بحكم الأمر الواقع، والصراع الحالى يهدف من جانب أذربيجان إلى استعادة هذا الإقليم كجزء من جمهورية أذربيجان، فى حين تسعى أرمينيا إما إلى فرضه جزء منها، أو منحه الاستقلال الذاتى، بما يؤمن اقتطاعه نهائياً من السيادة الأذربيجانية، وهذا ما يجعل الفجوة واسعة أمام القوى التى تسعى للتوسط لحل هذا الصراع.
لم يكن فى مقدور جمهورية أذربيجان ورئيسها الهام علييف الإقدام على الهجوم على إقليم ناجورنو كراباخ لاستعادته بدون ضمان الدعم التركى الكامل وبدون الحصول على ضوء أخضر من الحلفاء الدوليين (أمريكا) والإقليميين (إسرائيل). الرئيس الأذارى الهام علييف يدرك أن لكل هذه القوى الدولية والإقليمية مصالح استراتيجية واقتصادية كبرى فى دعم الطموحات الأذربيجانية، رغم الحرص الأمريكى على الالتزام بموقف حيادى شكلياً فى هذا النزاع. لكن التدخل التركى القوى لم يكن ليحدث على النحو الذى هو عليه لولا حصوله على ضوءاً أخضر أمريكى. فأذربيجان تعتبر مصلحة إستراتيجية لهذه الأطراف لمحاصرة إيران من شمالها، ليس هذا فقط بل لغزوها من الداخل عبر المكون الأذارى الإيرانى الذى أضحى يمثل واحداً من أخطر مصادر تهديد الأمن القومى الإيرانى والتماسك الوطنى الإيرانى. فى نفس الوقت يعتبر “ملف الطاقة” على رأس المصالح الاقتصادية لهذه القوى سواء بسبب اعتماد تركيا على أذربيجان فى جزء كبير من وارداتها من الغاز الطبيعى، وفى ذات الوقت ترتبط تركيا مع أذربيجان باتفاقية خط أنابيب ينقل النفط الآذارى عبر الأراضى الجورجية إلى ميناء “جيهان” التركى على البحر المتوسط. لكن التدخل التركى فى أزمة ناجورنو كراباخ لصالح أذربيجان يضر من ناحية أخرى بمصالح كل من روسيا وإيران فى الوقت الذى ترتبط فيه تركيا بهاتين الدولتين بمصالح متشابكة.
وفى ذات الوقت ترتبط روسيا بمعاهدة دفاع مع جمهورية أرمينيا، وهى غير مرتاحة لتنامى النفوذ الأمريكى فى هذه الجمهورية، وإيران تعتبر هذا الوجود الأمريكى وكذلك الوجود “الإسرائيلى” فى أذربيجان مصدراً مباشراً للتهديد، وهى لا تستطيع أن تنحاز إلى أذربيجان بدافع “الوحدة الشيعية” لتجد نفسها فى خانة واحدة مع “إسرائيل”.
مأزق إيران أكثر صعوبة، فانحيازها إلى أرمينيا يبدد أطروحة “الوحدة الشيعية”، وإذا كان هذا العامل قد أضحى محدود التأثير بعد إعطاء أذربيجان أولوية لعامل “العرق” (التركى) على حساب العامل الطائفى “الشيعى” فإن انحياز إيران إلى أرمينيا يثير غضب المكون العرقى الآذارى الإيرانى، مع تنامى ظاهرة “الهوية الشيعية التركية” كما تجسدها جمهورية أذربيجان (التركية عرقياً والشيعية طائفياً”، التى باتت تغرى المكون الأذارى الإيرانى.
الدعم التركى لأذربيجان يدعم من فرص تجانس بلورة “الهوية الشيعية التركية” قومياً مع “الهوية السنية التركية”، والدعم الإيرانى (الاضطرارى) لأرمينيا يدعم أيضاً هذه الظاهرة، وهذا بدوره يقوى من فرص انخراط الآذاريين الإيرانيين فى هذا المحور الآذارى- الشيعى، وهو أخطر ما يهدد إيران فى هذه الأزمة.
د. محمد السعيد إدريس
جريدة الخليج 16/10/2020