الدين الإسلامي عظيم وكذلك التراث الإسلامي والتاريخ، رغم ما تخلل الأخير من عيوب وسفك للدماء في مراحلٍ متعددة، لكن ذلك ينطبق على التاريخ بكل مفاصله في الحياة البشرية من بدء الخليقة وأول نبي “آدم” عليه السلام، مروراً بهابيل وقابيل، والصراع بين الخير والشر.
من المقدمة أعلاه، نستنتج فكرة هي معروفة، لكن لابد من قول الحقيقة وإن كانت لا تناسب البعض، لا يوجد دولة مثالية في عالمنا اليوم، وعلى إمتداد التاريخ، حتى ما قبل البشرية “إبليس الرجيم”، “أبى وإستكبر”، وبالتالي طبيعة الحياة فرضت صراع الخير والشر إلى قيام الساعة.
إضطرابات نفسية
الحياة خطّت ملامح العيش لكل مرحلة ولكل حقبة زمنية ولكل جيل عاش على أرضها، لكن الصراع بدأ من الإنسان نفسه، وما يعانيه من إضطرابات نفسية، قد لا تكون معروفة سابقاً في هذا الإسم، فمن يقرأ التاريخ، منهم من يقول كان أسوداً حالكاً، والبعض يراه مثالياً، لكنه إن أردنا أن نوازن، ما كان حالكاً جداً ولا مثالياً جداً، التاريخ له وعليه وهذا عُرف عام لا لبْس فيه، ما يعني ليس فقط التاريخ الإسلامي، فلدينا الحروب الصليبية وصراع الديانات والطوائف، وطبيعة الإنسان العادي حتى قبل وجود الديانات السماوية، إذ أن الإنسان جُبِل على الخير والشر، لكنها مع التهذيب والتربية ومشارب كل شخص تتفاوت من إنسان إلى آخر.
عيون سوداوية
ما يعنيني مما ورد أعلاه، حالة أراها كثيراً، وهي إصرار الناس، على قراءة التاريخ بعيون سوداوية أو مثالية، هذه القراءة تحتاج إلى صدق النوايا أولها مع الله سبحانه وتعالى، للخروج بقراءة سليمة تقول الواقع كما هو، لكن عندما تكون القراءة لأشخاص يتبعون فكراً مؤدلجاً أو متعصبين لمذهب معين، تراه يفتش عن أخطاء التاريخ فقط، ليبدأ بقصقصته طبقاً للغاية المُراد منها تشويه التاريخ بدون أسانيد، من الطبيعي أن يحقق غايته، لكن هذا لا يجيز أن يتم تجاوز الأخطاء الموجودة في تاريخنا والقول إنه ناصع البياض، فالأمرين لا يجوزان.
قراءة التاريخ تحتاج إلى قراءة حذرة، أي تقرأه بمجمله، مع مراعاة الظروف الإقليمية والمحيطة والظروف الإقتصادية لبلدٍ معين، للتاريخ القديم أو تاريخ البشرية أو التاريخ السياسي أو التاريخ الإسلامي، ومع مراعاة أيضاً أن كل مؤرخ لديه طبيعة وظروف خاصة به من نفسية معينة ومزاجٍ خاص، فهم بالنهاية بشر، لكن هذا الأمر هناك من يقف في وجهه، لنخرج بتأريخ حقيقي من خلال المنهج العلمي الحقيقي، كقضية الإسناد على سبيل المثال، والذي هو برأيي من الدين، ومعرفة أحوال الرواة للبت في ما إذا كانوا “ثقة أو مجهول”، وهذه الرواية مسندة أو غير مسندة، راويها ثقة أم لا، للتوضيح أكثر كما في كتاب “الملاحم والفتن لآخر الزمان” لنعيم بن حماد، فهذا الكتاب مليء بالروايات الإسرائيلية والقصص غير الثابتة ومليء بالروايات الضعيفة، لرواة مجهولين، ومن قال هذا الأمر، إنسان خبير في التاريخ، والخبير في احوال الرجال والإسناد، كما جاء في “الإمامة والسياسة” لإبن قتيبة.
مع ملاحظة مهمة، أن الناس في ذاك الزمان كانوا يدسون السم بالعسل، حتى الكتب كانوا يدسونها على مؤلفيها، لكن من يكتشف ذلك بالطبع هو الحاذق والذي يعرف الخطوط والمخطوطات ويعرف المؤلفات الأصلية، فهذه أمور لها إعتبارها، فالكتاب المُشار إليه أعلاه، نُسِب لإبن قتيبة لكنه ليسه له.
الحديث عن التاريخ
عندما يأتي أحدهم ويتكلم عن التاريخ، ولنفرض عن تاريخ بغداد “مدينة السلام”، فيجب البحث في الحضارة ومن بناها والثقافة المعمارية والرسومات التي إكتشفت فيها والساعة الرملية، والطب فقد كانت مشهورة بتركيباتها الطبية من الأعشاب، فترى اليوم كل هذه الحضارة مهملة أو يتم تجاهلها عمداً ولا يذكرون إلا التاريخ السياسي، فلماذا يتم التغاضي عما هو مصدر فخر لنا؟!
وهناك من هو مبهور بأمريكا المتورطة بالقتل في عشرات البلاد، وتتغنون بما لديها من علم، نعم هي تملك تطوراً علمياً لكنها “قاتلة”، فكونوا في تاريخكم منصفين كما أمريكا والكيان الصهيوني، وقولوا كلمة الحق، بحق تاريخنا الإسلامي، فهناك إضاءات مشرقة جداً، فمشكلة العرب هي “الإنفعال”.
وإذا قرأنا تاريخ الفتوحات الإسلامية، أول أسطول بحري تم إستخدامه كان أثناء الفتح الإسلامي، أيام طارق بن زياد، هذا الأمر رغم سهولة معرفته، لكن تراه مغيباً عند الكثير، لأنه لا يوجد من يحرض على الإضاءة لحضارتنا وثقافتنا على تنوعها، من الخط الإسلامي إلى تاريخ تنقيط القرآن الكريم، والرواة.
لكن بعض المذهبيين وغلاتهم، لديهم مشكلة أصبحت واضحة مع الصحابة من خلال التشكيك بهم وروي القصص المبتورة غير الثابتة في التاريخ، يضاف إلى أولئك أن لديهم مشكلة مع بني أمية من خلال رميهم خارج التاريخ، فرغم ما لهم وعليهم والحروب التي خاضوها ضد آل البيت عليهم السلام، لكنهم كانوا جزءاً من التاريخ، فالتاريخ ليس على مقاس المذهبيين، فحضارة عهدهم موجودة ودمشق خير دليل، وتاريخ بنو العباس والمماليك والدولة العثمانية، من ينكر تلك الحضارات أحمق.
تسقيط التاريخ
نحن الآن في القرن الواحد والعشرين، وهناك من هو أشد من الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون في تسقيط التاريخ، والتراث والموروث والثقافة الإسلامية، كيف لا أفخر بالبحتري وعمرو بن ربيعة، والمتنبي وأبو فراس الحمداني، فمن يقول إن تاريخنا مليء بالقتل، أقول له: “أتعلم يا هذا بأنه اليوم هناك فنادق ومطاعم ومقاهي وحوانيت وأسواق ومراكز تجارية بجوار قبر الإمام علي بن أبي طالب وقبور لأناس صالحين، اليوم قبورهم تُداس، لأن الحياة المادية والتجارة الدينية طغت”، أليس في ذلك إنتهاك لحرمة من توفاهم الله في النجف، ونفس الأمر في الكوفة أيضاً، وحتى في إيران بالمناسبة، عند قبر الإمام علي بن موسى الرضا، في مشهد من خلال توسعة الصحن، فكل ما حوله قبور لناس صالحين في ذاك الزمان، وهذا الكلام يطبق على قبر عبد القادر الجيلاني في بغداد أيضاً.
وأما المنارة اللولبية في العهد العباسي، في سامراء، يقول أحد الزائرين لها، يقال من أحد المراجع العلماء، أن تحتها قبور لشيعة علي بن أبي طالب عليه السلام، فإلى متى تستمر هذه الحماقات، ونحن نهدم التراث للغايات المادية الضيقة، فهذه الممارسات ما هي إلا إرهاب لكل ما هو مشرق وجميل من تراثنا الإسلامي، فما علاقة التاريخ بذلك وهو من صنع الإنسان؟
كذلك الأمر بما يتعلق بالكنائس، والإعتداء عليها، فهي دور عبادة وأماكن تراثية يجب الحفاظ عليها لأي ديانة من الديانات كانت.
أخيراً، إن محو التراث لا يتحقق إلا في غياب الثقافة الإسلامية، فماكرون ومن معه لم يحقد على الإسلام وخرج بما خرج به، لولا لم يكن هناك حقداً من المسلمين أنفسهم، فالنفس الطائفي لا يزال طاغياً، ولا نقرأ التاريخ إلا بعيون عوراء تحجب الحقيقة، ولم نقرأه يوماً بعين المنصف المحقق والمتوازن نفسياً.
ولكن بنفس الوقت لا أمجد قوم معين كان في حقبة تاريخية معينة، لأن المغالطات كثيرة والسقطات كثيرة، فلكل هؤلاء القتلى والظالمين وعلى إمتداد التاريخ، كإنسان مؤمن، أقول أمرهم إلى الله سبحانه وتعالى، وهو الذي يحاسبهم، الأحياء منهم والأموات، لكن لدينا إضاءات مشرقة وواضحة للعيان، وحضارة موجودة لكل العهود التي مرّت أياً كان إسمها، وأوابدها شاخصة وموجودة وشاهدة رغم ظلم حكامها ورغم الحروب والقتل الذي إرتكبوه، فلدينا حضارة معمارية لا نستطيع إنكارها، وثقافية وأدبية وعلمية وشعرية، والكثير الكثير، فلست معنياً بخصومات أحد وتحويل مقصدي من تاريخ جمعي إلى تخصيص معين بالتاريخ السياسي، فلست من أنصار اللعن والشتم، ولا هي من أدبياتي وثقافتي وتربيتي، فكل ما رميت له يتمحور حول الإنجازات الحضارية الإنسانية فقط لا غير.
وأقول لكل من يشكك بالتاريخ، يشكك بإسناد القرآن الكريم، وبالسنة النبوية فإنه يشكك بسيرة المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم، وبأقواله، وبالتالي هو يهدم الركن الثاني في الإسلام، فالإسلام كله محفوظ بالسند العلمي، لذلك لا أحد يستمع للروايات الضعيفة والمشكوك بها، فمن يفقه ويفهم لا يروي إلا بالسند العلمي الصحيح، ولا يدلّس أو يكذب على تاريخنا وعلمائنا، وعلى جيل رباه النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ولا يهدم ما بناه الأجداد، الذين بهم أفخر وبالتاريخ أفخر وبالعلماء المسندين للقرآن نعتز بهم وأجيال نقل الحديث من الصحابة والتابعين وتابع التابعين أيضاً.
د. عبدالعزيز بن بدر القطان – كاتب ومفكر