عندما يكون الأديب نتاج الحارة البسيطة ولسان حال المستضعفين والفقراء وابن البيئة الشعبية البسيطة، يبدع أيّما إبداع، ينصهر مع مجتمعه البسيط دون قيود أو تكلف وسط الكثير من المبالاة لحالهم، شخصيتنا اليوم هي نتاج الحارة المصرية بكل ما فيها وبكل تفاصيلها، الحارة والجيران والأشياء تشكّل ملكات المبدع أدباً وكتابةً نثراً وشعراً، عبد الحميد جودة السحار، عاشق الحكاية الذي سنحاول الإضاؤة على سيرته انطلاقاً من تفاصيل حياته الثرية التي عايشها في حارة بحر وشارع الجراية بالقاهرة.
الأديب السحار من أهم الأدباء الذين كانوا على الساحة في زمانه، وأحد أهم أعمدة الرواية العربية، كما يُعتبر الأديب عبد الحميد جودة السحار من رواد كتابة القصة في مصر، وقد عشقها منذ الطفولة، بدأ رحلته الأدبية مثل غالبية أبناء جيله بكتابة القصة القصيرة من خلال مجلتين بارزتين هما مجلة “الرسالة” التي كان يصدرها المفكر أحمد حسن الزيات، ومجلة “الثقافة” التي كان يصدرها الأستاذ أحمد أمين، ولعل شغفه بالكتابة كان الملهم لفتح المكتبة الخاصة به وشقيقه المترجم سعيد جودة السحار، عام 1932، وأسمياها “مكتبة مصر” التي كانت الناشر الرسمي لأسماء كبيرة لسنوات طويلة، وكان الهدف منها إثراء الحركة الأدبية بالعديد من الكتب والإصدارات، ووفقاً للقرّاء من مصر، يمكن التعرف على منشورات الدار بمجرد رؤية الأغلفة التي كان يرسمها جمال قطب وارتبطت بذاكرة القراء وجاءته فكرة “مكتبة مصر” بعد أن نجحت فكرته في تأسيس لجنة النشر للجامعيين التي تولت تقديم كتاب هذا الجيل، فلا عجب أنه ورفاقه نجيب محفوظ ومحمد عبدالحليم عبدالله ويوسف السباعي ويوسف إدريس أسسوا فن الرواية وعمّقوا حضورها في المجتمع، كما السينما والأفلام الرائعة لكن أرقاها وأحبها إلى قلبي فيلم “الرسالة “للمبدع الراحل “مصطفى العقاد”، وأم العروسة.
من هو عبد الحميد السحار؟
ولد عبد الحميد جودة السحار عام 1913في القاهرة لعائلة تعمل بالتجارة والتحق بكلية التجارة وتخرج منها عام 1935 بجامعة فؤاد الأول وكان له عشق وحب ونهم بالأدب، مما ساهم في إثراء عقله الثقافي المتنوع جلوسه مع أبيه في مجلس أدبي كان يعقد يوماً في الأسبوع جامعاً فطاحل الفكر والأدب من كل رياحين المعرفة. قام السحار بإصدار أول انتاج أدبي له و هو (أحمس بطل الإستقلال) عام 1943 وهو في سن الحادي والثلاثون من عمره ثم توالت أعماله العظيمة من خلال روايات ومجموعات قصصية قصيرة أفاضت لنا أصالة هذا الأديب العريق، نشأ السحار في بيت من التجار يخرجون في الصباح ويغلقون محالهم مع أذان المغرب ثم يقضون أوقاتهم في سلاملك البيت، استمع فيه إلى أيام عميد الأدب العربي طه حسين والمنفلوطي وعلى هامش السيرة، فأحب القراءة والأدب. كانت جل أحاديثهم تدور حول الفن والغناء والسينما والقرّاء والمشايخ وأخبار الحارة، فيتناقشون حول عبده الحامولي وألمظ، وتحليل صوت منيرة المهدية، ويحتدم الصراع حتى يسمعون السيدة أم كلثوم، فيسود الصمت طرباً، عادة ما تتبادل الأخبار وأحوال الجيران في هذا المكان، فاستلهم السحار قصصه من هذه الأخبار، فكانت أول أقصوصة منشورة له مؤخوذة عن أحد جيرانه بعنوان ساخر “رجل البيت”، تحكي عن سيدة متحكمة متسلطة تتحكم في إدارة البيت بينما زوجها ضعيف لا يقوى على صدها. الجدير بالذكر أن السلاملك في ذاك الوقت هو ذاك الجزء من قصور الدولة العثمانية وبيوتها المخصص لاستقبال الضيوف من الرجال، بخلاف السراي التي كانت مخصصة على أسرة الحاكم العثماني والحريم.
يعتبر الكاتب عبدالحميد جودة السحار، أحد أهم الأدباء في العصر الحديث بمصر، إذ تنوعت كتاباته بين القصص القصيرة والتاريخية والأعمال الفكرية والدراسات والكتب الإسلامية، فقد أشار السحار في كتابه “القصة من خلال تجاربي الشخصية” إلى أنه “لو كانت القصة تُقاس بحبكتها وموضوعها، لكانت الحوادث التي تسردها الصحف كل يوم متفننة في عرضها قصصاً فنية، ولكنها بعيدة عن ذلك؛ لأن عنصر الحياة ينقصها”، فمن المعروف أنه عاش في عصر كانت مصر متعددة الأوجه ما بين نهوض السياسة والأدب والفن، من الملكية إلى الجمهورية وما بينهما فترة الاستعمار، فكل هذه العوامل أعطت زاداً للأديب الكبير للإبحار في عالم الأدب، ففي تلك الظروف السياسية والاجتماعية التي عاشها السحار، توجه إلى التاريخ كمصدر لرواياته في محاولة لإعادة النظر إليه وفهم دوافع من صنعوه، فكتّب قصته الأولى “أحمس بطل الاستقلال” سنة 1943، ثم روايته الثانية “أميرة قرطبة”، لكنه ينبه في كتابه – الذي أشرنا إليه- إلى أنه كلما انتهى من كتابة قصة واقعية، فإنه يحسّ بحنين إلى كتابة “قصة تاريخية لأسمو عن عالم الواقع وأبعد عنه وأعيش في الخيال، فللخيال سحره وروعته، ولقد كنت أقاوم هذه الرغبة وأتهم نفسي بأنني أحاول أن أهرب من واقع حياتنا كما يحاول أن يهرب السكير من واقعه الذي يضنيه..”، فالواقع فرض نفسه، إذ كتب السحار من الواقع الذي كان يعيشه، فكتَب العديد من القصص التي تصوّر المرحلة التي عاشها تحت الاستعمار البريطاني، كما في قصة “قلعة الأبطال” التي تصوّر الصراع بين الشعب المصري وبين القصر زمن ثورة عرابي في وجه الخديوي توفيق، حيث تتبّع أحداث المقاومة الشرسة التي خاضها عدد من الجنود في “طابية صالح” واستطاعوا إعاقة دخول الجيش البريطاني لميناء الإسكندرية، فقد كان السحار من أوائل الذين دعموا ثورة 1952 إبداعياً في مصر، وكان ضمن الذين أسهموا في عمل نشيد “القوات الجوية المصرية”، ونشيد “القوات البحرية المصرية” مع عمل فيلمين سينمائيين هما “شياطين الجو” و”عمالقة البحار”.
انتقل السحار بعد ذلك لصياغة مشروع يقوم على إعادة كتابة تاريخ السنة النبوية سردياً بشكل قصصي رائع، ومن هذه المؤلّفات “أبو ذر الغفاري”، و”بلال مؤذن الرسول”، و”سعد بن أبي وقاص”، و”أبناء أبو بكر”، و”محمد رسول الله والذين معه”، والتي تحوّل بعضها إلى مسلسلات تلفزيونية، كما قدم أيضاً روايات إسلامية للسينما منها “نور الإسلام” الذي كتب له السيناريو والحوار بالاشتراك مع صلاح أبوسيف مخرج الفيلم، كما شارك في سيناريو فيلم “الرسالة” بالاشتراك مع توفيق الحكيم وعبدالرحمن الشرقاوي، ففي إعادته لكتابة تاريخ السيرة النبوية، نعلم كثيراً أن كثر من كتب وخاض هذا المجال، لكن قلة من أوصلوها محافظةً على الروح الإسلامية والمحببة إلى قلوب القرّاء، فالمميز يعرف كيف يحرك قلمه ويجيد التحكم فيه، فقد انتبه السحار مبكراً إلى الأثر الذي تركته إسلاميات عباس العقاد وكتاب محمد حسين هيكل في “منزل الوحي”، إلى جانب محاولات طه حسين لكتابة وقائع التاريخ الإسلامي في أعمال مثل “الفتنة الكبرى”، و”الوعد الحق”، وبسبب هذا الميل إلى سير الصحابة والأولين، واجه بعض الانتقادات من قبل بعض النقاد الذين اتهموا أفكاره بالرجعية، في حين لم يكن انحيازه لكتابة الإسلاميات تعبيراً عن تعصب ديني بدليل أنه كتب أيضاً عن المسيح عليه السلام، ولكن على المقلب الآخر هناك من احترم عمله وقدّره بكل حب وود، ففي عام 1943 أصدر الأديب عبدالحميد السحار كتاب “أبو ذر الغفاري” وقدم له مرشد الإخوان حسن البنا الذي قال مشيداً: “إنه بحث علمي دقيق، ولاعجب فأبرز الأفكار الاشتراكية موجود في الإسلام”، بعد ثورة يوليو أعيد طبع الكتاب عبر سلسلة الهلال الحكومية، بعنوان جديد “أبو ذر الاشتراكي الزاهد”.
رغم ذاك النقد إلا أن الله منّ عليه من واسع أبوابه، فلا تزال (قصص الأنبياء) خير مرجع لكاتب غير مُتخصص استشهد له المتخصصون بتمكنه في سرد القصص الديني، وقد توج السحار براعته في هذا المجال من خلال سلسلته الرائعة (محمد رسول الله و الذين معه) مُجسداً عظمة الإسلام منذ نشوءه و ظهوره حتى الخلفاء الراشدين، بالتالي، إن نظرة كلية في مستوی الانطباع لأعمال عبد الحميد جودة السحار في الرواية تجدها تتوزع بين الرواية الواقعية الوصفية المستوفية الشروط التي تغوص في واقع وتفاصيل الحياة الشعبية في المدينة وتقدم نماذج إنسانية من مجتمع التجار والموظفين والحرفيين والصعاليك، غير أن السحار كان يهتم بالبعد والحس الديني الأخلاقي في رسم شخصياته. يكتفي بوصف الملامح والسمات الخارجية دون تغلغل في النفوس والخبايا ..وهم يهتم بالحدوته والحبكة، ويمكن اعتبار منهجه الروائي هو المنهج التقليدي في رسم الشخصية وتقديم الحدث، كما يحرص السحار في أن يطبق الأعمال والأخلاق القرآنية في أعماله، كما حظيت الأمور الاجتماعية باهتمامه فعالج مشاكل الأسرة وكذلك المرأة، والطفل.
يقول السحار عن كابته للسيرة النبوية: (وما أردت بكتابة هذه السيرة في هذا العصر الذي طغت فيه المادة إلا أن أعرض حقبة مشرفة من تاريخ البشرية ارتقى فيها الإنسان حين أسلم وجهه لله ورفع عبادته من الطبيعة..)، بالتالي، يرى السحار أن كتابة القصص الديني تستلزم قدراً من الروحانية، والشعور بصدق ما يُكتب، وأنه في كثير من كتاباته الإسلامية وقصصه الديني التزم خيطاً واحداً ناظماً مفاده أنه ليس هناك نهضة مادية دون أن تسبقها نهضة روحية.
يرى السحار أن الحياة أهدته أكثر مما كان يتمنى، فقد كان حلمه أن يصبح مثل زكي الذي يرتدي زي البهلوان ويركب الحصان ويحمل مسدساً، ولم يحلم يوماً أن يزين اسمه شاشات السينما والتلفزيون، فأصبح كاتباً لأهم أفلام السينما المصرية، مثل “أم العروسة” الذي ينضم إلى قائمة أهم مئة فيلم في تاريخ السينما المصرية، ومسلسل “محمد رسول الله” من أهم المسلسلات الدينية التي عُرضت على شاشة التلفاز فترة الثمانينيات، وأصبح رئيس تحرير مجلة السينما في فترة السبعينيات، وأنتج عدداً من الأفلام حتى وفاته في 1974، لكن رغم أهمية أعمال السحار الروائية التي تحولت إلى أفلام مميزة أو إرثه من القصص الديني للكبار والصغار، لم يلق السحار الشهرة نفسها التي نالها نجيب محفوظ، رغم كونه الناشر الأول والأبرز لأعمال نجيب محفوظ، والتحاقه بالمدرسة نفسها، ومعايشته أجواء البيئة المصرية نفسها بحاراتها وأزقتها وأحيائها الشعبية. يرجع بعض النقاد أن وجودهما في المرحلة نفسها أثّر سلبياً على أعماله الأدبية، فلم تنل ذات الحظ من الشهرة مقارنة بحجم أعمال محفوظ الذي سطع نجمه فأصبح هو الأشهر من بين أبناء جيله كالسحار وعادل كامل.
نتاج السحار غزير، فهو أحد أهم المؤلفين من كتّاب الرواية والتي حولت إلى السينما والتلفزيون العربي، عبد الحميد جودة السحار اسم له قيمة وقام في الرواية العربية الحديثة بشكل ممتاز ومميز، كما تنوعت كتابته بحضور قوي بالكتابات التاريخية الخاصة بالتاريخ والشخصيات الإسلامية، كما ذكرنا آنفاً “أم العروسة، والحفيد، عمر بن عبد العزيز، المسيح عيسى بن مريم، أمير قرطبة، المستنقع، الشارع الجديد، من القصص الديني للأطفال، أرملة من فلسطين، الشارع الجديد، القصة من خلال تجاربي الذاتية، النصف الآخر، جسر الشيطان، صدى السنين” وغير ذلك، كما أثرى السحار المكتبة الإذاعية في إذاعة القاهرة، كذلك التلفزيون والسينما، وشخصياً قرأت الكثير من رواياته، من مكتبة والدي رحمه الله، وفي كل مرة زرت مصر فيها في السنوات القليلة الماضية كنت حريصاً على انتقاء بعضاً من كتبه في كل زيارة، فهو ذكي وفطن وشخصياته قريبة منه، ولا عجب فهو ابن المرحلة الجميلة وعاصر عمالقة الأدب، فهو صادق بالروايات وبالتأريخ وصدقه قلّ نظيره.
من هنا، السحار تأكيد على الصلة الممتدة بين الفن والإنسانية، إن من أعماق النفس وأغوار الحياة ينبع الصدق في الفن، فالفن يستمد حرارته من نبضات القلب الإنساني، فقد كتب حياته بأشكال مختلفة، بالكلمة كمؤلف، وبالصورة كسيناريست، وبالدعم المادي كمنتج، بكل تلقائية وببساطة كما وصفه غالي شكري، لم ينفك عن حالته الروحانية كطفل فتح عيونه على العالم على كتف ابن ندابة واستقى من حكايات جدته وحرص أبيه على الدين كتاباته في القصص الديني، فكان حبه للقص والحكي هو الدافع لأن يصب عنده مجرى السينما والدين.
عبدالعزيز بن بدر القطان / كاتب ومفكر – الكويت.