في إطار حربها الشاملة على الشعب العربي الفلسطيني والقضية الفلسطينية، تبتدع سلطات الاحتلال دائمًا المزيد والمزيد من سياسات التطهير العرقي ضد الفلسطينيين التي تشتمل من ضمن ما تشتمل عليه المحارق والمجازر الجماعية والتهجير -الترانسفير- الجماعي لأكبر عدد ممكن من الفلسطينيين، في الوقت الذي تشن فيه حرب إبادة سياسية ضد القضية والملفات والحقوق الفلسطينية، كي يتسنى لها في نهاية الأمر الإجهاز عليها وتثبيت اختراع وبقاء واستمرار ذلك الكيان لأطول مدة زمنية ممكنة. وفي هذا الإطار والسياق التطهيري الإبادي؛ ابتدعت الدولة الصهيونية ما يمكن أن نطلق عليه “فلسفة العقوبات والاعتقالات والمحاكمات الجماعية”؛ الرامية إلى تفكيك وتهميش واضعاف صلابة جدران المجتمع الفلسطيني المقاوم.
وفي هذا السياق الاعتقالي، جاء في بيان لمؤسسات الأسرى وحقوق الإنسان الخميس – بوابة الهدف- الخميس 11 /11/2020: “إنّ “قوات الاحتلال الإسرائيلي واصلت عمليات الاعتقال بحق الفلسطينيين، حيث وصل عدد المعتقلين خلال شهر تشرين الأول/ أكتوبر الماضي 446 مواطنًا، من الأرض الفلسطينية المحتلة، من بينهم 63 طفلاً، و16 سيدة”، بينما كان مركز فلسطين لدراسات الأسرى أكد بأنه رصد (30 ألف) حالة اعتقال لفلسطينيين من كافة الشرائح منذ اندلاع “هبة القدس ” في الأول من أكتوبر لعام 2015، وقال الباحث “رياض الأشقر” مدير المركز أن الاعتقالات أضحت ظاهرة يومية يستخدمها الاحتلال كأداة من أدوات القمع، والعقاب الجماعي لمحاربة الشعب الفلسطيني، حيث لا يمر يوم إلا ويُسجل فيها حالات اعتقال في عملية استنزاف بَشرى متعمد. وذكر أنه من بين حالات الاعتقال خلال هبة القدس (5700) حالة اعتقال لأطفال قاصرين، و(900) حالة اعتقال لنساء وفتيات بعضهن جريحات وقاصرات، و(1000) حالة اعتقال على خلفية التحريض على مواقع التواصل الاجتماعي الفيسبوك – وكالة معا: 05/10/2020، في حين اعتقلت سلطات الاحتلال الإسرائيلي أكثر من 120 ألف فلسطيني منذ اندلاع انتفاضة الأقصى (الانتفاضة الثانية)، في 28 أيلول/ سبتمبر عام 2000، بحسب ما أعلنت هيئة شؤون الأسرى والمحررين التابعة لمنظمة التحرير الفلسطينية: 28/09/2020″.
ووفق تقرير عن الأسرى الفلسطينيين، فإنه لم تعد هناك عائلة فلسطينية إلا وتعرض أحد أو جميع أفرادها للاعتقال، وهناك من تكرر اعتقالهم مرات عديدة، حتى أن “الاعتقال والسجن والتعذيب” أضحت من المفردات الثابتة في القاموس الفلسطيني، وجزءًا من الثقافة الفلسطينية.
تستهدف دولة الاحتلال من وراء الاعتقالات الجماعية التضييق على المناضلين المقاومين والانتقام منهم ومن شعبهم، ومحاولة إذلالهم وإفراغهم من محتواهم الوطني والثوري وقتلهم ببطىء شديد نفسيًا ومعنويًا، وإن أمكن جسديًا أو توريثهم لبعض الأمراض، لتبقى تلازمهم داخل الأسر أو لما بعد التحرر، وتحويلهم إلى عالة على أسرهم ومجتمعهم. وقد نظّر أبرز قادة دولة الاحتلال أيضًا إلى العقوبات الجماعية المتنوعة الشاملة ضد الشعب العربي الفلسطيني، وإلى الاعتقالات والمحاكمات بالجملة التي شملت كافة أبناء الشعب العربي الفلسطيني، وذلك في إطار سياسة قمعية صريحة، تستهدف النيل من مقومات وروحية الصمود والبقاء على الأرض لدى أبناء شعبنا وأهلنا هناك.
فمنذ البدايات الأولى للاحتلال الإسرائيلي أعلن موشيه ديان وزير الحرب آنذاك معقبًا على انتهاج سياسة الاعتقالات والمحاكمات بالجملة: ” سوف تخرج السجون الإسرائيلية معاقين وعجزة يشكلون عبئاً على الشعب الفلسطيني”، وهي السياسة التي انتهجتها تلك الدولة بصورة مكثفة واسعة النطاق خلال سنوات الانتفاضة الفلسطينية الكبرى الأولى 1987-1993، لدرجة أن الاعتقالات الجماعية طالت حسب المصادر الإسرائيلية والفلسطينية على حد سواء ما بين 750 – 850 ألف فلسطيني على مدى سنوات 1967-1987 ما دعا اسحق رابين وزير قمع الانتفاضة في حكومة اسحق شامير آنذاك إلى الإعلان أمام مؤتمر رؤساء المنظمات اليهودية: “أن الانتفاضة هي مواجهة بين كيانين، ودليل ذلك هو العدد الكبير جدًا من المعتقلين الفلسطينيين”، مشيرًا إلى: “أن حل مثل هذا الصراع لن يكون إلا بواسطة سياسة عسكرية مشتركة”، مؤكدًا في ختام كلمته على: “أنه طالما هناك انتفاضة سيبقى كتسيعوت”، مشيرًا بذلك إلى معسكرات الاعتقالات الجماعية للفلسطينيين، والتي كان من أبرزها معسكر كتسيعوت في صحراء النقب؛ الأمر الذي كشفت النقاب عن أبعاده مصادر إسرائيلية عديدة أشارت قائلة: “بدون مبالغة يمكن القول بأن الفئات الهامة من بين الطبقات الفاعلة في الانتفاضة الفلسطينية، أو على الأقل الجزء الأكبر منها، قد مرت عبر معسكر “أنصار 3 ” في النقب الذي تحول إلى فرن صهر وطني فلسطيني؛ يصهر ويبلور الكوادر الحية للانتفاضة”.
فسياسة الاعتقالات والمحاكمات الجماعية ومعسكرات الاعتقال كانت إذن منذ البدايات الأولى للاحتلال جبهة مفتوحة ساخنة قمعية إرهابية، أريد من ورائها القمع والقتل المعنوي والجسدي، ودفن المناضلين الفلسطينيين وهم أحياء، وقتل معنويات الشعب العربي الفلسطيني وشل حركته باعتقال قادته ونشطائه ومناضليه على أوسع نطاق ممكن، وقد وصلت هذه السياسة الاعتقالية ذروتها خلال الانتفاضة الأولى، واستمرت خلال انتفاضة الاقصى/2000، وتواصلت حلال انتفاضة السكاكين ثم خلال انتفاضة البوابات الالكترونية المقدسية، وما تزال متصلة حتى كتابة هذه السطور، وليس من المنتظر أن تتوقف إطلاقًا طالما بقي الاحتلال، فـ ” طالما هناك احتلال وقتل.. طالما هناك انتفاضة ومقاومة.. وطالما هناك بالتالي “كتسيعوت ” كما قال رابين”.
غير أن معاناة الشعب الفلسطيني لا تتوقف عند حدود الاعتقالات والمحاكمات الجماعية، واعتقال أكثر من مليون فلسطيني، وإنما تمتد إلى كافة مجالات الحياة الاجتماعية والتعليمية والاقتصادية؛ فنحن نقرأ الاجماع السياسي الإسرائيلي هناك وراء: “الموت للعرب”، و”فليضرب السجناء القلسطينيين حتى الموت”، و”لن يعالج أي سجين مضرب في المستشفيات الإسرائيلية”، ولنعود بالتالي إلى بديهيات الصراع الموثقة على لسان رابين بأنه “صراع بين كيانين”، ولذلك أيضًا ليس غريبًا حسب تصريح بالغ الأهمية للسفير البلجيكي-سابقًا- لدى “إسرائيل” ولفريد جينز، قال فيه: “حولت إسرائيل الضفة الغربية وقطاع غزة إلى أكبر معسكر اعتقال في العالم”، وذلك بغية تحقيق أهم وأخطر هدف لسياسة البلدوزر الصهيوني وهو “الإبادة السياسية للشعب الفلسطيني”. ولعلنا نثبت في ضوء كل هذه المعطيات حول فلسفة الاعتقالات الجماعية الاحتلالية وحول الحركة الأسيرة الفلسطينية ومسيرة النضال والدم والألم والمعاناة والبطولة للأسرى الفلسطينيين، وفي ضوء معطيات المشهد الفلسطيني كله على امتداد خريطة الأراضي المحتلة التي حولها الاحتلال إلى أضخم معسكر اعتقال على وجه الكرة الأرضية: “إن فلسطين تدق على جدران الصمت والعار والتطبيع العربي، وتعلن حاجتها الملحة والعاجلة جدًا إلى أزمة ضمير وأخلاق ومواقف وطنية وقومية، وليس إلى بيانات واستعراضات، وتعلن حاجتها إلى من يتطلع إلى الحقول الخضراء في إنسان يحصد قمح حريته منذ أن حل الاحتلال ولم يتعب”.
نواف الزرو- كاتب صحفي وباحث خبير في شؤون الصراع العربي – الصهيوني .