في المملكة المتحدة كما في غيرها، تطور النظام القضائي تبعاً للتطور الحضاري العام، ففي بداية نشوء بريطانيا منذ القرن السادس، كانت الشريعة التي يقضي القضاة الإنكليز بموجبها، مجموعة التقاليد التي أرشد إليها العقل والمبادئ العدلية.
ومن المعروف أن القضاء كان بيد ذوي الأملاك الكبرى، وكان كل شخص ما عدا العبد مسؤولاً أمام القضاء والشريعة عن كل خلل في الأمن، وكانت وسيلة الإثبات إما الشهود على البراءة، أو التحكيم الإلهي، ومنها أن يمسك المشكو منه بيديه قطعة حديد محمية جيداً، فإن لم يؤذ عُدَّ بريئاً، وإن أوذي عُدَّ مجرماً، وفي مثل هذا الوضع لا يتصور تلمس أحكام قضائية تشير من قريب أو بعيد لحقوق الإنسان، أي أنه مع تدرج الحكم في بريطانيا وتاريخها الطويل بإتجاه ديمقراطي، كان يتدرج القضاء في تطوره.
وعرفت بريطانيا كغيرها من الشعوب خلال تطورها فترات إدّعاء الملوك بحقهم الإلهي، وفي مثل هذه الفترات لم يضمن قاضٍ البقاء في منصبه إذا لم يقضِ حسب مصلحة الملك ورغبته.
ومع تطور الزمن تقلصت سلطة الملوك وتدعمت سلطة البرلمان والقضاء، ووجد خلال فترات من التاريخ متعاقبة في بريطانيا، قضاة كبار كان لهم دورهم في إرساء مفاهيم حقوق الإنسان ومبادئ العدالة في نطاق الحرية والكرامة، وقد تشكلت من أحكامهم وآرائهم سوابق لا تزال مثالاً يحتذى به.
ومنذ العهد الأعظم يشار في التاريخ القضائي البريطاني إلى أمثال هؤلاء القضاة ورجال القانون ومنهم على سبيل المثال، هني براكتون الذي كتب في رسالة عن قوانين وأعراف إنكلترا أنه: (لا ينبغي أن يخضع الملك لأحد، ولكن لمشيئة الله والقانون).
ومن المعروف أيضاً في تاريخ بريطانيا القضائي أنه كانت توجد محكمة تسمى “محكمة النجم”، وكانت أداة فعالة لتقييد سوء إستعمال السلطة وكان اسمها الحقيقي (المجلس المخصوص المنعقد في محكمة النجم)، وقد سميت محكمة غرفة النجم نظراً لأن سقف المحكمة كان مرصعاً برسوم نجوم ذهبية وكان يطلق عليها في كل المدونات اللاتينية أعظم المحاكم توقيراً، وقد مددت إختصاصها إلى كل الجرائم التي لم يعالجها القانون العام، وكانت لها وسائلها الخاصة في العقاب مثل الآلة القاصمة والجَلد وقطع الأذنين وغير ذلك.
من هنا، يبدو أن شعب بريطانيا يثق بالقضاة وتعود ثقته لأكثر من 300 سنة رغم ما حدث في تلك الفترة من حوادث فساد وإستغلال طالت كبار المسؤولين، ويبدو أنه ليس للمحاكم التدخل في سلطة الوزير التقديرية رغم إنتقاد بعض كبار القضاة لهذا الإتجاه وتأكيدهم على وجوب أن تكون المحكمة (يقظة للتحقق من عدم تجاوز السلطة التقديرية أو عدم التعسف في إستعمالها).
أخيراً، هناك تباهٍ واضح حول أهمية القضاء في بريطانيا، وقال تشرشل عقب الحرب العالمية الثانية: “طالما أن القضاء الإنكليزي بقي بخير فإنه لا خوف على بريطانيا”.
د. عبدالعزيز بن بدر القطان